الذكرى الخامسة لإضراب عمال المحاجر والمناجم (يونيو 1994).. عندما قادت نقابة عامة إضرابا عماليا

Posted: 23 أوت 2010 in كتابات سياسية, خبرات نضالية, عمال وجماهير
الوسوم:, , , ,
يونيو 1999

لم يكن محمد الرزاز وزير المالية السابق يعلم أن العمال الذين اعتادوا على تحمل الحياة الشاقة في المناجم قادرون على لطمه هو وحكومته ودولته بكف ثقيل اعتاد على التعامل مع صلابة الجبال وسخونة جوف الأرض. ففي صباح 29 يونيو 1994 نفذ 25 ألف عامل مناجم إضرابهم التحذيري ردًا على رفض وزير المالية صرف مستحقاتهم بحجة أن صندوق النقد الدولي حذر من قطع منحه وقروضه في حالة الاستمرار في دعم المشروعات العامة.

أسباب ومقدمات الإضراب:

تحت ضغط النقابة العامة لعمال المناجم والمحاجر، وبعد رحلة طويلة بدأت من أوائل السبعينات، اضطرت الحكومة في عام 1980 إلى قبول تحمل الأعباء المالية الناتجة عن جذب العمالة للعمل بالجبال وتحت سطح الأرض في مناطق نائبة. وفي أبريل عام 1981 صدر القانون رقم …… وأقر بتخصيص 27 مليون جنيه. ولكن مع تزايد حجم الأعباء وزيادة الأسعار ارتفع المبلغ إلى 40 مليون جنيه يتم دفعهم بواقع 10 مليون كل ثلاثة أشهر على مدار العام. ونفذت الحكومة والتزمت لتحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية والتعميرية. ولكن في بداية العام المالي 92/93 توقفت وزارة المالية عن صرف ذلك المبلغ، استنادا إلى صدور القانون 203 لسنة 91 والمعروف باسم قانون قطاع الأعمال العام. وبعد الضغط المتواصل من النقابة أعيد الصرف، حتى توقف تمامًا بعد سداد أول قسط في العام المالي 93/94. ومنذ أول أكتوبر 93 بدأت تتفجر المشكلة. رفعت النقابة مذكرات إلى كل المسئولين حتى وصل الأمر لرئيس الجمهورية الذي لم يعره أي انتباه، وهكذا فقد تصورت الدولة أن عمال الجبال والصخر والديناميت ستجرف حقوقهم قوة صمت وتجاهل بهوات القصور.

في 29 مايو 1994 اجتمعت الجمعية العمومية للنقابة العامة وقررت في جلستها تفويض مجلس إدارة النقابة في اتخاذ الإجراءات اللازمة للحصول على حقوق العمال. وكان الإجراء الوحيد وقتها، بعد استنفاذ كافة الطرق وطرق كل الأبواب، هو إعلان الإضراب العام التحذيري حتى يتم إجبار ممثلي الدولة على الدخول في مفاوضات يكون للعمال فيها اليد الأقوى.

كان هذا القرار تاريخي بمعنيين. الأول: أنه صادر عن واحدة من النقابات العامة التي يفترض أنها جزء من التسلسل الهرمي للاتحاد العام المعادي لمصالح العمال والتحالف مع دولة رأس المال. إذ تعد سابقة أولى في تاريخ هذا الاتحاد منذ تأسيسه في عام 1957 أن تعلن أحدى النقابات العامة التابعة له إضرابًا جاء معبرًا عن حاجة هؤلاء العمال لإجبار الدولة على الرضوخ لمطالبهم.

أحوال عمال المناجم:

بالفعل كان توقف صرف المبلغ المتفق عليه كالقشة التي قصمت ظهر البعير. فأحوال عمال المناجم على المستوى المادي والمعيشي والصحي مزرية للغاية. أجور هؤلاء العمال لا تتعدى 170 جنيهًا أحسن الأحوال، كان يضاف إليها – قبل قرار الوزير – بدل وجبة يوازي حوالي 100 جنيه، بالإضافة إلى بدل طبيعة عمل بواقع 50% من الراتب الأساسي بتراوح بين 30 إلى 80 جنيه شهريًا. ولكن بعد توقف صرف الدعم كان على العمال العيش في حدود الـ170 جنيهًا! الجدير بالذكر هنا أن الميزات المسحوبة كانت فقط للعمالة الدائمة. أما العمالة المؤقتة الموسمية فعليها تدبير أمورها، وإلا فالبديل هو الانضمام لجيش البطالة.

