الأرجنتين.. الثورة على حافة الأزمة العالمية – كريس هارمان

2004

“لا توجد مقاومة لليبرالية الجديدة في الأرجنتين. ليس لليسار تأثير. توجد عدة اضرابات لكنهم لا يثيرون أي تحدي للنظام”.

مداخله من قبل أحد الأرجنتينيين المنتمين لليسار فى مؤتمر ” العولمة والمقاومة ” في لندن، فبراير 2001.

نقل التليفزيون مشاهد لمئات المتظاهرين ـ أغلبهم من النساء والأطفال ـ عند سوبر ماركت صارخين ” نريد أن نأكل ! نريد أن نأكل! “. كما سرقت مئات محلات السوبر ماركت خلال اليوم بجميع أنحاء الدولة.

بدأت الحكومة ووسائل الإعلام فى الحديث عن ” الفوضى السائدة ” وعن ضرورة ” إعادة بناء النظام “. صرح الرئيس دولاروا في يوم الأربعاء على شاشة التليفزيون أنه قد فرض حالة حظرالتجول. فحرم المواطنون من حقوقهم المدنية وأصبح تجمع أكثر من شخصين شغب وفرضت الرقابة على وسائل الإعلام وأطلقت ألة القمع للتصرف والاعتقال كيفما تشاء .

بمجرد انتهائه من الخطبة، بدأ بعض الجماهير بطرق الأواني فى بيوتهم. كان هذا الشكل من الاحتجاج (ساسيرولازو) شائعا في نهاية ديكتاتورية الجيش. لكنه امتد بعد ذلك في الشوارع ليصبح عملاً منظماً. ففي خلال ساعة واحدة، قام مليون مواطن بتحدي حالة الحصار.

بحلول منتصف الليل، امتلأ ميدان بلازا دومايو وقام الآلاف باستبدال الصرخة البائسة “نريد أن ناكل ” بالصرخة الأكثر عدوانية ” أخرجوهم ! “. لم تقتصر إشارتهم على الحكومة فحسب لكنها شملت البناء السياسى ككل . . .  بدأت الجماهير بترديد شعارات خاصة ضد جميع الشخصيات الرئيسية في الأحزاب التقليدية وضد بعض قادة النقابات المرتبطين بتلك الاحزاب.

قامت الشرطة بمهاجمة الجماهيرمن على الخيل بالعصي والمتاريس والغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي. تحول احتجاج الأهالى السلمي إلى حرب حقيقية. لم يسبق للكثير من المحتشدين فى الميدان الاشتراك في احتجاج بالشارع فكان هناك الكثير من الأطفال وكبار السن. كان من السهل على الشرطة حصار وتخويف المتظاهرين في بداية الأمر لكن بدأت المقاومة بالتنظيم. امتلأ الميدان بالجماهير وكذلك السلم المؤدي إلى مبنى البرلمان. بعد ساعات معدودة من بداية الاحتجاج علم الجماهير باستقالة وزير المالية كافالو.

بدأ كل شىء مرة أخرى في يوم الخميس فاحتشد الجماهير في الميدان – الذي أصبح ساحة المعركة بين الأهالي والحكومة. كان هناك العمال ذوي الأجور المرتفعة والمنخفضة وطلبة الجامعات والسيدات المسنات بحقائبهن وأطفال الشوارع والموظفين فى المكاتب والبنوك بقمصانهم وأربطة عنقهم وعمال التطعيم ببدلهم النظامية والكثير من الأهالي والنساء بالأطفال ـ الكل على نفس الجهة من المتاريس.

إزداد القمع وبدأت الشرطة بإطلاق الرصاص مما أدى إلى إصابة ووفاة الكثير من المتظاهرين. رد المتظاهرون بالهجوم على ماكدونالدز وعلى البنوك ورموز أخرى للرأسمالية وفقر الأهالي. كما أشعلوا النيران فى العديد من المباني والسيارات فاتسعت المعركة لتشمل جميع أنحاء المدينة. في الظهيرة تنحى الرئيس عن منصبه وسقطت الحكومة.

“جافير كارلز، تقرير عن أحداث 19 ـ20 ديسمبر 2001 فى بيونس آيرس”

عندما رأيت صفوف الجماهير آتية من جميع أحياء المدينة بعد إعلان الرئيس لحالة الحصار، فكرت ” هذا يشبه سقوط الحائط. انه سقوط حائط الليبرالية الجديدة “.

المعترض ريكاردو كاركوفا، 20 ديسمبر 2001 .

فاجأت الأزمة السياسية والاجتماعية للأرجنتين المسؤولين بالولايات المتحدة الأمريكية. فقد توقعوا أن يتكشف العجز عن سداد الديون بشكل بطىء ومحكوم سياسياً. لم يفكر أحد بجدية في احتمال الفوضى السياسية والاجتماعية.

بعد مرور أسبوع من عجز السلطة المتوقع يتضح تعقيد الأمور وتخشى الولايات المتحدة من انتشار حالة عدم التوازن إلى دول أخرى. علق أحد الدبلوماسيون المحنكون وذوي الخبرة فى المنطقة : ” لم تتدخل إدارة بوش فى هذه الأزمة لأنها لم تر أي مصلحة للسياسة المحلية في ذلك “. لعل هذا الموقف سيتغير إذا اضطرت إلى مواجهة انتشار أزمات سياسية واقتصادية عبر العالم نظراً للتساؤل الذى سيطرحه المعارضون لسياساتها ” من الذي خسر جنوب أمريكا ؟ “.

كارلوس إسكود من جريدة بيونس أريس الأمة، 3 يناير،2002.

لم يقتلع الغضب الذى أطلق في شوارع بيونس آريس في 19 و 20 ديسمبر الحكومة فحسب ولكنه أوضح قدرة الأزمة الاقتصادية على خلق ظروف شبه ثورية. فقد انتقلت الرئاسة إلى أربع جهات مختلفة حتى استقرت عند دوهالدي ـ نائب الرئيس فى الثمانينات ومحافظ بيونس إيريس بعد ذلك. وأنا أكتب الآن بعد مضي ستة أسابيع على الحالة الثورية وأستطيع أن أجزم بأنه لا توجد علامات تشير إلى نقص الأضطراب فى الشوارع. تستمر التقارير عن الاحتجاجات في بيونس إيريس وغيرها من المدن الريفية. إن وصف الحالة في الأرجنتين الوارد في تقارير- على سبيل المثال – الصفحة الإلكترونية التابعة لقناة آزول التليفزيونية يشبه وصف ألمانيا سنة 1923، إجهاض صعود الثورة وفشل محاولة الإنقلاب النازي. في مكان تلو الآخر، أدى العاطلون عن العمل دور الخفراء وقاموا بسد الشوارع، واقتحم الجياع محلات السوبر ماركت طالبين الطعام بينما هاجم أولئك الذين تجمدت أرصدتهم البنوك. وقد تحدث زعيم الحزب الحاكم بمجلس الشيوخ عن إمكانية إندلاع ” حرب أهلية “. توقفت الحكومة عن سداد ديونها الخارجية وشنت هجوما لاذعا ضد ملاك المؤسسات الخاصة وبعثت بالشرطة لفحص ملفات البنوك الأجنبية. وفي نفس الوقت فهي تطمئن صندوق النقد الدولي بأنها ستصل إلى ترتيب يعيد توازن النظام الرأسمالي وتؤكد للبنوك المملوكة للأجانب أنها لا تنوى إيذائها.

يصدق القليل من المشاهدين قدرة الحكومة على إطفاء حالة عدم الرضا التى تغلي فى جموع الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة على حد سواء أو أنها تستطيع أن توفر متطلبات النظام الرأسمالي العالمي. الحكومة غير قادرة على الاستمرار في سياسة واضحة حالها كحال أي حكومة تواجه وضعا شبه ثوري ولا تستطيع أن تفكر فى أكثر من بقائها ـ تتحرك تبعاً لذلك فى اتجاه ثم تغيره لتعود وتتبناه مرة أخرى.

إن الوقت لا يزال مبكراً لتحديد مجرى تطور الأمور بوضوح. تحدث بعض المعلقون عن ” سقوط الدولة “، لكن فى هذا مبالغة. فقد تمكنت قوات الدولة المسلحة من قتل مالا يقل عن 24 متظاهر في 20 ديسمبر في بيونس أريس و 20 آخرين بمدن أخرى. كما استمرت في الاعتداء على المتظاهرين بالأقاليم. على الرغم من ذلك، لا يمكن انكار الضعف الكبير للدولة. فقد رفض الجيش – الذى كثيراً ما لعب دور الوسيط لسياسة الدولة فى الماضي ـ التدخل حتى الآن . فقال أحد الضباط للصحفيين: “إذا طلب مني التدخل سيكون همي الأول انصياع رجالي لأوامري حتى فى حالة تطور الأمور الى فوضى أو حرب أهلية”)1).

لا يمكن لوضع عدم التوازن القائم أن يستمر للأبد فالعناصر المتباينة للطبقة الحاكمة الأرجنتية تحاول الوصول الى استراتيجية عامة لاسترداد تحكمها في الأحداث وانهاء العصيان في الشوارع. في حالة النجاح – فلا شك – أنها سوف تستخدم جميع قوى الدولة في فرض نظرتها للنظام ولانزال الانتقام على من قاموا بتحدي سلطتها. لكن، لا تزال المسافة طويلة أمامها. ففي الوقت الراهن، تشكل الحالة الثورية في الأرجنتين أهمية كبيرة للنظام العالمي وللمعارضين له – الذين ظهروا فى جميع أنحاء العالم فى السنتين والنصف التى تلت مظاهرة مناهضة الرأسمالية بسياتل.

 

الحوادث السابقة في الارجنتين:

كما يحدث فى الثورات الشعبية الكبيرة يبحث الناس في الأرجنتين فى ذاكرتهم التراكمية عن أحداث مماثلة في الماضي. وقعت ثلاث حالات عصيان كبيرة من أسفل فى القرن العشرين وأدت الى مواجهات مع السلطة كان لها تاثير على التطور الاجتماعي لسنوات طويلة.

كانت أولى هذه المواجهات فى يناير 1919 – في سنة حدوث الثورات على المستوى العالمى. شهد ” الأسبوع المأساوي ” معارك دامية بين العمال وقوى الدولة فى بيونس آريس. هاجم الأمن عمال مصنع الأدوات المعدنية فى فانسيا بعنف نتيجة لاضرابهم لعدة أيام قام 200 ألف عامل بالتظاهر بقيادة زعماء النقابات الفوضويون داخل المصانع. تمكن العمال من ارباك الأمن على الرغم من قيام معركة نارية. عندما أمرت الحكومة بزحف الجيش في المدينة ردت النقابات باعلان الاضراب العام الذى كان له تاثير كبير فى البداية. لكن تدريجيا ازدادت فعالية القمع وكسرت بعض النقابات الاضراب بانضمام المجموعات اليمينية الى الشرطة والجيش في شن الهجوم على مناطق الطبقة العاملة وفي الاغارة على المباني النقابية وقتل العمال. بحسب الاحصائية الأخيرة في النشرة الاشتراكية وصل عدد القتلى الى 700 وعدد الجرحى الى 4000. وفى السنة التالية، قام الجيش بتفريق مظاهرة نقابة الفلاحين فى بتاجونيا وقتل 1500 متظاهر.

كانت نتيجة تلك النضالات حاسمة فى تأثيرها على مجرى السياسة الأرجنتينية لمدة عقدين من الزمان. ” اتسمت النقابات عموما بالضعف في العشرينات بينما اتسع دور الجيش كوسيط للسياسة القومية “(2). فقد تمكن من جلب ” عقد الخزي ” بعد انقلاب سنة 1930 وقامت الحكومات اليمينية المحافظة بحكم الدولة من خلال التلاعب في الانتخابات والفساد والابعاد الفعلي للعمال عن الحياة السياسة(3).

كانت المواجهة التالية في 17 اكتوبر 1945 – ” الحدث الذى شق طريقه الى أساطير الحركة العمالية الأرجنيتية، ففي ذلك اليوم دخلت الطبقة العاملة الى الساحة السيايسة بشكل ضخم ومتفجر “(4). كانت قد استولت مجموعة من الضباط القوميين على السلطة في 1943، في ظل التوسع الاقتصادي الذى كاد يجدد انتشار روح النضالية بين صفوف الطبقة العاملة. فأخذ أحد أفراد المجموعة، جوان بيرون، على عاتقه السيطرة على ذلك. أصر على أن يذعن أصحاب العمل لبعض مطالب العمال الأمر الذى مكن القادة الداعمون لمشروعه السياسي من كسب التأييد اللازم للسيطرة على النقابات الأساسية والتي أخذت فى النمو وازداد تأثيرها. لكن بحلول عام 1945 رأت شرائح من الطبقة الحاكمة أن حجم التنازلات التي قدمها بيرون كبير جدا واقنعوا زملاءه من الضباط بخلعه من الحكومة.

رأى العمال فى التعدي على زعيم قدم لهم التنازلات تهديدا لمستوى معيشتهم وكرامتهم. وفي أثناء انتشار موجة من المظاهرات دعت فدرالية النقابات الى اضراب عام. فقامت صفوف من العمال بمسيرة فى ميدان بلازادومايو بمركز بيونس آريس مرعبين الجيش ومجبرينهم على اعادة تنصيب بيرون. ضمن التوسع في النصر في الشوارع نجاحه بأغلبية ساحقة في انتخابات الرئاسة للسنة التالية ومن ثم بقي في الحكم حتى سنة 1955.

كان انتصار العمال سلاح ذو حدين. فقد خلق الظروف التي أجبرت أصحاب العمل على زيادة الأجور الحقيقية بنسبة أكبر من 30% خلال أربع سنوات. ومارس زعماء النقابات تأثير مهم في حزب البراءة الذى أنشاه بيرون. وقد قدمت حكومة بيرون نموذج للخدمة الاجتماعية في الدولة من خلال الاعتراف بالنقابات واجازات مدفوعة الأجر وتعويضات في حالة الاستغناء فضلا عن الاعانات الاجتماعية. لكن قام شكل النصر الذى حظي به العمال بتقييد الحركة العمالية بأسطورة بيرون مما أدى الى تكون طائفة تتبع زوجته ايفيتا والى تفشي القومية التي تبشر باتحاد العمال وأصحاب العمل الوطنيين – بذلك تكون ” الرأسمالية العالمية أداة للاستغلال أما رأس المال القومي فيصبح آلة للخدمة الاحتماعية “(5).

كان الانفجار الثالث كوردوبازو في 1969 ويعد المرادف الأرجنتيني لمايو الفرنسي و” الخريف الحار ” الايطالي. تحرك العمال ضد الاعتداءات المستمرة على الأجور الحقيقية وظروف العمل طوال عشرون عاما.

بدأ الانخفاض في الأجور في ظل بيرون لكن كانت النقابات لا تزال تتمتع بقدر كبير من القوة بالمقارنة برغبات الرأسمالية الأرجنتينية. قام الجيش بالاطاحة ببيرون في 1955. لم تقم الثورة العمالية الفورية والمنسقة مثلما حدث من عشر سنوات مضت. لكن ذلك لا يمنع لجوء الدولة الى استخدام آلة القمع بشكل مكثف لاخماد المقاومة الواسعة والمعارك الحادة فى الشوارع والاضراب العام الذي استمر ليومين والتخريب المسلح. انتهزت الرأسمالية الأرجنتينية كل فرصة في العشر سنوات التالية للتخلص من المناضلين وفرض الاسراع في الانتاج و “منطقة” الصناعة وخفض الأجور الحقيقية. فقد تلى كل نجاح للعمال في مواجهة الاعتداء على مستوى أجورهم زيادة فى التضخم – تمكّن أصحاب العمل من استرجاع مكاسبهم – ومن ثم فترة ركود تستنزف عزيمة العمال فى مواجهتهم لقمع السلطة. عاد مستوى الأجور الحقيقية في 1960 في بيونس آريس الى ما كان عليه في 1947، كما انخفض نصيب العمال من الناتج القومي في 1965 من 49.9% الى 40.7%(6 –7). كان ذلك هو الوجه الآخر لاستراتيجية التنمية التى تبنتها الطبقة الحاكمة بهدف الكسب لبناء الصناعات الثقيلة القادرة على المنافسة فى الاسواق العالمية.

عمقت تلك الاعتداءات المرارة بين صفوف الطبقة العاملة. ووصل الولاء الكبير لبيورقراطية النقابات العمالية البيرونية وارتباط الهوية السياسية ببيرون المنفي، الى الدرجة التي تحتم فوزه في أي انتخابات نزيهة. ترتب على ذلك تدخل الجيش في 1962 و1966 في ظل الحكومات المدنية ومن ثم ديكتاتورية الجيش بقيادة جنرال أونجانيا. قامت الديكتاتورية بتجميد المرتبات وكسر الاضراب كما استولت على النقابات التى أبدت مقاومة فضلا عن الغائها للأحزاب السياسية بما فيها البرجوازية، وحاولت فرض سيطرة الجيش على جميع مستويات المجتمع – على سبيل المثال سيطرتها على الجامعات. قتلت القوات المسلحة اثنين من الطلبة أثناء الاحتجاج ضد أسعار الوجبة في مايو 1969(9). اشتعلت المظاهرات الاحتجاجية والاضرابات المحلية ونادت المؤسسات النقابية باضراب عام ليوم 30 مايو.

كانت كوردوبا مركز لصناعة محركات السيارات على الرغم فى عمرها القصير- 20 عاما. تميزت بأجورها العالية بالنسبة لمعظم الصناعات الاخرى لدرجة أن البعض لقب العاملين بها ” بالأرستقراطية العمالية “(9). لكن نتيجة لحداثة الصناعة والصبا النسبي للقوى العاملة بها لم يثقل عاتقتهم بوقع الهزائم السابقة بالاضافة الى موقفهم الأقل خضوعا بالنسبة لبيوروقراطيات الاتحادات القومية. فقد قرر العمال بمصانع السيارات والطاقة اضافة “اضراب فعال ” الى الاضراب العام بيوم 29 مايو. فتظاهرت صفوف من العمال بمركز المدينة وعند مقر الشرطة الرئيسي والفنادق والبنوك – وكان بعضهم مسلح بكوكتيل مولوتوف. كان هناك 4 آلاف عامل من رينالت و10 آلاف من عمال صناعة المعادن وألف من العمال بالطاقة. وقد تمكنوا من اجبار 4 آلاف شرطي على الفرار واحتلال مركز المدينة. لكن انضم 5 آلاف جندي مسلح الى المعركة مما أدى الى تقهقر العمال الى مناطق الطبقة العاملة والطلبة واقامتهم للمتاريس. تسبب القمع في قتل 16 شخص لكنه لم يوقف الحالة الثورية، الأمر الذي كشف هشاشة الحكومة العسكرية وقوة التحرك الجماهيري. ففتح الطريق لمدة ثلاث سنوات للمظاهرات العنيفة والاضرابات الكبيرة واحتلال المصانع واحتجاز المدراء كرهائن وحروب العصابات ضد قوى الدولة بالاضافة الى الحالات الثورية الأخرى في كوردوبا و الفيبورازو (10).

لم تتوقف موجات النضال الاّ باذعان الطبقة الحاكمة وقيام الجيش باعادة بيرون الى البلاد وتقليده لمنصب الرئيس في أكتوبر 1973. لعبت الحكومات في عهده ومن ثم في عهد زوجته الثالثة ايزابيل- بعد وفاة بيرون في يونيو 1974 تقلدت زوجته منصب الرئيس – نفس الدور الذي لعبته الحكومات التي أشرفت على “العقد الاجتماعي ” في بريطانيا و” ميثاق مونكلوا ” بأسبانيا و” التسوية التاريخية ” بايطاليا. فتمكن البيرونيون من استخدام تأثيرهم على بيوروقراطيات الاتحادات حتى وصلوا الى درجة عالية من التحكم في نضالات الطبقة العاملة من خلال “الميثاق الاجتماعي “، بينما قامت البرجوازية والدولة باعادة تنسيق قوتهما. لكن اعادة التنسيق في الأرجنتين أخذت طابعا أكثر دموية بالمقارنة بدول غرب أوروبا. فقد أعطي للمجموعات اليمينية المتطرفة حق التصفية البدنية لخصومهم. ففي يوم عودة بيرون قامت القوات المتحالفة مع اليمين بالهجوم على اليساريين بالمطار- وسط 2 مليون مستقبل لبيرون – وقتل عدد كبير منهم. تم قتل عدد كبير من اليساريين ومن المناضلين بالنقابات بالتعاون مع قادة النقابات في الثلاث سنوات من حكومة بيرون. وبعد ذلك في 1976 قام الجيش بالاطاحة بايزابيل بيرون وبدأ بشن الهجوم الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية على حركة الطبقة العاملة وقتل 30 ألف من اليسار والمناضلين.

 

طبيعة النضال في الأرجنتين:

كان للانفجارات الشعبية الثلاث للقرن العشرين سمة رئيسية مشتركة، التصادم بين الطبقة العاملة الصناعية من ناحية والبرجوازية ودولتها من ناحية أخرى. كان الصراع الطبقي في الأرجنتين نتيجة مباشرة لديناميكية تطور الرأسمالية داخل الأرجنتين ولم يكن نتيجة لطريقة انتاج جديدة أو عامل عرضي. ان لتلك النقطة أهمية كبيرة لأن اللغة المستخدمة في توصيف ما يحدث بالأرجنتين كثيرا ما تخفي الجذور الحقيقية لثورة 19-20 ديسمبر.

تصنف الأرجنتين من قبل الاتجاه السائد للاقتصاد على أنها “سوق ناشئ” أو “اقتصاد نامي”. يتضمن ذلك الانتقال من كونها دولة زراعية فقيرة لتصبح دولة صناعية متقدمة مرورا بالأزمات الناجمة عن عدم انتقالها بالسرعة الكافية. يستخدم اليسار مصطلحاته في التعبير عن نفس الفكرة بالتحدث عن الاقتصاد “التابع” أو “دولة العالم الثالث” أو ” الشبه مستعمرة ” (11).

تعاني القرى من الفقر الشديد اليوم – استمر هذا الوضع منذ أمد بعيد في المناطق الريفية الواسعة ذات عدد السكان الغير كثيف وفي مدن الأكواخ الموجودة حول المدن الكبيرة مثل بيونس آريس وكوردوبا. لم تكن الأرجنتين دولة زراعية فقيرة من دول العالم الثالث تاريخيا. فمنذ قرن مضى، كانت الأرجنتين أشبه باستراليا وكندا ونيوزيلاندا من حيث الاقتصاد الذي يرتكز على تصدير المنتجات الزراعية -العالية الربح والمرتبطة بتوسع الرأسمالية (كاللحوم والصوف والحبوب) – الى غرب أوروبا فسميت ” مصدر العالم للحبوب “. ولم تكن القوة العاملة في الزراعة من أهالي دول العالم الثالث – فقد تمت تصفية هؤلاء بالطريقة الأمريكية في القرن التاسع عشر – بل كانوا مهاجرين وعمال موسميين انجذبوا الى الأجور العالية بالنسبة للأجور في بلادهم، أسبانيا وايطاليا أو جنوب أوروبا بشكل عام. كان دخل العامل في الأرجنتين أكبر بكثير من نظيره في فرنسا وايطاليا (12). كان للطبقة الحاكمة روابط وثيقة بالطبقة الحاكمة البريطانية – كانت الأرجنتين المقر الرئيسي لهجرة الصفوة البريطانية ورأس المال البريطاني فضلا عن استيراد بريطانيا لثلث صادرات الأرجنتين – لكنها تمتعت بدرجة من الاستقلال سمحت لها بفرض الضرائب الوقائية على الواردات الصناعية البريطانية والبقاء على الحياد أثناء الحرب العالمية الأولى. ( في الوقت الذي أسهمت فيه كل مستعمرة والدومنيون بالأموال والرجال لمسعى الحرب الامبريالية ) (13). يقول أحد التأريخات الماركسية للبيرونية، ” كانت الأرجنتين عند بداية الحرب العالمية الأولى قد أصبحت دولة رأسمالية متقدمة ” (14).

لم تكن مشكلة القطاعات المختلفة للطبقة الرأسمالية خلال القرن العشرين افتقار الأرجنتين للتحرر السياسي الوطني – فهي تتمتع به منذ 1816. تكمن المشكلة في تحكم الطبقة الحاكمة الأرجنتينية بسوق محلي صغير وبموارد قليلة بالنسبة لعالم الطبقات الرأسمالية الأكثر ثراء بأسواقها الأكثر ضخامة ومواردها الأكثر وفرة. فكلما وصلت تلك الطبقة في الأرجنتين أنباء هبوط السلع الزراعية – ومكاسبهم معها – انتابتهم نزعة انتقامية. حدث ذلك عند الركود العظيم في سنوات الحرب بهبوط السعر العالمي للقمح بنسبة 75%. عندئذ اكتشفت البرجوازية الأرجنتينية التي كانت تعد نفسها جزءا من النخبة القوية في العالم، هشاشة التوازن الذي يقف عليه ثراؤها. فبامكانها أن تستخدم القوة لتعدّل حدودها مع شيلي أو بوليفيا لكنها لا تستطيع أن تفرض على فرنسا استقبال حبوبها أو لحومها (15).

تركز رد فعلها منذ 1930 في اعادة توجيه مكاسبها الزراعية الى بناء الصناعة الصلبة والتي تزود السوق المحلي والمحمي باحتياجاته. بدأت الحكومات التي تسيطر عليها مصالح الرأسمالية الزراعية بتنفيذ تلك العملية ثم قام بيرون بتكثيفها في أواخر الأربعينات. وقد سلكت الحكومات التي تلته نفس الطريق في الخمسينات والستينات. تتشكل الطبقة الرأسمالية الصناعية – التي تحجب الرأسمالية الزراعية اليوم – من مجموعتين مرتبطتين. أشرف رأسماليوا القطاع الخاص على الصناعات الصغيرة والمتوسطة بينما أدار بيوروقراطيوا الدولة ( بالاضافة الى ضباط الجيش ) أغلب الصناعات الجديدة والكبيرة كالحديد والصلب والسيارات وتوليد الطاقة والبترول. وقد حافظت كل جهة على روابط معينة مع بيوروقراطيات النقابات – العالقة في شبكة من الفساد.

لقد مكنت تلك المعايير الأرجنتين من التصنيع. ففي السبعينات اشتغل 34% من السكان بالصناعة و13% بالزراعة(16). كان معدل نمو الصناعة في ذلك الوقت شبيه بمعدل النمو في ايطاليا (التي أشار اليها منظري الاتجاه السائد في الاقتصاد وكأنها تمر ” بمعجزة “، على الرغم من كونها من أفقر دول غرب أوروبا) (17)

قد توضح بعض الاحصاءات من 1972 الفرق الضئيل بين الأرجنتين وايطاليا في ذلك الوقت (18):

المواد الأرجنتين ايطاليا
كيلوجرامات اللحوم للفرد في السنة 90 47
لترات الحليب للفرد في السنة 70 65
لترات زيت الذرة للفرد في السنة 10.3 7.9
السعرات الحرارية للفرد في اليوم 3170 2940
عدد السيارات لكل 100 فرد 11.6 20.9
عدد التلفزيونات لكل 100 فرد 14,9 18.9
عدد الصحف لكل 1000 فرد 128 85
عدد السكان في المنزل الواحد 3.8 3.1
عدد طلبة الجامعة لكل 1000 فرد 11.4 11.7
عدد الأطباء لكل 1000 فرد 18.9 18
معدل الوفيات لكل 1000 فرد 8.8 9.6
متوسط العمر المتوقع 67.06 65.77

توجد العديد من الاختلافات ما بين الدولتين – كانت الأرجنتين أفضل فيما يخص المواد الغذائية بينما فاقتها ايطاليا من حيث قدرة المستهلك. ان الاختلافات بين الدول المتقاربة من حيث مستويات ” التنمية ” لا يمكن أن تشبه نتائج المقارنة بين دول كايطاليا والهند أو حتى بين الأرجنتين وجواتيمالا. وكانت الأرجنتين –على الأرجح – أقل اعتمادا على رأس المال الأجنبي والواردات. فشكلت الواردات

1% من السلع الاستهلاكية أما رأس المال الأجنبي – فبالرغم من أهميته في بعض الصناعات – فشكل 5% فقط من الاستثمار الكلي ( مقارنة ب 15.4 % في 1943 ) (19).

حدث تغير ضخم منذ 1972. اتسعت الفجوة في مستوى المعيشة لعامة الشعب بين الدولتين. على الرغم من أن متوسط الأجور في المصانع ما قبل الركود الحالي لم يتجاوز 1,67 دولار يوميا – علما بكسب الكثيرين لأقل من ذلك – تعاني الأرجنتين اليوم من فقر لم تشهده ايطاليا منذ الأربعينات (20). لقد انخفض متوسط تناول السعرات ( على الرغم من التقارب في مستوى تناول السعرات ببريطانيا في منتصف التسعينات، وكونه أعلى بمقدار الثلث مقارنة بدول مثل جواتيمالا وبوليفيا ) (21). ان هذا ليس نتيجة ” تخلف الأرجنتين في مجال التنمية”. فبمجرد وصول الرأسمالية الضعيفة الى مرحلة معينة في التنمية تواجه الكثير من التناقضات. فمن المنظور الرأسمالي، ان الأرجنتين قد أحرز تقدما منذ 1972 – على الرغم من الوضع الأسوء الذي وصل اليه الغالبية العظمى من السكان.

لا يمكن للطبقة الحاكمة الرأسمالية والقومية أن تكتفي أبدا بالقدر المعين الذي وصلت اليه. فالرأسمالية القومية المتنافسة تكدس بلا توقف ولا يستطيع أحد الأطراف التلكؤ. ان الطبقة التي تحكم اقتصادا صغيرا نسبيا تجد الأزمات شديدة الحدة، حتى في حالة قيام اقتصادها على الصناعة بدلا من الزراعة. فقد نجحت حماية السوق المحلي في تقديم حلول قصيرة الأجل لبعض تلك الأزمات في الماضي، لكن صغر السوق يجعل تكلفة الانتاج تتفاوت في الارتفاع وتكون الموارد – الموجودة بغرض التكديس – محدودة بالمقابل. بالتالي، يتوجب تكثيف معدل الاستغلال على الدوام واعادة التنظيم لفرض تحول رأس المال من أيدي أصحاب التجارة الصغيرة الى أصحاب التجارات الأكبر. هذا ما كانت تقوم به الرأسمالية الأرجنتينية لأكثر من نصف قرن، الأمر الذي يفسر وحشية المواجهات بينها وبين الطبقة العاملة فضلا عن سياساتها المتقلبة ولجوئها المتكرر للحكم العسكري. وأخيرا، انفتاح اقتصادها للتمويل الأجنبي والدولي وخضوعها لشروط صندوق النقد الدولي.