كان على العمال، الذين جلبتهم شركات التعدين والمحاجر منذ أوائل هذا القرن من محافظات الصعيد مع بداية التطور الرأسمالي، قبول تلك الأوضاع المهينة أو الموت جوعًا في نهاية نفس القرن. فحتى الدعم المنتزع لم يكن يساوي شيئًا أمام مخاطر ومشقة العمل داخل المناجم التي أحيانًا تمتد تحت الأرض ب 1000 متر وبعرض ثلاثة أمتار وارتفاع لا يتجاوز مترًا ونصف. لقد علق أحد العمال على رفض الرزاز صرف مبلغ الدعم قائلاً: هاتوه لينا ونزلوه المنجم، ها يعرف ساعتها أننا نستحق مش ساعة واحدة.

ولنرى معًا مثل عن الحياة تحت الأرض، منجم رقم 5 بأم الحويطات بالبحر الأحمر على بعد 880 كيلو متر جنوب شرق القاهرة. درجة الحرارة به 45 مئوية ونسبة الرطوبة تزيد على 85%. قوة عمل المنجم تتكون من عشرين عاملاً ما بين عامل عبوة وآخر للتتقيب وثالث للتحميل والجر بمواتير. مطلوب من هؤلاء 80 طن فوسفات يوميًا، ولا خروج من المنجم قبل خروج الـ 80 طن!

مرضى بكل شيء تقريبًا: انزلاق غضروفي. فالأصل لديهم هو الانحناء، ضعف إبصار فالضوء الوحيد المستخدم بطارية محمولة، 35% من العمال مصابون بالتحجر الرئوي و12% يخرجون معاشًا مبكرًا بالعجز الكلي. الإصابة بالاختناق شيء عادي جدًا، موت أحد العمال أثناء التفجير.. شيء معتاد، انهيار المنجم على رءوس العمال.. حدث ولا حرج. لا توجد لديهم إسعافات أولوية، مستشفى الشركة ليس بها أطباء متخصصون، حتى الكشف الدوري لا يتم إخبار العمال بنتائجه. أما عن بيوت هؤلاء العمال فهي بدائية للغاية ومبنية بالطوب “الدبش” وسقوفه بالكراتين والأجولة البلاستيك والخيش، لم تدخلها الكهرباء إلا حديثًا وتصلح كمأوى للعقارب والثعابين، المياه تصل من قنا ولكل عامل معدل صفيحة واحدة يوميًا يقضي بها كل حاجاته.

أحداث الإضراب:

كل تلك الظروف البائسة دفعت عمال المناجم والمحاجر لإعلان صوتهم رفضًا لتحميلهم عبء أزمة الاقتصاد وسياسات أصلاحه، ودفعتهم لعدم التنازل عن قرار الإضراب، أو الرضوخ لتهديدات الأمن وألا عيب تفتيت قوتهم التي حاول عدد من المسئولين التحايل بها.

بالفعل نجحت حالة الحشد والتعبئة التي قامت بها النقابة العامة، ومعها اللجان النقابية، لعمل إضراب تحذيري ناجح أجبر الحكومة المنفذة لسياسات رأس المال، في نهاية المطاف، على الرضوخ. فقد استيقظت الدولة صبيحة يوم الأربعاء 29 يونيو 1994 لتجد 25 لجنة نقابية تضم ما يقرب على25 ألف عامل موزعين على عشر محافظات، ملتزمين بقرار النقابة العامة بالإضراب العام التحذيري والذي أستمر لنهاية اليوم التالي: الخميس 30 يونيو.

وما أن بدأ الإضراب حتى تحركت جحافل قوات الأمن لتحاصر مقر النقابة العامة ومقار اللجنة النقابية وأماكن اعتصام وإضراب العمال. في حين ظلت الحكومة، ممثلة في وزير المالية، رافضة للاستجابة لمطالب العمال. وانتهى الإضراب بدون تحقيق المطلب للعمال.

ولكن اندلاع عدد من الاحتجاجات الأخرى في الأيام التي تلت الإضراب زاد من قوة الإضراب العام ودفع الدولة في النهاية للرضوخ. مثلاً في محاجر الشرقية أضرب وأعتصم حوالي 1300 عامل يوم الأحد 3 يوليو أثر صدور قرار من المحافظ بتفكيك المحاجر ونقل تبعيتها للمراكز التابعة لها.

النقابة والوزارة والإضراب:

كانت خطة النقابة العامة هي إعطاء الدولة مهلة أسبوعين بعد الإضراب التحذيري للتفاوض، بعدها يدخل عمال المناجم إضرابًا عامًا مفتوحًا. وبدرجة كبيرة تحققت الخطة. إذ أدى الإضراب التحذيري، والاحتجاجات التي تلته إلى رضوخ الدولة. ففي الأسبوع الأخير من يوليو، وافق الرزاز على صرف المبالغ المستحقة لدعم عمال المناجم والمحاجر بعد مفاوضات مضنية. وقبل ذلك كان محافظ الشرقية تراجع عن قراره بتفكيك المحاجر.