تمكن الرأسماليون في الأرجنتين من تفادي تلك المشكلة الى حد ما أثناء الخمس سنوات الأولى من حكم بيرون. فقد أدى نقص الغذاء في أوروبا الى تضاعف أسعار الصادرات الزراعية للأرجنتين. وساهمت الأرباح الباهظة العائدة الى الدولة في التخلص من حالة عدم الرضا لدى الطبقة العاملة ومن التصنيع لصالح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة في نفس الوقت. باستخدام النموذج ذاته، أدى الهبوط الضخم لأسعار المنتجات الزراعية في أوائل الخمسينات الى سحب البساط من تحت أساليب بيرون. فابتداء من 1951 والرأسمالية الأرجنتينية تبني صناعاتها من خلال زيادة معدل الاستغلال – الاقتطاع من مستوى العمال المعيشي. كما قامت بضخ مكاسبها – التراكم – بشكل متزايد في الصناعات التي تولد وسائل للانتاج لكي تتماشى الرأسمالية الأرجنتينية مع منافسيها، بدلا من توفير السلع الاستهلاكية للعمال والطبقة المتوسطة. لقد كان انخفاض مستوى المعيشة حتمي في ظل نمو الصناعة الرأسمالية.

ان ذلك يفسر سبب نفي الطبقة الحاكمة لبيرون في 1955 وعدم قيام قطاعات البيرونيين المرتبطة بالرأسمالية القومية بتعبئة معارضة حقيقية حيال الاطاحة به. كما يفسر الأسباب وراء ما شهدته الفترة ما بين 1955 و 1983 من حكومات منتخبة قصيرة الأجل وما تخللتها من فترات أقصر أو أطول من حكم الديكتاتورية العسكرية. فقد جذبت كل نزعة للتوسع الصناعي أناس جديدة الى أماكن العمل وزادت ثقة الطبقة العاملة – التي ظهرت في النضال لأجل الصناعة ودعم السياسة البيرونية ” الشعبية ” التي وعدت باعادة جزئية على الأقل لمستوى المعيشة وتوفير الضمان الاجتماعي المعروف سابقا. لم تتمكن الحكومات المدنية من مقاومة تلك الضغوط لفترات طويلة. لكن بلا شك أرادت الرأسمالية الأرجنتينية التخلص من تلك الضغوط، الأمر الذي جعلها تلجأ الى الرجال الأقوياء في الجيش لاستعادة النظام.

بدأت الحلقة الأخيرة بكوردوبازو مارة بالحكومات البيرونية الى أن وصلت الى الديكتاتورية العسكرية ال ” جانتا “. فقد حاولت الحكومات البيرونية اخماد عدم الرضا لدى الطبقة العاملة بدون الاقتطاع الكافي من مكاسبها من خلال طباعة النقد مما أدى الى ارتفاع الأسعار بنسبة 20% و 30% شهريا في منتصف 1975. فجاءت الديكتاتورية العسكرية المسؤولة عن ” اعادة النظام ” أكثر عنفا من أي وقت مضى. لم يقتصر القمع على القتل الجماعي. فقد حدث هجوم غير مسبوق على مستويات المعيشة للعمال. وصلت الأجور الحقيقية في 1987 الى نصف ما كانت عليه في 1975 (22). ان ذلك يعني جعل المستوى المعيشي أكثر سوء مما كان عليه في 1940 (23).

لقد صاحبت الهجمات المتعاقبة على العمال واليسار عملية دعائية واسعة النطاق تهدف الى منطقة وتبرير الصناعة من خلال المبالغة في تقييم البيزو وتحويل الدولة الى جنة للمضاربين. اقتطع حوالي خمس القوة العاملة الصناعية في خلال أربع سنوات بينما فرض على العمالة المتبقية رفع معدل انتاجها بمقدار 37% (24). لم تتغلب هذه الاجراءات – التي حرمت نصف مليون عامل بالقطاع العام من وظائفهم – على المشاكل الجوهرية للرأسمالية في الأرجنتين. فقد تلى النمو الاقتصادي لسنة 1979 الجمود في سنة 1980 ومن ثم ركود 1981 – بينما استمر التضخم السنوي أكثر من 100%. لم تقتصر حالة عدم الرضا على الطبقة العاملة فحسب بل وصل – أيضا – الى قطاعات من الرأسمالية الأرجنتينية. فجاءت حرب فوكلاند كمحاولة لتحويل الانتباه عن تلك المشاكل. ولذلك، أدت الهزيمة الى انتهاء عصر الديكتاتورية في 1983 دون انتهاء مشاكل الرأسمالية في الأرجنتين.

 

بحث الطبقة الرأسمالية عن استراتيجية:

لقد فتح انتصار الحزب الراديكالي على يد ألفونسين – في انتخابات الرئاسة لسنة 1983 – الطريق لسلك نموذج الحكومات المدنية المتعارف عليه. فقام العمال بالضغط لاستعادة ما فقدوه من مستوى معيشتهم في فترة حكم الجانتا لكن الرأسمالية لم تكن قوية بالقدر الكافي لتوفر تلك المطالب فقامت برفع الأسعار لكي تستعيد مكاسبها. ارتفع الانتاج لمدة سنة أو سنتين لكن ما لبث التضخم أن وصل الى مستويات فلكية – وصل الى 1470% أثناء 12 شهر حتى يونيو 1989 ثم وصل الى 20226% في 12 شهر حتى مارس 1990 – في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد ينهار بعنف (25). وكانت الديون الأجنبية قد تضاعفت حتى وصلت الى 60 بليون دولار. وقد فاقت معاناة العمال الاقتصادية معاناتهم في فترة الجانتا

– انخفضت الأجور الحقيقية في 1989 بنسبة 25% عن المستوى البائس أصلا لسنة 1980. لقد اشترك الرأسماليون والطبقة العاملة في الاحساس بالأزمة الضخمة القادمة.

نظمت الاتحادات ما لا يقل عن 12 اضراب عام في تلك الفترة. فقد تفشى الجوع بين الجماهير التي كانت في الماضي من الأفضل من حيث التغذية في العالم. وقامت حالات ثورية طلبا للطعام بالاضافة الى نهب محلات السوبرماركت في بيونس آريس في 1989. لكن فقدت الحلول القديمة للأزمات مثل وهم الحكومة المنتخبة أو الانقلاب العسكري فعاليتها – فقد سقطت ثلاث محاولات للانقلاب ما بين 1987 و1988 نتيجة للمعارضة الجماهيرية الضخمة كخروج مليون شخص الى الشارع في المحاولة الأولى – والانشقاق بين صفوف القوات المسلحة. كانت النتيجة حدوث تغير انتخابي عن طريق خلع الحزب الراديكالي وألفونسين وتنصيب البيرونيين بفوز مينيم في انتخابات الرئاسة لعام 1989.

لقد أجبر الرأسماليون بالأرجنتين بعد أزمة حكومة ألفونسين على البحث عن استراتيجية اقتصادية جديدة. فعلى الرغم من نزعتهم المتكررة للتراكم ورغبتهم الشديدة في المنافسة العالمية، كان ناتج الفرد الواحد أقل بمقدار الخمس بالنسبة لعشر سنوات مضت (26). كانت القطاعات الأقوى والأكثر تقدما من حيث رأس المال قد بدأت بالضغط لاتباع سياسة جديدة.

استجابت ديكتاتورية أونجانيا ( 1966 – 1970 ) لاحتياج الرأسمالية الأرجنتينة في توفير الأوضاع المناسبة لنظام التكديس المبني على تمزيق السيادة المطلقة ودخول الصناعة الى السوق العالمي. توجب تحويل التراكم الموسع من تنمية السوق المحلي المحمي من الدولة عن طريق الحواجز الضريبية الى التصارع الوحشي لخلق مكان وسط القوى الكبيرة في السوق العالمي (27).

حدث التحول عن الاستراتيجية القديمة ببطء نظرا للضغوط السياسية الناجمة عن صعود نضال الطبقة العاملة في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. ولم يتمكن أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة من دفع منهج ” الليبرالية الجديدة ” الاّ بمجيء الجانتا العسكرية الى السلطة في 1976. أدى خفض الضرائب وارتفاع معدل التبادل التجاري الى غمر السوق المحلي بالواردات – الأمر الذي أدى الى خفض الكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة لأسعارها وانخفاض عدد ساعات العمل في الصناعة بنسبة 20%.

استمرت أجزاء من النظام في استخدام سلطة الدولة لتعزيز بعض الصناعات التي قامت الشركات المحتكرة أو قطاعات من السلطة بادارتها – الماكينات والأجهزة والحديد والصلب وتطوير البنية التحتية والكهرباء والغاز وانتاج الأسلحة والأدوات الزراعية. وقد نمت كل تلك الصناعات من 1976 الى 1980(28). وقد رأت الدولة المدارة عسكريا في الأرباح التي يمكن احرازها بتصدير الغذاء الى الاتحاد السوفييتي – بشكل خاص – مصدر لبناء القوة الصناعية القومية ( وشراء الأسلحة ). فكانت الدولة مسؤولة عن أكثر من نصف الاستثمار الكلي للسنوات من 1976 – 1978 (29). كان نمو رأس المال الكبير على حساب رأس المال الصغير واستغلال الطبقة العاملة. لكن استمر افتقار الطبقة الرأسمالية الى المنافسة العالمية التي كانت تسعى اليها. ألقى أصحاب نظرية كمال السوق الحر اللوم على ما تبقى من تحكم الدولة والصناعات المؤممة.

أتاحت أزمة الثمانينات الفرصة السياسية للالقاء بهذه الأشياء. أضعف البؤس المخيم على الجماهير امكانية ابداء الطبقة العاملة أو المتوسطة لمقاومة. فقد أدى الانخفاض الكبير في مستويات المعيشة ووصول التضخم الى مستوى يصعب تصديقه الى الرغبة البائسة لجميع الطبقات في بديل ما.

حضر مينيم الى منصبه وهو يعد بتوفير البديل وتمتع بدعم شديد من بيوروقراطيات النقابات العمالية ومعظم العمال. لكن روابطه الأخرى بقطاعات من أصحاب الشركات الضخمة – الباحثين عن نموذج جديد للتراكم – جعلته يلجأ الى الرئيس السابق للبنك القومي أثناء حكم الديكتاتورية والاقتصادي المتمرس في هارفارد – دومينجو كافالو – للحصول عليه. تبنى كافالو وجهة النظر التي ترى في الليبرالية الجديدة الخلاص من أزمات الرأسمالية الأرجنتينية.

 

صانع معجزة الليبرالية الجديدة:

انه فصل الربيع في بيونس آريس. تبيع الحكومة كل ما يقع عليه النظر. اللافتات الاعلانية الضخمة تعلن عن مباني المكاتب في شيك كالي فلوريدا وأكرات الواجهة المائية. ويتم ترحيل وحدات الجيش لتحل محلهم المباني السكنية. أصبح لكل زرافة ونعامة وللفيل الهندي البالغ من العمر 48 عاما والمسمى بنورما مالكا خاصا بعد بيع حديقة الحيوان.

لم تتوقف عملية الخصخصة عند المدينة واتسعت لتشمل حقول البترول التي فتحت لأول مرة للمستثمرين بالقطاع الخاص. سوف تنهي عملية سكب السيولة أزمة الديون لعقد كامل. ” في خلال عدة أشهر، ستصبح ( الديون ) جزء من التاريخ القديم ” يتفاخر دومنجو كافالو، وزير الاقتصاد بالأرجنتين. لذلك، يحتشد اليوم المستثمرون الى أمريكا اللاتينية.

ان التغير في الثلاث سنوات الماضية لا يقل عن كونه ثورة اقتصادية مركزها الخصخصة. في الوقت الذي سقطت فيه الاشتراكية مدوية في اوروبا، تهاوى النظام التقليدي المتمركز في ادارة الدولة للصناعات الاستراتيجية بهدوء. الآن ينحني اللاتينيون كأهالي أوروبا الشرقية للسوق الخاص ويتسابقون للاستثمار لانعاش اقتصادهم المتردي. ان التغيير يعني فرصة ضخمة لبنوك العالم الأول التي تجمع العمولات مقابل المساعدة من خلال التعريف بحيل التمويل والاندماج والكسب المأخوذة عن الشمال.

هذا هو تحليل جريدة بزنس ويك في 1991 (30). اشتركت معظم وسائل الاعلام التجارية بالاضافة الى ” خبراء ” الاقتصاد في المنظور المتفائل فيما يخص المكاسب المتوقعة من الأرجنتين وانتهاء حلقة الأزمات والديون. استمر التفاؤل لمدة ست سنوات على الرغم من فترة الركود القصيرة التي مرت بها الأرجنتين بعد أزمة ” تيكيلا ” المكسيكية في 1994. ” انني شديد التفاؤل “، هذا ما قاله والتر مولانو – مدير قسم الأبحاث الاقتصادية والتمويلية في واربورج بنيويورك. وقد أضاف قائلا: ” ان الدولة تشهد بشكل واضح نتائج اصلاحات 1991 –1995 والتي يحتاج البعض منها الى فترة تبلور….يفترض أن يكون الحد الأدنى للنمو في السنة المقبلة 6% ” (31). وكتبت جريدة فاينانشل تايمز ” مرونة الاقتصاد بعد الاصلاحات ” (32).

كانت ” الاصلاحات” عبارة عن تطبيق واسع النطاق للشروط المنصوص عليها في ” اتفاقية واشنطن ” والتي يبشر بها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – الخصخصة الفعلية لجميع صناعات ومرافق القطاع العام واستبدال معاشات الدولة ورعايتها الصحية بهيئات خاصة وبتر ما تبقى من ضرائب على الواردات وتشجيع تدفق رأس المال الأجنبي وتتويج كل تلك الشروط بربط قيمة البيزو بالدولار الأمريكي في 1992. وبالمقابل وافق صندوق البنك الدولي على مساعدة الأرجنتين في التفاوض على دفع ديونها كجزء من خطة برادي لأمريكا اللاتينية.

كان من المفترض أن تدفع الصفقة الى اعادة بناء الصناعة باخراج العمال من القطاع العام واغلاق الشركات الخاصة الغير فعالة بينما يتم تشجيع تدفق رأس المال الأجنبي الكفيل بتنمية الصناعة الأرجنتينية وتمكينها من المنافسة العالمية. تماشى ذلك مع اقامة الأرجنتين للسوق الاقليمي المشترك ” ميركوسور ” مع البرازيل وأوروجواي وباراجواي.

قوبلت تلك التعديلات بالفرح في أوساط التمويل العالمية لرغبتهم في شراء الشركات الأرجنتينية بأسعار منخفضة. كما قوبلت بالترحاب من قبل قطاعات مهمة من الطبقة الحاكمة في الأرجنتين – فبدلا من أن يكونوا أسماكا كبيرة ببركة أرجنتينية سيصبحون أسماكا متوسطة الحجم في البحيرة العالمية. أذعنت أعداد كبيرة من الطبقة العاملة والمتوسطة للتعديلات نظرا للحالة البائسة التي كانوا عليها منذ بداية العقد آملين في التخلص منها تحت ظل وهم مينيم البيروني “صديق العمال “.

صاحب التعديلات تحسن محدود في ظروف عدد كبير من الجماهير نتيجة لنمو الاقتصاد حتى سنة 1994. توقف هبوط الأجور الحقيقية وارتفعت عن الحد الأدنى لسنة 1989 (33). كما ارتفع معدل التعيين لعدة سنوات في أغلب المجالات (34). وأحس أصحاب الأعمال الحرة والتجارات الصغيرة والمتوسطة أن خطر الافلاس قد زال. ورأى العاملون بالأجر من الطبقة المتوسطة ( أو بالأخص الأقسام الأعلى مهنيا من ذوي الياقات البيضاء ) أن زيادة عدد العمال الشبه مهرة أو الغير مهرة ضد مصالحهم (35). كان الاحساس بالتحسن عند البعض كافي لنجاح مينيم في انتخابات الرئاسة لسنة 1994 ونجاح الحزب البيروني في انتخابات الكونغرس في 1996. تماما كما حدث ببريطانيا مع انتعاش ” ثاتشر – لوسون ” في الثمانينات، فقد خلق التحسن في ظروف بعض الجماهير وهم التحسن الدائم وولّد الحديث عن العصا ” السحرية “.

لكن ببداية 1992 أصبحت عملية منطقة واعادة بناء الصناعة تتم بشكل سريع. حدث الغاء واسع النطاق لوظائف معينة – حوالي وظيفة من كل عشر وظائف في التصنيع ووظيفة من كل خمس وظائف بالكهرباء والمياه والغاز. وارتفع معدل البطالة بحدة الى أن وصل الى 18% في 1994 – 1995. ومن هنا استمر ارتفاع معدل البطالة على الرغم من اعادة انتعاش الاقتصاد من 1995 الى 1998. على الرغم من اطراء جريدة فاينانشل تايمز ل ” الاصلاحات ” في 1997، تمكنت من ابداء هذه الملاحظة:

” فشل النمو الأسرع في أن يترجم الى انخفاض ملحوظ في معدل البطالة على الرغم من الظواهر التي تشير الى وظائف جديدة. يعد ارتفاع معدل البطالة أحد عناصر زيادة التوتر الاجتماعي في هذا العام” (36).

تتلخص ” المعجزة ” بالنسبة لجماهير العمال على ثبات الأجور الحقيقية الى حد ما عند المستوى المتدني تاريخيا مع اتساع حجم بركة العمال المواجهون للبطالة الى أجل غير مسمى. ونظرا لاقتصار اعانة البطالة على بضع أشهر، ترجم ذلك الى نمو الفقر المدقع بين الجماهير.

كما أن ” المعجزة ” لم ترقى الى المستوى الذي تمنته البرجوازية الأرجنتينية تاريخيا أيضا. فعلى الرغم من نمو الناتج القومي بنسبة 25%، لم تتمكن صناعات الرأسمالية الأرجنتينية من احتلال السوق العالمي أو حتى الاقليمي ” ميركوسور “.

فقد عاد الوضع بشكل أو آخر الى ما كان عليه منذ عشر سنوات من حيث الناتج القومي على الرغم من الآمال التي استمرت ما يقرب من نصف القرن. فعلى العكس من فترة حكم الجانتا، غرق السوق المحلي بالمنتجات الأرجنتينية. كان هناك محاولات للتوازن بشكل متكرر لتغطية العجز.

لقد تمت تغطية الفجوة والسلبيات المهمة من خلال تدفق رأس المال الأجنبي وفواتير الخصخصة الأمر الذي مكن كافالو من التأكيد – سنويا – على الاختراق العظيم المنتظر لزملائه، عناصر الطبقة الحاكمة. فقد قرر تجاهل أن رأس المال الذي يتدفق بسرعة الى دولة ما بامكانه أن يتدفق بالخروج منها عند التشكك في مستوى الأرباح المتوقعة. في غضون ذلك، كانت الديون الخارجية تتراكم بشكل يتعذر سداده.

 

السقوط والسحق:

جاءت اللحظة الحاسمة مع تأثير الأزمة الآسيوية على امريكا اللاتينية في 1997. أصاب الممولون ورجال الأعمال القلق المفاجئ حيال ” الأسواق النامية ” التي يفترض أن تكون آمنة ومربحة – بما فيها أسواق أمريكا اللاتينية – وقاموا بسحب أموالهم الى خارجها. أدى ذلك الى دفع الأرجنتين الى الركود ثانية بعد ركود سنة 1994 المرتبط بالأزمة المكسيكية. وقام المقرضون الأجانب والأرجنتينيون برفع فادح لمعدلات الفوائد على القروض التي اعتمدت عليها الحكومة ورجال الأعمال. فكما أشار الخبير الاقتصادي جوزيف ستجليتز الذي تم الاستغناء عنه لنقده للبنك الدولي:

” أصبحت أزمة شرق آسيا في 1997 أزمة تمويل عالمية برفعها لمعدلات فوائد جميع الأسواق النامية بما فيها الأرجنتين. دفعت الأرجنتين ثمنا باهظا للحفاظ على التبادل التجاري من خلال مضاعفة معدل البطالة. أجهدت ميزانية الدولة بسرعة تحت ضغط ارتفاع معدلات البطالة……بوصول معدل الفائدة الى 20%، صرف 9% من الناتج المحلي للدولة سنويا في تمويل القروض. وقد ارتفعت قيمة الدولار الذي ارتبط به البيزو. بينما هبطت قيمة عملة شريك الأرجنتين التجاري ميركوسور في ميركوسور. حدث هبوط في الأجور والأسعار لكن ليس بالدرجة التي تسمح للأرجنتين بالمنافسة بشكل فعال (37).

فيما يخص منافسة الأرجنتين للبرازيل، فقد أدى الضعف الطويل الأمد للرأسمالية الأرجنتينية الى تفاقم الوضع من جراء انخفاض العملة البرازيلية الذي جعل سلعها أرخص في السوق العالمي والأرجنتيني على حد سواء. بدأت الشركات الأرجنتينية – الغير قادرة على الاقتراض بسهولة – بالاقتطاع من الانتاج وخفض الأجور لحماية أرباحها. انخفض انتاج السيارات بنسبة 47% في سنة واحدة(38). وانخفض عدد العاملين بصناعة النسيج والأحذية الى نصف ما كان عليه في 1990 (39). وببداية الأزمة الاقتصادية في الثلاث مراكز للرأسمالية العالمية

( الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي، اليابان ) في العام الماضي بدأت بالسحق. تفاقمت البطالة الى أن وصلت الى 20% وانخفضت أجور القطاع الخاص بمقدار الخمس على الرغم من المستوى المتدني الذي كانت عليه.

فاقم الاقتطاع من العمالة وخفض الأجور من الأزمة لدى قطاعات الشركات الصغيرة والمتوسطة. ببداية سبتمبر 2001 انخفض اجمالي المبيعات بنسبة

8,4% أما المبيعات في المراكز التجارية فانخفضت بنسبة 21% (40). توضح الاحصائيات الرسمية اليوم أن 40% من السكان كان يعيش تحت خط الفقر. تعد هذه كارثة اقتصادية بالنسبة لما حدث للألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية في أوائل الثلاثينات.

لكن الأوضاع ازدادت سوء في الربع الأخير من السنة. عانت الدولة من العجز في الميزانية بحيث كانت تنفق أكثر من دخلها فقد صاحب كل تقلص اقتصادي انخفاض في الدخل الضريبي ( انخفض بنسبة 14% في تلك السنة حتى سبتمبر 2001). ببساطة، لم تملك الدولارات الكافية لسداد ديونها – ومنعت مجمل سياساتها مصادرة دولارات الأغنياء التي أخذت في التسرب الى الأماكن الامنة بخارج الدولة. لم يكن بوسعها الاستمرار الاّ باللجوء الى صندوق النقد الدولي الذي طالب بالمزيد من الاقتطاع من مصروفات الدولة.

كانت النتيجة تبني السياسة الاقتصادية التي أجمع خبراء الاقتصاد على كونها ” ” الغلطة ” المميتة في الثلاثينات والتي لن يعاود تكرارها ثانية. كان من الحتمي أن يؤدي كل اقتطاع في مصروفات الدولة الى تعميق الركود وأن يؤدي كل تعميق للركود الى زيادة العجز في ميزانية الدولة نتيجة لانخفاض الدخل. على أي حال، كان ذلك اقتراح صندوق النقد الدولي – الذي وافقت عليه حكومات الأرجنتين المشكلة من الحزبين الرأسماليين الرئيسيين.

 

سياسات الركود:

قضت بداية مرحلة الركود الجديدة على حكومة مينيم. أسفرت انتخابات 1999 عن نجاح ساحق لحليف الحزب الراديكالي والذي يفترض أن يكوّن كتلة يسارية جديدة ومنتخبة – فريباسو. لكن استمرت الحكومة الجديدة في اتباع سياسات الحكومة السابقة وقدمت حزمة من الاقتطاعات الجديدة في مايو 2000 وحزمة أخرى في السنة التالية. أجبرت المقاومة الجماهيرية الرئيس دو لا روا على سحب حزمة مارس 2001 وفصل الشخص المسؤول عنها – لوبيز مرفي. لكن سرعان ما أسعد الداعمون لليبرالية الجديدة بتعيينه لكافالو بدلا منه. فقد قالوا أن عودة

” صانعي المعجزات ” قد تخرج الرأسمالية الأرجنتينية من مأزقها مرة أخرى.

خلال خمسة أشهر اتضحت الحقيقة الاحتيالية لقوة مشروعه الاعجازي. فقد اضطر الى اللجوء الى صندوق النقد الدولي من أجل القروض موافقا على اقتطاعات أكبر من الميزانية وفرض اقتطاعات من أجور ومعاشات القطاع العام بنسبة 13% – حدث ذلك تحت ظل مباركة توني بلير عند توقفه في الأرجنتين في طريقه لقضاء عطلته في المكسيك. على أي حال، اتضح في تلك الأثناء عدم قدرة كافالو على سد العجز بميزانية الدولة بدون فرض الجوع على الجماهير. فكما اضطر رئيس تحرير جريدة فاينانشل تايمز الى التصريح:

لقد أصبح واضحا الآن أن الأرجنتين لن تتمكن فعليا من الهروب من التحطم البطئ لقطارها. فالوضع المالي يسوء نظرا للسقوط في الانتاج. وان زعزعة الثقة الناجمة عن ذلك قد دفعت بالفائدة على اقتراض الدولار الى أن تصبح اعلى منهم بالخزانة الأمريكية بنسبة 20% نقطة. لا يسع الاقتصاد الا الانفجار داخليا بمثل تلك المعدلات للفائدة. ان الخطوة المنطقية الوحيدة في مثل تلك الظروف هي الجمع بين تخفيض قيمة العملة والتخلف عن سداد الديون. يكمن الخوف من مثل هذه الخطوة في خطورة اطلاق الزناد للهروب من العملة والعودة الى تضخم شديد الحدة. لكن، بقاء ديون الدولار الضخمة قد يؤدي – أيضا – الى الافلاس الجماعي ( 41).

وبعد أسبوع من صدور المقال السابق ذكره، صرح اقتصادي كبير وسابق في صندوق النقد الدولي بمنظوره الكافر الذي يرى استحالة تغطية الحكومة للعجز على النحو الذي يريده صندوق النقد الدولي:

يتضمن التقييم الواقعي لمأساة الأرجنتين…..نتائج صناعة السياسات العالمية. سيكون العجز بالقطاع العام في هذه السنة أكبر بكثير من الستة بليون دولار التي يهدف اليها برنامج صندوق النقد الدولي…..ففي الأغلب سيتراوح العجز السنوي لهذا العام بين 20 و 25 بليون دولار. فحالة الركود الشديدة التي يغرق بها الاقتصاد لن تسمح في الغالب للحكومة بأن تخفض متطلباتها التمويلية لعام 2002الى أقل من 12 الى 15 بليون دولار (42).

لم يكن كافالو مستعدا لسماع مثل ذلك الحديث. وقد قاوم اقتراحات البعض في صندوق النقد الدولي في احتذاء نموذج البرازيل بصدد تخفيض قيمة البيزو. بينما رفض صندوق النقد الدولي نفسه القيام بأي عمل ايجابي لمساعدته. لم تعتبر الادارة الجمهورية بواشنطن أن للأرجنتين أهمية استراتيجية وتحدثت عن

” المجازفة الأخلاقية ” حيال تخفيف عبء الديون عن الأرجنتين. وبلغ موقفها الدرجة التي جعلتها تقترح أنه يتوجب على الجهات التي جازفت بحماقة باقراض الأرجنتين ان تتحمل جزء من مسؤؤلية أخطائها. مما لا شك فيه أن السبب وراء تشجيع مثل ذلك الاتجاه يكمن في أن الضرر الفادح من جراء انهيار الأرجنتين والذي سيحل بالشركات الأوروبية – وخاصة الأسبانية – أكبر بكثير من نظيره الواقع على الشركات الأمريكية ( 43 ). وبالتالي، بدأ صندوق النقد الدولي بتوضيح عدم فتحه لباب الاقراض ما لم تقوم الحكومة باقتطاعات أخرى وحشية. في تلك الأثناء، كانت الادارات الحكومية والمحلية غير قادرة على دفع مستحقات العاملين بها بالعملة المحلية وكانت قد لجأت الى صرف الكوبونات التي يمكن استبدالها بالسلع في محلات معينة.

من هنا لجأ كافالو الى الاجراءات التي لم تفقر الطبقة العملة فحسب بل وقطاع كبير من طبقة المهنيين وأصحاب الأعمال الحرة. قام بسحب الأموال من صناديق المعاشات الخاصة لدفع الفوائد على الديون وفرض نظام التقييد ( كوراليتو ) على مجمل الأرصدة الخاصة في البنوك بحيث لا يتمكن الجماهير من سحب أكثر 1000 دولار شهريا ( حوالي 150 دولار في الأسبوع ). هرع الجماهير الى البنوك لسحب أموالهم – ليواجهوا ماكينات السيولة الخاوية والأرتال اللانهائية. وبعد ذلك، في 17 ديسمبر قدم حزمة جديدة من الاقتطاعات تصل قيمتها الى 9 بليون دولار.

وصفت الكثير من أجهزة الاعلام الدولية عملية التقييد ( كوراليتو ) كاجراء خاص بالأغنياء – أصحاب الأرصدة الكبيرة. لكن الواقع أن الأغنياء قد قاموا بنقل أموالهم منذ أمد طويل الى الأماكن الآمنة بالخارج. الحقيقة أن الكوراليتو قد أصاب قطاعات البرجوازية الصغيرة والمتوسطة – العمالة المهنية الحرة وأصحاب الشركات الصغيرة التي يعمل بها بضعة أفراد وأصحاب المحلات. كانت تلك المجموعات تحتفظ بمعظم دخلها في البنوك وتنظر بعين الحسرة الى مدخراتها نتيجة لعدم توافر الفرص التجارية أو عجز الآخرين عن سداد الديون لهم. وقد اصبحوا الان بلا دخل حالهم كحال الكثير من ذوي الياقات البيضاء الذين تضاف مرتباتهم بشكل منتظم الى أرصدتهم. وأخيرا، اعتمد الكثير من العمال العاطلين عن العمل على أرصدتهم – التي كانوا يدخرون فيها القليل مما تبقى من أجورهم أو مدخراتهم السابقة – في معيشتهم.

في الواقع، ان ما فعله كافالو لم يكن سوى اعلان أن الرأسمالية الأرجنتينية ودولتها لا تأبه بالطبقات المتوسطة أكثر مما تأبه بالعمال. فكانت أكبر حركة انضمام للطبقة المتوسطة مع العمال ( بروليتارية). ردت الطبقات المتوسطة عن طريق الخروج الى الشوارع مع العاطلين عن العمل في 19 – 20 ديسمبر – والاطاحة بالحكومة.