علق أحمد العماوي الوزير القذر للقوى العاملة والرئيس السابق لاتحاد العمال العام، والمعبر عن سياسات الدولة تجاه العمل، على الإضراب بقوله: “إن الإضراب الذي يريدونه خراب محقق.. فإذا أضربت شركة تعدين مثلاً، هل تعرف حجم الخسارة التي تسببها الشركة، ربما تظل تعاني من الإضراب عشر سنوات قادمة على الأقل”. ولكن محمد فؤاد دراهم رئيس النقابة العامة لعمال المناجم والمحاجر كان يتبنى – على الأقل مؤقتًا – منطقًا آخر تحت ضغط العمال: “التفاوض بدون حق الإضراب استجداه وتسول للحقوق”. وقد عكست هذه الانعطافة لليسار لنقابة المناجم والمحاجر نفسها في لغة وخطاب النقابة العامة في الأيام التي تلت الإضراب. فلقد طلبت النقابة العامة من الاتحاد العام “تغيير قانون النقابات الحالي واستبداله بآخر تكون فيه عملية الانتخابات وتحديد مدة الدورة النقابية وتشكيل الجمعيات العمومية حق للوائح الداخلية التي تخلقها بنفسها المنظمات النقابية وأن ينص القانون الجديد صراحة على حق الإضراب..”!!

مغزى الإضراب:

شيء مدهش أن تنظم نقابة عامة إضراب. على الأقل هذا لم يحدث على مدى الأربعين عامًا، أو أكثر، التي سبقت إضراب المناجم والمحاجر في 1994. فهل يمكننا أن نعتبر هذا الإضراب مؤشرًا على تحول كيفي أحدثته الخصخصة وغيرها من السياسات ف طبيعة  النقابات العامة، خاصة وأن النقابة العامة للصناعات الهندسية هددت مؤخرًا بتنظيم إضراب عام؟ ليس في مقدورنا أن نقدم إجابة قطعية لأن معلوماتنا عن الأسباب الحقيقية والتفصيلية التي دفعت مجلس النقابة العامة للمناجم لاتخاذ هذه الخطوة غير المسبوقة محدودة جدًا. ولكن يمكننا أن نقدم عددًا من الملاحظات الأساسية.

ليس من الواضح أن النقابة العامة للمناجم والمحاجر لها تاريخ جذري أو يساري من التناقض مع الاتحاد العام للنقابات. فلم يصل إلى علمنا أن هذه النقابة دخلت صراع مع الاتحاد العام في أي مرحلة سابقة. أضف إلى هذا أن فؤاد داؤهم – رئيس النقابة وقتها وحتى اليوم – قد تعامل بلين ورفق وتبريرية مع موقف الاتحاد العام غير المساند للإضراب. قال دراهم في حوار صحفي بعد الإضراب: “يجب أن نعرف أن الاتحاد العام هو اتحاد النقابات وليس اتحاد عمال. والفرق كبير بين النوعين. ورغم أن الاتحاد لم يستجيب لإضرابنا.. إلا أنني لم أطلب منه أي تأييد.. لأنه لا يمكن أن نطلب من زميل ما لا يقدر عليه..”! ثم أن دراهم قد استمر رئيسًا للنقابة العامة في الدورة النقابية 1997 – 2001 التي حدثت انتخاباتها بعد الإضراب، وهذا معناه – غالبًا – أنه ليس مغضوبًا عليه من الدولة ومن قيادات الاتحاد. فلماذا إذن أقدم على هذه الخطوة غير المسبوقة؟

التفسير الوحيد هو الضغط العمالي من أسفل هذا تفسير منطقي جدًا، لأنه بالرغم من تراجع الحركة العمالية، وبالرغم من تبعثر ومحدودية حركة عمالية المناجم المصريين (مثلاً مقارنة بعمال المناجم في دول كإنجلترا ورومانيا)، بالرغم من هذه كله إلا أن الضربة التي تلقاها العمال بقرار وزير المالية، والتي لا يمكن أن توصف إلا بأنها كانت قاصمة، كان من الضروري أن تؤدي إلى رد فعل عنيف. فإن يخفض أجر عمال فرع صناعي معين بنسب تتراوح بين الثلث والنصف في ضربة واحدة، هذه أمر لا يمكن أن يتحمله العمال أبدًا. لم تقدم الدولة على مغامرة كهذه في أي فرع من فروع القطاع العام الصناعي. فلم يحدث أن خفضت الدولة أجور عمال فرع صناعي كامل بنسبة الثلث في قرار واحد. الدولة كانت دائمًا تلجأ لتخفيضات أقل على مدى أعوام متتالية، وبطريقة الهجوم التدريجي على مصنع وليس على قطاع كامل. ولكن العكس بالضبط هو ما حدث في حالة المناجم والمحاجر: قطاع كامل، تخفيض كبير، قرار واحد!