 

طرق الأواني وحركات العمال العاطلين عن العمل:

(ساسيرولازوس وبيكويتيروس)

كانت الحالة الثورية ليومي 19 – 20 ديسمبر ” عفوية ” بمعنى أنه لم تصدر جهة معينة نداء لقيامها ولم تقم قوة سياسية بتوجيه تطورها. فجاءت خليفة لأيام 14 يوليو 1789 وفبراير 1848 في فرنسا، وفبراير 1917 في روسيا، ونوفمبر 1918 في ألمانيا، وأكتوبر 1956 في المجر، ومايو 1968 في فرنسا – وبشكل أقرب ديسمبر 1989 في رومانيا، و1997 في البانيا، و2000 في الصرب. ففي كل حالة اتحد غضب مجموعات مختلفة تحت ضغط هموم معينة آخذا طابع القوة القابلة للتفجر التي لا تستطيع السلطة مجابهته. فلاذ بعض القادة بالفرار بينما انحنى البعض الآخر لقوة الحركة الغاضبة في محاولة لاستعادة السلطة في فترة تالية.

توضح التقارير الخاصة بالحالة الثورية في الأرجنتين مصادر الحركة المتنوعة. تجمهر الجياع من الجماهير أمام محلات السوبرماركت في طلب الطعام ولجأ هؤلاء الى الهجوم ونهب البنوك عندما لم تلبى مطالبهم. وكان هناك تجمعات أخرى بالأحياء غضبا من التقييد ( كوراليتو ) واتجه هؤلاء الى مركز المدينة محدثين ضجة بطرق أوانيهم. كما انضم الشباب الى الحركة بعدما بدأت وكذلك السيدات المحتجات – كما في كل يوم خميس – على اختفاء أطفالهن وأزواجهن أثناء الحرب القذرة للجانتا. لكن بمجرد تحالف تلك القوى في مواجهة قمع الشرطة الذي أسفر عن مقتل 23 شخص في بيونس آريس ( و20 شخص على مستوى الدولة ) لاجبار كافالو على الاستقالة والرئيس على الفرار، أضاف عامل الحركة المطالب المحددة لحدث طرق الأواني ( ساسيرولازو ). فخرج الجماهير الى الشوارع مرة أخرى بعد تسعة أيام موجهون غضبهم في هذه المرة ضد خليف كافالو – رودريجو ساء – واقتحام مبنى الكونغرس لارغامه على الاستقالة. وقد وصفت جريدة باجينا 12 بعد ثلاث أسابيع موجة الاحتجاج الأخرى ب:

” الشبح الذي يبعث الرعب في البيت الزهري ( قصر الرئاسة ) ” (44).

ففي هذه المرحلة كان الاحتجاج في بيونس آريس قد أخذ طابعا ثابتا. وصفت جريدة باجينا 12 احتجاج نموذجي اشترك به الطبقة المتوسطة الدخل وسكان الأحياء الفقيرة:

“بدأت حركة طرق الأواني بمناطق متفرقة في المدينة واخذت بالنمو في العدد والكثافة. بدأت بالشرف والمداخل والضغط على ابواق السيارات بحماس في باريو نورت. لم تكن هناك أناشيد أو شعارات ولم يقم أحد بسد الطريق لكن بدأ الصوت بصم الجميع. وفي الساعة التاسعة مساء بدأ الجماهير بالخروج الى الشارع في بلجرانو. بدأت مجموعة بالغناء وطرق المعادن…وبدأت مجموعات بالنمو في كابيلدو وجورامنتو. وفي سان كريستوبال – الحي النشيط جدا في الساسيرولازوس السابقة – تجمهر الجماقير في سان جوان ولا ريوجا. بدأ التجمهر أمام الكونغرس في الساعة الواحدة مساء – بدأ ذلك بالعشرات ومن ثم المئات حتى وصلت مجموعات هائلة من الجماهير من أحياء سدت طرقها بالكامل. عندما وصل التجمهر الى كتلة هامة، تشكل صف متجها الى بلازا دو مايا” (45).

كان هدف المحتجين تغيير سياسة الحكومة – أو حتى تغيير الحكومة كما فعلوا في 20 و 29 ديسمبر. وعندما أحبطت أهدافهم، حاولت القطاعات الأصغر والأفقر من الجماهير اقتحام مبنى الكونغرس مما أدى الى مواجهات عنيفة مع الأمن.

ان نموذج الاحتجاج المتكرر في الشارع شديد الشبه بالنموذج الذي سلكته الثورة الفرنسية في 1789 – 1794 عندما ملأت القطاعات الفقيرة الشوارع متحركة نحو رموز القوة بمركز باريس. أخذت أول حالة ثورية في القرن الحادي والعشرين نفس طراز ثورة القرن الثامن عشر!

أدرك الجماهير ضرورة التنظيم بعد نجاح أول ثورة عفوية. حاولت بعض القطاعات من الاعلام ببث التصور أن كل شيء قد انتهى، مدعين أن الناس يملؤون الشواطئ ( نظرا لوجودها في نصف الكرة الجنوبي، كان فصل الصيف).

وصورت قطاعات أخرى رعب الطبقة المتوسطة من عصابات الجماهير الفقيرة التي تقتحم منازلهم وتسرق ممتلكاتهم ( مما يذكر ” الفزع الرهيب ” في الثورة الفرنسية ). قامت قيادات هامة للنقابات العمالية بدعم الحكومة ومحاولة تهميش المحتجين. في غضون ذلك، كانت المشاكل الحقيقية تواجه العمل العفوي. ففي حالات معينة لم يقتحم العاطلون عن العمل والفقراء الجياع محلات السوبرماركت وشركات المنتجات الغذائية فقط وتعدوا ذلك بالهجوم على شركائهم في الفقر من أصحاب المحلات الصغيرة والبائعين بالشوارع – الأمرالذي عرضهم للوقوع في يد السلطة. كان الشباب الذي يتحمل الوطأة الأكبر من اعتداءات الأمن أكثر عرضة من غيرهم للانفصال عن الجماهير المحتجة مما يسهل قيام عناصر الأمن المندسة بعمليات استفزازية لتبريرالسياسات القمعية. وأخيرا، كان من الضروري منع القادة البيرونييون في الحكومة من اللجوء الى الخدمة القديمة – تحريك العصابات للهجوم على المحتجين نظير 30 أو 50 بيزو يوميا.

بدأ الجماهير بعقد ” الاجتماعات الشعبية “، كما تقرر احدى الجرائد التي تصدر من أحد الأجزاء الفقيرة في بيونس آريس:

” قال سكان سان كريستوبال ” لقد عشنا في الأسابيع الأخيرة بين الحماس والخوف. لقد قمنا بأشياء لم نفكر حتى فيها من فبل ولازلنا لا نعرف ما الذي يتوجب علينا فعله بعد “. لقد تجمهروا بركن في لاريوجا وسان جوان للقيام بالاحتجاج ضد دولاروا وقاموا بمسيرة الى الكونغرس. وتقابلو في اليوم التالي لشجب القمع. وقد قاموا بحركة طرق للأواني أخرى عندما نصب المجلس التشريعي دوهالدي. في يوم الأحد استجاب 150 شخص لنداء الاجتماع في بلازا مارتن فيرو وتشكل تنظيم ثابت ومنفصل عن الأحزاب.

كان من الحضور: قسيس والعديد من ربات النزل وعضوين بالحزب الشيوعي وعضو بحزب العمال وصاحب حانة وستة عاطلين عن العمل….والقادة المحليين للحزب البيروني والعديد من المتخصصين في علم النفس الاجتماعي وطلبة الجامعات ومجموعة من العمال بمستشفى قريبة. قال أحدهم، ” نحن نعد قائمة بأسماء جميع العاطلين عن العمل بالحي “. وقال آخر ” نحن نحافظ على الأمن فقد اشتبهنا في بعض الوجوه في حركة طرق الأواني الأخيرة ” و ” نحن ندعو لحركة طرق أواني جديدة ضد ارتفاع الأسعار ” (46).

ومن هنا بدأت الاجتماعات بالانتشار في المدن وعشرات المراكز الريفية. فقد وصفت الجريدة الفرنسية ليبيرايشن ( الحرية ) الجو العام لهذه الاجتماعات في الأحياء الأغنى قائلة:

الساعة 11 مساء في مفترق الطرق للشارعين كابيلدو وكونجرسو. حاملا هتفه التنقل الكبير يحاول رجل في حوالي الثلاثبن السيطرة على الوضع. ” سوف ننتقل الى التصويت على الآراء المقترحة هذا المساء ” – الامتناع عن سداد الديون الخارجية والتحقيق حول شرعيتها وتأميم البنوك ومراجعة عقود المؤسسات التجارية الأجنبية التي تدير الخدمات العامة والتي أغضبت الكثيرين نتيجة لسلوكها المغتصب. استمر الاجتماع لمدة ثلاث ساعات في يوم الاثنين الماضي وتحدث عشرون شخص. حاول المسؤول أن يحدد حديث الفرد الى دقيقتين لكن الغالبية العظمى من المتحدثين تجاوزوها. انهم ليسو نشطاء في أي حزب. وقد جاءوا بشعار موحد : الاجتماع الشعبي لمنطقة بيلجرانو.

لقد تكرر هذا المشهد في كل مساء طوال شهر من يوم اللاثنين الى السبت في حي أو آخر بالمدينة. ويجتمع حوالي 5000 شخص في الحديقة العامة سنتيناريو لعقد أم الاجتماعات الذي يجمع الجماهير من جميع أنحاء الدولة. اسفرت تلك الاجتماعات عن أول حركة طرق أواني ذات حجم قومي تضم عشرات الآلاف من الجماهير في جميع شوارع المدن الكبيرة (47).

يصف أحد الصحفيون بجريدة الجناح اليساري المكسيكي لا جورنادا صورة مشابهة:

” يعمل العشرات من اجتماعات الأحياء كنتيجة صادقة للتنظيم الشعبي بعد ثورة طرق الأواني. انهم يطالبون بمعرفة حقيقة الوضع ومعاقبة المسؤولون عنه – بسخط واضح على البنوك الأجنبية والخصخصة. الجماهير تتحدث في تلك الاجتماعات اليوم عن العشر بلايين التي أخذتها شركة الكهرباء ايدينور آند ايديسور وعن الربح الذي تحققه شركات الاتصالات – يصل 800 و1000 مليون دولار كل عام “(48).

يقرر أحد المشتركون في أحد اجتماعات المدينة في الحديقة العامة سنتيناريو:

” حضر 6000 شخص من حوالي 80 لجنة حي بالمدينة والقرى وضمت حركة العمال العاطلين عن العمل. عكست الشعارات نضج مطالب الجماعات المختلفة وضرورة خلق قنوات شعبية منفصلة عن الأجهزة السياسية ” (49).

تضمنت المطالب الامتناع عن سداد الديون الخارجية وتأميم المؤسسات الخاصة تحت ادارة العمال ولجان الحي وعقاب المسؤولين عن القمع في 19 و 20 ديسمبر و 25 يناير. بالاضافة الى تأسيس لجان أمنية على مستوى الأحياء والمدينة للتعامل مع محاولات قوات الأمن الاستفزازية أثناء الاجتماعات والمظاهرات ودعم حركات العمال العاطلين عن العمل ( بيكويتيرو ) واعلان الكونغرس الوطني المكون من المنظمات واللجان الشعبية ودعم نضال عمال السكك الحديدية والاتصالات والنسيج ونقد لسلوك قادة النقابات العمالية لامتناعهم عن دعم المطالب.

عقدت اجتماعات مماثلة بمدن ريفية متعددة ومتفاوتة في الحجم – في كوردوبا وفي نيكين وفي مرسيدس وفي لابلاتا وفي أولافاريا…وغيرهم(50). وفي كل حالة، لم تكن الاجتماعات لمجرد الحديث. كانت الأحاديث تدور حول المواضيع المحلية – المطالبة بالأدوية للصيدليات المحلية ودعم العمال في نضالهم للحفاظ على مصانعهم مفتوحة والذهاب الى محلات السوبرماركت لطلب الطعام والى البنوك للاصرار على دفع أجور العاملين بالقطاع العام والاعتراض على السياسات القمعية بالاضافة الى رفع المطالب الخاصة باعادة تأميم القطاع الخاص والنضال ضد البنوك والتقييد ( كوراليتو ).

تعبر لجان الحي والاجتماعات الشعبية عن حاجة أولئك الذين قاموا بالاطاحة بالرؤساء الى التنظيم. انها الشكل الذي اتخذه الرفض الشعبي الجماهيري للنظام القديم. في ذلك السياق، يكون هناك شبه بينها وبين نضالات الطبقة العاملة التي ظهرت في القرن العشرين من حيث السمات الأساسية للنضال الجماهيري المنظم. لكن توجد – أيضا – فروق هامة بينهم.

أولا، تفتقر الاجتماعات الشعبية الى الكتل الممثلة. ان الجماهير الحاضرة تمثل أنفسها ولا تربطهم علاقات وثيقة بمجموعة ما لتمثيل مطالبها – ويمكنها محاسبتهم في حالة عدم تنفيذ تلك المطالب. ثانيا، انها تجمع شرائح من أصول طبقية مختلفة كما يتضح من انعقاد بعض لجان الحي بالأجزاء الغنية من بيونس آريس – مثل بيلجرانو وليبرتادور – علاوة على مناطق الطبقة العاملة والقطاعات الدنيا من المتوسطة.

أخيرا، لا تنعقد الاجتماعات الشعبية في أماكن العمل حيث يجتمع ويكدح ملايين الأجنتينيون بشكل يومي. يتشكل الحضور على الأغلب من مجموعات فردية من أماكن مختلفة ومنظمات العمال العاطلين عن العمل. تشيد التقارير بالدور القيادي الذي يلعبه المناضلون العاطلون عن العمل ببعض الاجتماعات نظرا لخبرتهم السابقة في النضال بالمصانع – يرفع شعار ” تيار الطبقة المقاتلة ” في الكثير من الاحتجاجات. لكن ذلك لا يجعلهم جسدا ممثلا للطبقة العاملة بالأرجنتين ذات التاريخ الطويل والحافل بالنضالات. ان وضع تلك الاجتماعات الشعبية يشبه شعب – الاجتماعات الجماهيرية الليلية بالمناطق – الثورة الفرنسية أكثر من مجالس العمال في 1905 و1907 بروسيا أو نوفمبر 1918 بألمانيا أو أكتوبر ونوفمبر 1956 بالمجر.

توجد سمة أخرى تربط بين الاجتماعات الشعبية وحركة طرق الأواني (ساسيرولازو). على الرغم من التهديد الواقع على البناء الكلي للرأسمالية الأرجنتينية من جراء المطالب الجماهيرية، فان اللغة المستخدمة ليست معادية للرأسمالية وبعيدة عن الاشتراكية. وينصب التركيز على فساد النخبة السياسية من جهة – الحزبين السياسيين الرئيسيين والمحكمة العليا والجنرالات – والاستثمار الأجنبي في عملية الخصخصة من جهة أخرى. الغة القومية هي السائدة فيعد العلم الوطني أكثر الشعارات شيوعا والنشيد القومي هو الأكثر شعبية في الهتاف.

لفهم هذه المعالم، يتوجب النظر الى التطور التاريخي لحركة الطبقة العاملة في الأرجنتين.

 

البيرونية والنقابات:

سيطر الحزب البيروني على حركة الطبقة العاملة بالأرجنتين لأكثر من نصف قرن بنهاية 1945 مثلما سيطر حزب العمال ببريطانيا. لم يكن ذلك الوضع قائما من قبل. ففي فترة ” سيمانا تراجيكا ” في 1919 كانت هناك تيارات قوية فوضوية ونقابية واشتراكية اصلاحية بالاضافة الى القوى الشيوعية المهمة في بداية العشرينات حتى بداية الأربعينات. لكن اصبحت البيرونية مسيطرة من بعد تلك المرحلة.

كان خوان بيرون متأثرا بالأفكار الاشتراكية للفاشية الايطالية ( فقد أمضى عامين بايطاليا في فترة حكم موسوليني ونفي الى أسبانيا في فترة حكم فرانكو بالستينات). لكن الحركة التي أنشأها لم تكن فاشية بالتأكيد. فقد تمكن ما بين 1943 – 1945 من تركيب صيغة تروق لقطاعات من الطبقة العاملة والبرجوازية وأجزاء من نظام الدولة. فقامت بتحويل الموارد من القطاع الزراعي الى بناء شركات صناعية تزود احتياجات السوق المحلي بينما كانت تلبي بعض مطالب الطبقة العاملة المناضلة والقوية. نجحت في تصوير ذلك كصراع قومي تخوضه الأرجنتين ضد ” الهيمنة ” الطفيلية المرتبطة ب ” الامبريالية “. لقد تمكن بذلك من انتزاع النقابات العمالية من القادة الشوعيين أو الاشتراكيين القدامى امّا بالرشوة أو بفرض أتباعه في ظل موافقة العمال.

كان تأييد الصيغة قد ضعف في الوقت الذي قام فيه الجيش بطرد بيرون في 1955 نتيجة لانخفاض مستوى معيشة الطبقة العاملة. لكن هجمات الحكومات الغير بيرونية المتكررة على منظمات العمال طوال 17 عاما أدت الى تعزيز مكانة الصيغة. فبدت فترة حكم بيرون كالعصر الذهبي مقارنة بالأوضاع التي تلتها. وكان واقع تمركز البيرونية المنظمة في بيروقراطيات النقابات العمالية طوال 17 عام من حظر الحزب البيروني يدعم التصور الذي يرى في البيرونية حركة الطبقة العاملة. كانت البيرونية بالنسبة للغالبية العظمى من العمال حركة الطبقة العاملة في ذلك الوقت. فقامت معظم النضالات ضد الهجمات المتعاقبة للجيش وللحكومات المدنية تحت شعارها.

لكنها بقيت تحالفا لطبقات مختلفة تسيطر عليه متطلبات جزء من الرأسمالية الأرجنتينية. أما على الصعيد السياسي فكانت تمثل البرجوازية المتوسطة – المستفيدة من السوق المحمي – والبيروقرطيين المسؤولين عن ادارة صناعات وبنوك الدولة الكبيرة والجديدة بالاضافة الى بيروقراطية النقابات. اتسمت بيروقراطية النقابات بالفساد منذ البداية نظرا لبناء الكثير من أعضائها الأفراد الروابط المربحة مع عناصر أخرى بداخل البيرونية. لكنها على الرغم من ذلك كانت تحتاج الى الدخول في صراعات للحفاظ على موقعها. وفي حالات معينة، رأت ضرورة القيام بأعمال محكومة بدقة لكن على درجة عالية من النضال – وأحيانا العنف – لفرض مصالحها مع الاحتفاظ بولاء العمال. كانت – من نواحي معينة – أشبه باتحاد امريكي فاسد مثل ” سائقي الثيران ” ( تيمسترس ) في عهد جيمي هوفا اذا ما استثنينا الدور المركزي لسياسات البرجوازية.

أقتربت الفترة الثانية للحكم البيروني من 1973 من تمزيق الحركة السياسية. فقد تنازل الجيل الجديد من الطلبة والعمال عن حقهم في التفسير الثوري لصالح البيرونية أثناء القمع المرير لديكتاتورية أونجانيا في أواخر الستينات. رأى الجيل الجديد في قومية بيرون نظير للثورة الكوبية وجيفارا ونضال التحرر للفيتناميين وحولوا نضال العمال في الأرجنتين الى جزء من النضال الوطني ضد الامبريالية (على الرغم من تمتع البرجوازية الأرجنتينية بالاستقلال منذ أمد طويل وعدم وجود قواعد أجنبية وصغر حجم الاستثمار الأجنبي). لقد دفع ذلك الشباب البيروني اليساري والمسلح الى تكثيف الاضرابات واحتلال المصانع والاحتكاك بقوات الأمن. لكن بمجرد عودة البيرونية الى السلطة عملت قواتها البرجوازية وقادتها السياسية على قمع الحركة العمالية واليسار– بشكل متزايد. فقام لوبيز فيجا– الوزير الرئيسي في حكومة ايزابيل بيرون – ما بين 1974 – 1975 بتنظيم العصابات المسلحة ( الاتحاد المناهض للشيوعية ) لاغتيال المناضلين بالنقابات المهنية واليساريين وشملت الاغتيالات أولئك الذين لازالوا رسميا ضمن صفوف البيرونية. وقد علقت بيروقراطية الاتحاد العمالي بين الترحيب بالهجمات على اليسار وبين حاجتها للاحتفاظ بسيطرتها على العمال – من خلال القيام بايماءات نضالية معينة كالدعوة الى أول اضراب عام ضد الحكومة البيرونية في 1975.

أتاحت الأزمة بداخل البيرونية الفرصة لتأثير القوى السياسية الأخرى. أصبحت التيارات ” الطبقية ” التي لم ترى في الطبقة العاملة حليف ل ” أصحاب العمل القوميين ” مهمة في الصناعات ” الجديدة ” في كوردوبا. وتطور تأثير الماويين في بعض الاتحادات المحلية. كما انفصلت منظمة تروتسكية عن الحزب البيروني ومعهم آلاف الأعضاء قبل انشقاقها الى جناح جيفاري – يتركز حول حروب العصابات ويتمتع بتأثير كبير في مناطق مثل كوردوبا – وحزب منافس يركز على العمل في الاتحادات (51).

لكن، استمر تأثير البيرونية لكونها الشكل الرئيسي للاصلاحية بالأرجنتين، على الرغم من اختلافها عن الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية. اكتفى العمال بما يقدمه لهم البيرونيون من أشياء محدودة من خلال النظام نظرا لفقدانهم للثقة في قدرتهم على هزيمة الرأسمالية. لن يحوّل العمال ولاءهم الا بظهور قوة سياسية ثورية تقودهم الى نجاحات محدودة على الأقل. وبذلك يتمثل الواقع المتناقض في أن الهزائم التي أحرزتها القيادة البيرونية أدت الى فقدان العمال للثقة وجعلتهم يعتمدون على القيادة ذاتها.

لقد ساعد الهجوم على اليسار بعد انقلاب سنة 1976 البيورقراطية البيرونية. أهلك الكثير من المناضلين – تقول الاحصائيات أنه قد تم قتل 10 آلاف من 100 ألف موظف بالمحلات أثناء ديكتاتورية الجيش. استمرت البيورقراطية في الصمود – بشكل أو آخر – واحتفظت بعلاقاتها مع الجنرالات وتمكنت من اعادة بناء تواجدها القومي ومن ثم القيام بايماءة حيال المرارة الاقتصادية التي يعاني منها الأعضاء العاديون للاتحادات العمالية من خلال الدعوة الى الاضرابات العامة ليوم واحد.

نجح المنتمون للمعارضة في انتخابات بعض الاتحادات بعد سقوط الجانتا، لكن كان تأثير الأفكار البيرونية على الطبقة العاملة ككل قوي في الثمانينات للدرجة التي جعلت الجماهير ترى في انتخابات مينيم في 1989 نصر كبير. فكما تقرر دراسة في نضال العمال ببيونس آريس:

في هذه اللحظة، يصدق الغالبية العظمى من العمال أن وجود البيرونية في السلطة يعني عودة الفترة التي كان يتقاضى بها العمال 47% من الدخل القومي وكان لهم وظائف وأجور تمكنهم من العيش….في المواني، يفقد أكثر العمال نضالا الأوهام الخاصة بالأحزاب البرجوازية وهرمية النقابات العمالية وقوانين وعدالة أصحاب العمل(52).

لقد سمحت تلك الأوهام لمينيم وكافالو بدفع عجلة الخصخصة واعادة البناء بدون مواجهة مقاومة منظمة. وقعت الاضرابات واحتلت المصانع نتيجة للوقع المرير لاغلاق المصانع وفصل العمال. لكن تمت تلك الانفجارات بشكل منعزل وتبعها الشعور بالهزيمة والاحباط المعنوي. ازداد الضغط على العمال لزيادة عملهم تحت ظل تهديد الادارة الصريح بالاغلاق ما لم يفعلوا. في تلك الظروف كان وقع المعاش المبكر على العمال أشبه بوقعه في بريطانيا في الثمانينات. وافق الكثير من العمال الذين لم يرو الا القليل من الأمل في الحفاظ على عملهم من خلال المقاومة الجماعية على أخذ الرشوة.

وافق الآلاف من العمال المناضلين بميناء أستليروس دو ريو سانتاجو على أخذ المعاش المبكر بشكل اختياري في عام 1981. قال أحد المناضلين: ” شكل المعاش المبكر اغراء للجميع، بما فيهم أنا ” (53). كتب المؤرخ الماركسي للحركة العمالية الأرجنتينية بابلو بوزي: ” عندما لم يعثر العمال على عمل أقاموا التجارات الصغيرة كأكشاك الصحف ومحلات الخضروات والبقالة. على سبيل المثال، ازداد عدد سيارات الأجرة ما بين 1988 و 1994 في بيونس آريس من 36 ألف الى 55 ألف ” (54).

أصبح العمال الذين حافظوا على وظائفهم أكثر اعتمادا من ذي قبل على الحماية الضئيلة التي توفرها لهم عضويتهم النقابية. لكن افتقارهم للثقة لخوض النضال بأنفسهم ترجم الى المزيد من الاعتمادية على بيروقراطيات النقابات. حتى عندما تعلق الأمر بالفصل، كان من الأفضل مناقشة الشروط السيئة مع بيروقراطي النقابات بدلا من الشروط البائسة والمفروضة من قبل أصحاب العمل بشكل غير قابل للنقاش. شعرت قطاعات من بيروقراطية الاتحادات بضرورة الابتعاد عن الحكومة، لكن هذا يختلف عن المبادرة بقيادة نضال جماعي.

وأخيرا، احتفظ العمال على الرغم من فقدهم للأمل في مينيم بمنتصف التسعينات بأوهام خاصة بنائب الرئيس السابق وحاكم بيونس آريس، دوهالدي. فقد حاول استخدام منصبه ليبعد نفسه عن الحكومة المركزية فعلى سبيل المثال ” خلق الأوهام بين صفوف الغالبية العظمى من العمال بالمواني ” (55).

في ذلك الوقت، كان دوهالدي يحاول انشاء أجهزة سياسية بيرونية بشكل منفصل عن الاتحادات من خلال ” شبكة محلية بالأحياء منشأة حول قادة الكتلة النسائية

( مانزانيراس ). عمل هؤلاء النساء كقناة لمعونة الحكومة وكهمزة وصل للخدمات السياسية…فقد عملوا كعنصر للتحكم بالأحياء والتحرك السياسي ” (56). تقترح التقارير أن دوهالدي يتمتع بقدر كبير من التأثير بالأحياء الفقيرة للمدينة بحيث تمكن من دفع المال لمجموعات لتتحرك ضد حكومة دولاروا ومن ثم ضد اليسار.

أثرت التجربة المريرة في التسعينات بالسلب فيما يخص سيطرة البيرونية على العمال المنظمين. بنهاية العقد كان هناك ثلاث فدراليات نقابية عمالية منافسة، لكن لم تختلف وسائل الفدراليات الجديدة بشكل جوهري عن تلك الرسمية. كانوا يقومون بالدعوة الى الاضراب في بعض الأحيان كوسيلة للضغط على أصحاب العمل والحكومة، لكنهم لم يحاولوا الحفاظ على نضالات ثابتة للدفاع عن أعضائهم. تمكن أحدهم من اشراك 40% من العمال بالدولة في اضراب عام بسنة 1997 الأمر الذي أدى الى أخذ الموقف ضد حكومة مينيم. لكن استمرت قيادة الفدرالية في تأدية دورها من خلال الضغط على عناصر السلطة والترويج لائتلاف فريبازو الراديكالي والبرجوازي (57).

لقد اتضحت حدود جميع فدراليات الاتحادات في أحداث ديسمبر الأخيرة. كان هنالك اضراب عام في 13 ديسمبر، لكن الاتحادات لم تقم بأي عمل في الأيام التالية مما أدى الى تغيب العمال كقوة منظمة في 19 – 20 ديسمبر. قامت احدى الفدراليات – المائلة لفظيا نحو اليسار – بالدعوة الى اضراب عام عندما كانت السلطة في مهب الريح في 20 ديسمبر وقد ألغي الاضراب بعد سقوط الحكومة. وبعد ذلك بأيام، تقابل قادة الفدرالية الرسمية مع رودريجو ساء قائلين أنه ” شخص بيروني من النوع القديم ” بدون أخذ الشعور الجماهيري المناهض للحكومة في الاعتبار.

منذ ذلك الحين، بدأت بعض الكتل النقابية المحلية والفدرالية اليسارية – لفظيا- بدعم العديد من الاحتجاجات. لكن استمرت الفدراليتين الرئيسيتين في الوقوف بعيدا عن الاحتجاجات في محاولة لفصل الملايين من العمال الذين لايزالوا يعملون – بشكل متقلقل – عن الحركة التي تمتلئ بها الشوارع والأحياء.

 

العقد المرير:

كانت الثورة عفوية لدرجة تجعل زعم غير ذلك مناف للعقل (58). لكن هذا لا يتنافى مع وجود تيارات معارضة قامت بتمهيد الطريق لها. من الممكن رؤية محاولات العمال لايقاف اغلاق المصانع وتسريح العمال طوال التسعينات كهزائم متلاحقة، لكنهم نجحوا في الحفاظ على روح مقاومة ونضالية اضطرت أنصار اللبيرالية الجديدة في حكومة مينيم الى تقديم التنازلات في بعض الأحيان. كثيرا ما اخذت الاضرابات العامة التي دعت اليها بيروقراطية الاتحاد طابعا شعائريا بلا مظاهرات، لكنها أدت الى تجميد صفوف عريضة من المصانع والنقل

موضحة وجود القوة التي بامكانها أن تشل النظام. كما قامت باجبار أنصار اللبيرالية الجديدة على سحب بعض مطالبهم – مثلما حدث لدى استقالة كافالو في 1996عندما أراد الاقتطاع من أجور ونصيب الأسرة (59). يعجز العمال الذين انصرفوا عن الاضراب عن رؤية – الواقع البسيط – الذي يجسده هذا الاضراب من قوة للعمال على الرغم من سلبيته (60).

ظهرت أشكال جديدة للنضال الى جانب الأشكال ” القديمة “. فقد ظهرت أولى الحالات الثورية مع الأزمة الاقتصادية لسنة 1989 :

” تحرك الجماهير للتخلص من الحكومة في مقاطعة باتاجونيا في 1989. وبعد ذلك قام الآلاف من جماهير بيونس آريس وروساريو بالتحرك ونهب محلات السوبرماركت والبقالة في شهر يونيو لنفس السنة. تحركت الأحياء والمدن المختلفة العديد من المرات في السنتين التاليتين…ازداد عنف الاحتجاجات في 1993 من خلال الهجوم وحرق مقر الحكومة في كل من مقاطعة سانتياجو دل استيرو ولا ريوجا وشاكو وتوكومان وكورينتس. تميزت تلك الاحتجاجات بوقوعها بشكل غير متوقع وسريع – فبالكاد استمرت لأكثر من يوم – وعدم تركها لأي أشكال أولية للتنظيم. فبدت أقرب الى الرغبة الملحة للتنفيس عن الغضب والاحباط المتراكمين من كونها شكل جديد للنضال. على الرغم من عنف الحركات وانتشارها كانت السيطرة عليها سهلة نسبيا. فحاولت الحكومة أن تتجاهلها في حميع الحالات انتظارا لخمودها ومن ثم لجأت الى القمع الأمني(61).