هذا يمكن أن يشرح لنا لماذا كان الضغط من أسفل هائلاً وعلى امتداد قطاع كامل، بالرغم من كل ظروف الحركة العمالية غير المواتية. وهكذا انقلب الأمر ضد الدولة التي ربما تكون قد تجرأت على خطوة كتلك بسبب ضعف عمال المناجم وقلة عددهم. ولذا اضطرت النقابة العامة إلى الوقوف على رأس إضراب عام لأول مرة في العقود الأخيرة.

اضطرت النقابة العامة إلى الإضراب لأنها لو لم تفعل ذلك لخرج الأمر من يدها، ولانطلقت حركة من أسفل غير محكومة وغير مأمونة العواقب. وهكذا شهدنا نقابة عامة تنعطف إلى اليسار عندما وضعت في محرقة الضغط من أسفل الهائلة. ويبدو أن الدولة تركت الأمر يمر ولم تمارس ضغطًا هائلاً من ألعي لإيقاف النقابة عند حدها، تقديرًا منها أنها لو فعلت ذلك لخاطت بحركة من أسفل أكثر خطورة وتأثيرًا. وربما ساعد الدولة على تمرير الموضوع أيضًا أن عمال المناجم خارج الكتل السكانية الكبرى، وخارج تجمعات العمال الصناعيين في مدن مصر، وهو ما يعني أن اضطرابهم لن يشعل فتيل حركة واسعة وعلى نطاق كبير.

وقد نظمت النقابة العامة للمناجم الإضراب على طريقتها البيروقراطية. كان الإضراب العام إضرابًا منظمًا من أعلى وكان العمال فيه مجرد أدوات لم تشارك قواعدهم في إعداده وتنظيمه والإشراف عليه ولم تولد إثناؤه أشكال تنظيم قاعدية. وحددت النقابة أطارًا ضيقًا محكومًا للإضراب، حيث أعطته صفة الإضراب التحذيري لمدة يوم واحد ثم فضته من أجل التفاوض قبل تحقيق المطلب غير تاركة الفرصة للنضال العمالي أن يحدد الموقف. ولم تجد النقابة العامة قوة تعارضها في ذلك وتدفع المعركة للأمام بمواصلة الإضراب وتوسيعه وتنظيمه من أسفل.

ولكن بالطبع هذا لا يعني أن الإضراب قد خلا من أي أثر إيجابي. فمشاركة عمال أي قطاع عمالي في إضراب عام، خاصة لو كان ناجحًا، ترفع معنوياتهم وتزيد من اقتناعهم بالنضال الجماعي. وفي أحيان كثيرة تبدأ حركات جماهيرية واسعة بالضبط هكذا: بإضراب تنظمه البيروقراطية النقابية من أعلى لتطويق واحتواء الحركة من أسفل، ولكنها تفشل في هذا ويؤدي إضرابها من أعلى إلى تحفيز العمال لتجاوز الإطار الضيق الذي تفرضه البيروقراطية. هذا – كما رأينا – لم يحدث في حالة إضراب عمال المناجم 1994 لأسباب عدة منها طبيعة هذا الفرع الصناعي وطبيعة عماله، ظروف الصراع الطبقي، وعدم وجود قوة على يسار النقابة تدفع في اتجاه تجذير الحركة.

نقول هذا لأنه من المهم بالنسبة للثوريين أن يفهموا أن إضرابات كهذه عندما تحدث تحت وطأة الضغط العمالي من أسفل (وهذا أمر صعب في ظروف الحركة الراهنة ولكنه وارد)، نقول أنه عندما تحدث إضرابات كهذه على الثوريين أن ينخرطوا فيها بنشاط، ليس فقط عن طريق الإدانة – بالدعاية – للنقابة والحدود التي تفرضها، وإنما أساسًا عن طريق محاولة خلق قوة عمالية على يسار النقابة (ربما من بعض النقابات المصنعية) تضغط على النقابة العامة من أجل فتح أفق تجذير الحركة وإعطاء دور أكبر للقواعد العمالية. في ظروف كهذه يكون الضغط ممكنًا لأن العمال القاعديين يكونون مهيئين له، ولكن الطريق الوحيد لإنجاح الضغط هو أن تربط القوة اليسارية التي نتحدث عنها نفسها بجموع العمال ولا تعزل نفسها في قمقم الضغط على اجتماعات المجالس النقابية.

التعليقات
  1. الذكرى هذه تشابهنا بمشروع محاجر بني سويف فإلى ان نفيق

    إعجاب

تسعدني تعليقاتكم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.