كانت تلك الحركات المحلية والأشبه بالثورة في بداية التسعينات قصيرة الأمد ومنفصلة عن بعضها البعض ولم تؤدي الى تنظيم ثابت. لكن تغير الوضع في 1996 مع السلسلة المتتابعة للنضالات في بتاجونيا والتي دلت على بداية الاتجاه الجديد:

ان كوترالكو وبلازا هونكول هم الدائرتين الانتخابيتين في الجزء العلوي لبتاجونيا بمقاطعة نيكيوين وتحتوي على 55 ألف من السكان…تم بناؤها وتنميتها حول صناعات البترول… تم خصخصة شركة البترول المملوكة للدولة بين 1994 – 1995 ومن ثم تسريح 80% من عمالتها. كان معدل البطالة 35.7% في الدائرتين وعاش 23.500 شخص تحت خط الفقر في 1996. فشل الحاكم المحلي في توقيع الاتفاق بشأن تشييد مصنع للأسمدة مع مؤسسة كندية في يونيو 1996 مما أسفر عن احتجاج السكان بالشوارع. أغلق أصحاب المحلات أبوابهم وأقام 5 آلاف شخص المتاريس في جميع أرجاء المدينتين – عرف بعد ذلك هؤلاء المقيمون للمتاريس بحركة االعمال العاطلين عن العمل (بيكويتوروس). وقامت قوات الأمن بحصار الأهالي(62).

تمكن حاكم المقاطعة من انهاء الاضطراب الذي استمر لمدة أسبوع بتعهده بالقيام بمفاوضات مع لجنة من الأهالي وتقديم المعونات للأسر الفقيرة. لكن انطلق الجماهير للنضال مرة أخرى بعد تسعة أشهر أثناء اضراب المدرسين ضد الفصل والاقتطاع من الأجور. أغلقت الشوارع العامة القريبة مما أدى الى اصطدام الشباب المسلح بالعصي والحجارة مع الأمن وقتل الأمن لامرأة واحدة.

في تلك الفترة انتشرت الاحتجاجات والاشتباكات المشابهة في ترتجال وججاي بالشمال الغربي ولاباتا وبيونس آريس على الساحل: ” حوصرت الطرق العامة بالمتاريس وتظاهر الطلبة في مواجهة الأمن وأضرب العمال والمزارعون…كان للثورة وقع على المخيلة الشعبية…ساهمت كل مواجهة جديدة في تحرك مناطق أخرى وانتشر التنوع في أساليب النضال “(63). وقد وقع المزيد بظهور أساليب جديدة للتنظيم أديرت من خلال الاجتماعات الشعبية واللقاءات الجماعية حيث تمكن الجميع من الاشتراك. اختلفت تلك الاجتماعات بشدة عن الضوابط البيروقراطية التي اتسمت بها الفدراليات النقابية الثلاثة.

مر انتشار النضالات بفترة سكون قصيرة في 1997 – 1998 نتيجة لتوقع الجماهير لبعض التحسن في ظروفهم ما بعد الانتخابات، لكن ما لبثت خيبة أملهم أن أدت الى توسع النضال. قامت حركات كبيرة في نيكوين وجنرال موسكوني ولااسبيرانزا وججاي وسيبولتي وأوران وباهيابلانكا وكمودورورفادافيا. وقام الجماهير في ترتاجال بأقصى الشمال الغربي بالهجوم على مقر الشرطة(64). أما في النصف الثاني لعام 2000 تحالفت حركة العاطلين عن العمل لأول مرة مع تحرك جماهيري للعاملين من العمال. وفي ماتانزا – ضاحية بيونس آريس التي يصل عدد سكانها الى 2 مليون نسمة وأكثر ضواحي الدولة كثافة من حيث التصنيع في السبعينات – قام ألف من العاطلين بحركة (بيكويتيروس) باغلاق الطرق العامة الرئيسية لمدة أسبوع. وجمعت موجة أخرى من النضال في ترتاجال العاطلين عن العمل وعمال النقل وقاموا باغلاق الطرق. عندما أطلق رجال الأمن النار على أحد المتظاهرين وقتلوه، قام الجماهير باحتلال مقر الشرطة وأخذ الضباط كرهائن والاستيلاء على أسلحتهم(65).

اتحدت الحركات المختلفة مرة أخرى على نطاق أوسع في مارس 2001 في الانتفاضة الشعبية التي أدت الى استقالة لوبيز ميرفي من الحكومة واستبداله بكافالو. أدى الاعلان عن الاقتطاعات الضخمة من ميزانية التعليم الى موجة نضالية بين صفوف الطلبة – على الرغم من قيادتهم المنتمية لفرع الشباب للحزب الراديكالي الحكومي – واضراب المدرسين لمدة 48 ساعة ومسيرة لمنظمات العاطلين في بيونس آريس ومن ثم اضراب عام لمدة 24 ساعة يشمل الفدراليات النقابية الثلاثة. كتب المعلق باسكويني دوران في الجريدة اليومية باجينا 12 “وضعت الاضرابات واحتلالات المصانع وحالة عدم الرضا العام الحكومة في موقف صعب للغاية…كان من الضروري أن تأخذ الاختيارات الاقتصادية المتاحة في الاعتبار واقعا شديد الأهمية – المجتمع قال ” كفى! “. ولأول مرة منذ أمد بعيد يخاف السياسيون من العصيان المدني أكثر من خوفهم من الأسواق”(66).

استمرت حركة العاطلين في النمو من مايو الى أغسطس 2001 من خلال مؤتمرين قوميين لمنظمات بيكويتيرو واغلاق الآلاف من العاطلين ل300 طريق عام رئيسي – أدى التصادم مع الأمن الى قتل خمسة من العاطلين (67). قدم الماركسي الأرجنتيني روبرتو ساينز في تحليله لأزمة مارس ملحوظة صحيحة:

” يمكننا القول بأن حلقة جديدة من النضال قد بدأت وتحتوي على سمات مختلفة عن تلك السائدة في النضالات السابقة. كل شئ مطروح للسؤال. توجد حالة من النقاش الدائم بين الأهالي…تنمو طليعة حركة بين الشرائح الشعبية وتبدأ بأخذ سمات محددة وهي في الأغلب من داخل حركات العاطلين ولكن أيضا من ضمن قطاعات من العاملين… بشكل عام تنشأ الحركات الجديدة بعيدا عن منظمات الاتحادات النقابية التقليدية وتتمتع بديمقراطية مباشرة من أسفل وقادة جدد ” (68).

بذلك تكون القوى الجديدة والأشكال الجديدة للنضال قد أظهرت قدرتها غلى زعزعة المجتمع حتى جذوره – وهذا في الوقت الذي كانت فيه الطبقة الحاكمة تتمزق بشكل متزايد حول ما يتوجب فعله حيال الأزمة التمويلية الحادة لكلا من الصناعة الأرجنتينية والدولة. لتلك الأسباب كان الرأي اليساري الماركسي صائب حينما أشار الى تطور ظروف ثورية (أو ما قبل الثورية).

لكن ذلك لا يعني أن الوعي لدى قادة الحركات الجديدة اتسم بالثورية بشكل آلي أو حتى بشكل عام. فقد جلب المشتركون في الحركات تصوراتهم المختلفة عن كيفية النضال وتوقعاتهم المختلفة أيضا عن ما يمكن تحقيقه. اتضح ذلك في بداية النضال في مقاطعة نيكوين. غضب الشباب المناضل الذي كثيرا ما تصارع مع الأمن من موافقة القادة المحليين الرئيسيين على التسوية مع الحاكم نظير توفيره لعدة وظائف وعدة معونات للبؤساء. وقد ظهر نفس النوع من الانقسامات في الحركات الرئيسية في متانزا. فقد وافق قادتها بعد أسبوع من اغلاق الشوارع على فك الحصار نظير ” خطط وظيفية ” تعمل على مساعدة 7.500 شخص وتترك مئات الآلاف من العاطلين بالمقاطعة. اعترضت قلة من المحتجين على ذلك، لكن لم تكن لديهم الثقة لتحدي القادة الموجودين (69).

لا يحول واقع وجود العاطلين – بشكل آلي – دون محاولة العثور على علاج داخل النظام السائد. كانت الرغبة في تحسين الوضع المباشر والبائس هي الدافع وراء اشتراك أغلب الجماهير في الاحتجاجات. بالتالي، كانت الميول الرئيسية في حركات العاطلين (بيكويتيروس) تهدف الى الضغط على الحكومة من أجل التحسنات الطفيفة مثل ” خطط وظيفية ” وليس من أجل الفرصة البعيدة ظاهريا للثورة الاجتماعية. تجلى ذلك في القوى الرئيسية المشتركة في نضال متانزا وفي القوى المسيطرة على الاجتماعات القومية لحركة بيكويتيروس بصيف 2001. لكن المطالبة بخطط وظيفية يمنح الحكومة ببساطة فرصة للتلاعب. فيمكنها أن تعد بتلك الأشياء على أمل العدول عنها بمجرد انتهاء الاحتجاجات المباشرة. كما يمكنها أيضا أن تتوقع اجتذاب المناضلين العاطلين الى شبكات محسوبيتها من خلال تطبيق تلك الخطط. أشار أحد النقاد ” يستفيد معظم رؤساء الأحزاب المختلفة من التفاوض مع جوع وفقر العاطلين من خلال خلق وظائف تدور حول الأجر البائس في مقابل العمل على قطع الأعشاب الضارة أو دهن الحواجز ” (70). ان مثل تلك الميول تشير الى خطأ التصور الرومانسي الذي يتعامل مع حركات العاطلين وكأنها ” ثورية خالصة ” بالمقارنة بالعمال في أماكن العمل.

ربما تكون وسائل الاعلام والأحزاب المسيطرة قد خلقت التحيزات بين العاملين ضد العاطلين عن العمل بزعمها أنهم كسالى وغير عابئين بالعمل. لكن حركات 2000 – 2001 قد أوضحت امكانيات وصل حركات العاطلين بالقطاعات الأكثر نضالا من العمال العاملين. فعلى سبيل المثال، لعب العمال المفصولون من مصنع للتبريد والمناضلون بالنقابات سابقا دورا بالغ الأهمية في تنظيم احتجاج متانزا وبعث العمال في مصانع هامة بالوفود المفوضة من أجل تلبية الاحتياجات المادية لرافعي المتاريس (71).

على الرغم من اتساع النضالات في العام الماضي لم تتخلى القطاعات العاملة أو العاطلة عن الفكرة التي ترى أنه من الممكن تلبية مطالبهم من خلال النظام الراهن. استمر العمال في التسليم بالنظام الراهن نظرا لنشأتهم بداخله وعدم معرفتهم لسواه ولكن في نفس الوقت استمر نضالهم في التحرك في الاتجاه المعاكس تماما لمتطلباته. بصيغة أخرى، أراد العمال شيئا من حيث التطبيق وآخر من حيث الأفكار القديمة التي كانت لاتزال تملأ عقولهم. شجع ذلك ” الوعي المتناقض ” (على حد تعبير جرامسكي) على الميل المستمر نحو الاصلاحية. بالتالي، حدث صعود محدد لنماذج جديدة للاصلاحية اليسارية مع تراكم النضالات. فقد أظهرت استطلاعات الرأي لذلك الوقت أن أحد السياسيين الأكثر شعبية هو اليسا كاريو الرئيس الأسبق للحزب الراديكالي والذي تحول الى معارضة حكومة دولاروا. كما استمرت بعض المنظمات النضالية والمشتركة في تنظيم حركات العاطلين في التحالف مع قطاعات من رأس المال ” القومي ” و”المنتج ” والتي يفترض أن تكون مناهضة للبيرالية الجديدة.

ما كان الميل نحو الاختيارات الاصلاحية ليختفي على الرغم من نجاحات الحركة الشعبية في الشوارع. يظهر اتجاهان مع كل حركة ثورية ضخمة. يتحرك أصحاب الخبرة النضالية نحو المنهج اليساري الأبعد مما يؤدي بهم الى الاقلاع عن الحلول الاصلاحية. لكن يميل ملايين الجماهير الجديدة والمنضمة الى الحركة للمرة الأولى الى ربط هويتهم بالشخصيات السياسية البارزة والتي تبدو عقلانية وبعيدة عن الثورية ” الغير واقعية “. ففي الثورة الروسية بسنة 1917 قامت الغاليبة العظمى في السوفيات بدعم الحكومة البرجوازية بعد ثورة فبراير مباشرة. وفي الثورة الألمانية 1918 – 1919 علق جمهور العمال والعساكر آمالهم بشكل مبدئي على مناصري الديمقراطية الاجتماعية وليس على حزب سبارتاكوس الاشتراكي المتطرف الذي يضم روزا لكسيمبورج وكارل ليبكنخت. أما في الثورة البرتغالية في 1974 – 1975 اتجهت جماهير العمال الى الحزب الشيوعي الاصلاحي أو الى الحزب الاشتراكي الأكثر اصلاحية ولم تتجه سوى أقلية صغيرة الى اليسار الثوري.

 

اليسار الثوري:

زعم جيمس بيتراس في مقالة واسعة الانتشار بأنه لم يكن لليسار الثوري أثر في أحداث 19 – 20 ديسمبر(72). من حسن الحظ أن زعمه غير سليم تماما. فقد تواجدت بعض القطاعات من اليسار الثوري في ذلك اليوم ومن ثم حاولت أن تبني وتؤثر في اللجان الشعبية(73-74). أما الجزء الصحيح في زعمه فينصب في صغر حجم اليسار الثوري الأرجنتيني وتمزقه الى عدة مجموعات مختلفة وعدم احتوائه على قاعدة من التأثير في ثورة عفوية جماهيرية.

لم يكن اليسار بهذه الدرجة من الضعف على الدوام. فعلى الرغم من القمع الفظيع الذي وجهته قوات جانتا ضد اليسار الثوري وقتلهم للكثيرين من المناضلين ونفيهم لعدد أكبر منهم، شكل اليسار قوة جوهرية حتى نهاية الثمانينات – فكان للمنظمة التروتسكية التي أنشأت في 1983 آلاف الأعضاء فضلا عن المجموعة الأخرى المسماه بحزب العمال (بارتيدو أبريرو) والكبيرة حجما. لكن سنوات الهزائم المتلاحقة للحركة العمالية بدأت بانتزاع ضريبتها بانتهاء العقد. لا يختلف المسار العام لليسار الأرجنتيني كثيرا عن نظيره الأوروبي. يقول بابلو بازي:

” على الرغم من النمو الكبير لليسار المنظم ما بين 1983 – 1986 الا أنه تأثر بالركود في 1976 – 1983 وبانهيار الاتحاد السوفييتي وبالوضع العالمي ككل. أدى الاختفاء المفاجئ للاتحاد السوفييتي الى اصابة الكثير من المناضلين وكذلك الناقدين التقليديين للاستالينية بالاحباط….بالاضافة الى ما توقعه الكثير من الجماهير من اختفاء أبدي للاشتراكية من على الأجندة – اذا كانت أبدا على الأجندة. بدأ ظهور الكثير من الأفكار الخاصة بالامكانيات المتاحة وتضمنت عدة تنوعات للديمقراطية الاجتماعية. وبشكل مفاجئ أصبح الطريق الى الاشتراكية بعيدا عن الثورة ولكن تطور لمساحات الديمقراطية المتزايدة من خلال المشاركة الانتخابية….

انطلقت معظم المنظمات اليسارية بعد 1983 الى النضال الانتخابي على أمل تنصيب بعض المشرعين. قامت الكثير من المجموعات اليسارية باستهلاك مواردها الضئيلة ونشطائها في الانتخابات بسحبهم من العمل الجماهيري. صرفت الطاقة في تشكيل الاتحادات الانتخابية وفي الحصول على رضا الصحافة وناخب الاتجاه السائد…نجحت المنظمة التروتسكية في انتخاب عضو بالكونغرس الوطني وعضو بالمجلس المحلي وممثل محلي، لكن كان الثمن باهظ…ظهرت فكرة بداخل الحزب تنص على أن الاشتراك في النضالات الجماعية يعوق احراز المزيد من التقدم في الانتخابات لأنها تنفر الطبقات المتوسطة(75).

انقسمت المنظمة التروتسكية تدريجيا الى عدة أجزاء وعادت المجموعة المحتفظة بالاسم الى المنظور الثوري الذي يروج ” الاشتراكية أو البربرية ” و ” الاشتراكية من أسفل “. وعمل الى جوارها حزب العمال (بارتيدو أبريرو) وقسم آخر من المنظمة القديمة والحركة من أجل الاشتراكية وحزب العمال من أجل الاشتراكية. لقد احتفظ كل هؤلاء ببعض العمال المناضلين من فترة السبعينات والثمانينات لكن لم يكن لأي منهم التأثير الذي تمتع به اليسار الثوري منذ أمد بعيد.

كما عانى الحزب الشيوعي بطريقة مماثلة من ضياع التأثير والتمزق الداخلي. فقد شكل اتحاد انتخابي في 1989 مع المنظمة التروتسكية ثم بدأ الحزب في 1993 بالاعتماد على السياسيين البيرونيين الذين قاموا بنبذ حكومة مينيم. لكن قامت الشخصية الرئيسية لذلك الاتحاد بابعاد الحزب عنه وجعله جزء من ائتلاف فريبازو والانضمام الى حكومة دولاروا التي اكتسحتها الجماهير في 19 – 20 ديسمبر(76).

أخيرا، لقد شجع الجو العام لتلك السنوات محاولات العثور على نوع من البديل الاصلاحي للأزمة. لقد أدت الفكرة بأن اللبيرالية الجديدة ما هي الاّ سياسة مجنونة فرضت على ” الدولة ككل ” من قبل رأس المال الأجنبي وأداتهم المحلية كافالو دون أن تعبر عن احتياجات رأس المال الأرجنتيني في الصعود الى المسرح العالمي الى عمل الفدرالية النقابية والشبه يسارية على استقطاب قطاع من رأس المال المحلي للانضمام الى برنامج التوسع القومي – المبني على زيادة دخل العمال والسلع الاستهلاكية في السوق (77).

كانت فترة بداية ومنتصف التسعينات صعبة جدا بالنسبة لقطاعت اليسار المتبقية حالها كحال نظيرها ببريطانيا بعد هزيمة اضراب عمال المناجم ( 1984 –1985 ) ونضال عمال الطباعة (1986 – 1987). وقد خلقت تلك الفترات باليسار نزعتين متناقضتين في الظاهر لكن متكاملتان في الواقع.

كانت النزعة الأولى باتجاه التكيف ان لم يكن مع اللبيرالية الجديدة ( التي وقعت في بعض الحالات ) فعلى الأقل مع العديد من البرامج الاصلاحية – المدعومة في الأرجنتين من قبل عرف اليسار القديم الذي يرى في رأس المال الأجنبي العدو الرئيسي والذي يتحتم مواجهته من خلال التحالف مع قطاعات من رأس المال المحلي. أما بالنسبة للمناضلين المشتغلين بأماكن العمل المنظمة فقد اضطروا الى مواجهة الضغطين المتوازيين، التكيف مع وسائل البيروقراطية النقابية واستبدال المعارضة الفعلية لسياساتها بالمهمة الشاقة والمتمثلة في تحريك النضال على الرغم من المقاومة النقابية لذلك.

كانت النزعة الثانية باتجاه الطائفية. لقد حثت عدم قدرة مجموعات اليسار على تحريك قوى حقيقية في مواجهة هجمات النظام الى محاولة استبدالها بالصيغ المنهجية – ومن ثم اقامة حوارات متقدة مع بعضهم البعض حول تفاصيل تلك الصيغ. وقد زودت المطالب مثل ” الاجتماع المقوم ” بطابع سحري لم يكن موجودا من قبل ( حتى في الظروف التاريخية المناسبة لمثل ذلك الطابع ). وكثيرا ما ازداد الميل نحو توجيه الطعنات اللفظية ضد التيارات الاصلاحية وبيروقراطية النقابة العمالية بدلا من استخدام وسائل الجدال التي يمكنها كسب العمال الذين لازالوا يعتمدون عليهم. بلا شك، عمل ذلك على اعاقة تجهيز القيادة العملية والضرورية للحركة اليوم.

لكن يتوجب أن يكون لليسار امكانية التأثير في الأحداث. لقد تمت الانتخابات المحلية في أكتوبر 2001 ومن الجدير بالذكر، النفور الجماهيري من الأحزاب السياسية السائدة، المتمثل في المستوى الضخم في الامتناع عن التصويت – حوالي 10 مليون – في دولة يفترض أن يكون التصويت فيها الزامي. لكن أظهر بعض النافرون استعدادهم للجوء الى بدائل الجناح اليساري فوصل اجمالي التصويت القومي للأحزاب اليسارية المختلفة الى أكثر من مليون – كان نصيب اتحاد الحزب الشيوعي/ حركة العمال الاشتراكية (MST)500 ألف و 250 ألف لاتحاد حزب العمال (PO)/ الحركة نحو الاشتراكية(MAS) وأما حزب العمال لأجل الاشتراكية (PTS) فحصل على 100 ألف صوت. حصل اليسار في بيونس آريس على نتيجة قوية 27% من الأصوات وأحرز اليسار نتائج جيدة أيضا في مدن مثل كوردوبا و سالتا.

يبدو أن التصويت لليسار كان بشكل رئيسي تصويت احتجاجي بدلا من كونه رمزا للقناعة العميقة بمواقفه. لقد أظهر امكانية حصول اليسار على تأثير أوسع، واستعداد الجماهير للجوء الى السياسات الاشتراكية كبديل للأحزاب البرجوازية المنافسة، لكن ليس أكثر من ذلك. ان السؤال المطروح منذ 19 – 20 ديسمبر هو ما اذا كان لليسار القدرة على البناء من تلك النقطة أم لا.

 

أزمة الطبقة الحاكمة:

لقد طرح لينين في فقرة شهيرة له أن قناعة الطبقة المستغلة باستحالة تحملهم لظروف معيشتهم لا يكفي ليتوافر الظرف المناسب لقيام ثورة. يجب أن تصل الطبقة الحاكمة الى الخلاصة باستحالة استمرار الأمور على ما كانت عليه في الماضي. ان ذلك يحدث تشققات مشلة وعميقة بداخلها، ويرمي المجتمع ككل في حالة اضطراب عظيمة، ويحفز الطبقات المستغلة للتعبير عن غضبهم.

كان ذلك واضحا في أزمة مارس في السنة الماضية، بطرد لوبيز ميرفي وحل كافالو محله. عندما أعلن لوبيز ميرفي خطة فرض اقتطاعات وحشية من نظام التعليم قام 300 من كبار رجال الأعمال بمرافقته حتى استقلاله للباخرة. وفي ذات الوقت، قام ال(UIA) ( المرادف التقريبي لجمعية المدراء في بريطانيا ) بانتقاد النظام. أدت عودة كافالو الى وزارة الاقتصاد الى تهدئة النزاعات لفترة قصيرة لكن ببداية الصيف عادت النزاعات أكثر شدة. كان موضوع النزاع الرئيسي بداخل الطبقة الرأسمالية يدور حول ما اذا كان الطريق لحل الأزمة يكمن في تخفيض قيمة البيزو (وبالتالي، خفض الواردات وزيادة الصادرات ) أو في تثبيتها للأبد بالدولار (وبالتالي، بعث ” الثقة ” لدى المستثمرين الأجانب لكي يقوموا باقراض الأرجنتين ).

قبع وراء تلك النزاعات حول سياسة النقد تضارب مادي وحقيقي في المصالح. كانت عملية التثبيت بالدولار وسيلة لحماية الثروات من الأزمة الأرجنتينية بالنسبة لبالغي الثراء وللقطاعات المالية التي كانت قد جنت الكثير من الأموال خلال العشر سنوات الماضية. فقد استوعبتها وكأنها شكل يمكن نقله الى جميع أماكن العالم للحصول على الربح. وعلى العكس، أراد أصحاب الصناعات الانتاجية – بما فيهم الشركات الأجنبية والمالكة لتلك الصناعات نتيجة للخصخصة – الهروب من التقيد بالدولار. كانت اللبيرالية الجديدة ملائمة بالنسبة لهم في بداية التسعينات عندما كانت تتسبب في اغلاق الشركات الصغيرة وتركز الأصول في أيديهم. كان تدمير بعض الصناعات ” الغير متنافسة ” (بالنسبة لهم) ثمن يستحق الدفع لبناء رأسمالية أرجنتينية قوية وتشمل تكاليف العمالة المنخفضة. لكن انخفضت امكانية بيع الصناعات المتبقية لسلعها في ظل المنافسة الأجنبية نتيجة لقيمة البيزو المرتفعة. لقد رأوا أن بتخفيض قيمة العملة سيحدث انخفاض في الأسعار يمكّنهم من بيع سلعهم بالخارج، بينما يصد تدفق الواردات بدرجة تمكنهم من رفع الأسعار بالداخل. بالتالي، عارضت شركات التصنيع والمنتجات الزراعية الكبيرة تثبيت العملة وضغطت من أجل تخفيضها.

احتدت أزمة الطبقة الحاكمة السياسية عندما رفض صندوق النقد الدولي اقراض الأرجنتين في ديسمبر وظهر تهديد افلاس النظام البنكي. تفاقمت الانشقاقات بين صفوف الحزبين السياسيين السائدين، الراديكالي والبيروني، بانصراف فئات مختلفة من قادة السياسة البيرونية لتعزيز مكاناتهم الفردية دون الاكتراث لمصالح الطبقة الحاكمة ككل. لم تتواجد الشخصية السياسية القوية بدرجة تؤهلها لفرض تثبيت أو تخفيض قيمة العملة. تهاوى القرار بدون وجود سياسة سوى المزيد من الاقتطاع من الميزانية حتى أجبرت الحكومة على تجميد الأرصدة البنكية من خلال (كوراليتو) – والتصديق على مصيرها – نتيجة لنقص الدولار.

استفحل مستوى الانشقاق بين الطبقة الحاكمة بتفجر الجماهير الى داخل الساحة السياسية. لم يضطر السياسيون المتنافسون الى مواجهة قطاعات الطبقة الحاكمة المتأهبة للحرب فقط واضطروا الى مواجهة الضغط من أسفل. لقد علموا أن قول ما هو غير لائق واغضاب الجماهير يمكنه أن يحطم السمعة السياسية – بينما قد تقوم ايماءة شعبية بفتح جميع الأبواب لمسيرة مهنية عظيمة. بذلك ترجم الاضطراب في الشوارع الى اضطراب أيضا في الكونغرس وقصر الرئاسة كاسا روسادا (البيت الزهري). تم تنصيب رودريجو ساء من قبل المؤسسة السياسية للاطاحة به بعد أسبوع نظرا للعصيان الجماهيري في الشوارع والمؤامرات السياسية لمنافسيه من قادة البيرونية. نجح دوهالدي، أول مدبري المؤامرة، في تقلد منصبه لكنه بدى عاجزا عن اصدار برنامج متماسك. فقد أعلن تخفيض العملة والموراتوريوم ( قرار رسمي بتأجيل دفع الديون المستحقة) ولكنه أضاع شهرا في شرح معنى ذلك بالنسبة للبلايين من البيزو المودوعة في والمدينة للبنوك، بينما استمر التجميد (كوراليتو) ساريا ومعه مرارة الطبقات المتوسطة. قامت الحكومة بشجب ” التملص الفظيع من النظام الضريبي والمتمثل في عقاب المستهلكين وأدنى مستوى ضريبي على الأرباح في العالم ” وأرسلت الشرطة لفحص سجلات البنوك التي يشتبه في تهريبها للنقود الى الخارج (78). لكنها ما لبثت أن طمأنت الأجانب من أصحاب المؤسسات المخصخصة بعدم رغبتها في تدمير مصالحهم وبدأت بالتحاور مع صندوق النقد الدولي بشأن تسديد الديون.

لخص مارتن وولف، محرر عمود في جريدة فاينانشل تايمز، الفزع في وسط الكثير من المصالح الرأسمالية نتيجة للتشوش بداخل الحكومة. ” لقد حول رئيس الأرجنتين النكبة الى شئ أسوأ من خلال مجهوداته للوصول الى سياسة شعبية تستهدف ارضاء الجميع ” (79). لم يقل وولف ما يتوجب على دوهالدي فعله اذا ما أراد الحفاظ على بقائه السياسي.

بعد أسبوع من ذلك اجتمعت قطاعات الرأسمالية العليا للضغط على دوهالدي ليتخلى عن نظريته ” الشعبية “. كان العنوان الرئيسي في جريدة باجينا 12 ” ولادة الائتلاف المقدس للتسعينات من جديد “. حكت المقالة عن تحالف ” جمعية البنوك الأرجنتينية وأقوى المصالح التجارية ” والآن بعد تسوية موضوع التخفيض من قيمة العملة: ” منذ التخفيض، تحالفت البنوك والمجموعات الاقتصادية القومية الكبيرة للعمل على مصالحها وقامت باعادة تسليح المجتمع الذي شكلته في التسعينات. انتهى نزاع مصالح اتحاد الصناعة ورجال التشييد والزراعة ضد مستغلي العقد الماضي (80).

لم ينه حتى ذلك النزاع السياسي بالداخل ضمن أولئك الذين أشرفوا على اللبيرالية الجديدة. في نفس اليوم الذي ظهر فيه ذلك التقرير، تدخلت المحكمة العليا باعلان عدم شرعية ال(كوراليتو). يسيطر على المحكمة أشخاص قام مينيم باختيارهم أثناء فترة رئاسته ومن الجدير بالذكر ارتباطها بالمصالح التجارية القوية والمريبة. كان الحكم بلا أدنى شك مناورة تهدف الى افقاد حكومة دوهالدي للاستقرار. بينما كانت الجموع تحتشد بأرجاء مركز بيونس آريس، أعلن دوهالدي برنامجه الجديد بفك التجميد ببطء وتحدث نواب البرلمان عن التشكيك في المحكمة العليا. اعتبر مراسل جريدة فاينانشل تايمز أن ذلك قد ” يجهز مسرح الأحداث لأخطر أزمة دستورية منذ عودة الدولة الى الديمقراطية في 1983 “(81). في الأيام التالية، “بدأت الشائعات حول انقلاب عسكري أو مدني – عسكري في الانتشار، وبالتالي زادت من ضعف الحكومة “(82).

قامت الاجراءات التي اتخذتها الحكومة للتعامل مع الأزمة البنكية بمفاقمة التوترات الاجتماعية. لقد حاولت أن تضفي على الاجراءات طابعا جذابا من خلال التأكيد على مركزية فك تجميد الأرصدة بالدرجة التي تسمح للجماهير بسحب ما يعادل أجورهم أو معاشاتهم شهريا. لكن سرعان ما اتضح التعقيد الحقيقي للاجراءات.

في الوقت الذي كان الدولار يعادل 1.8 بيزو بسعر التبادل، وافقت الحكومة على تحديد المقدار الذي يتوجب على كبار المدينين اعادته الى البنوك ( أولئك المدينين بأكثر من 100 ألف دولار ) بواحد بيزو لكل دولار وتعويض البنوك عن الفرق. وبالتالي، كانت تهمش ديون المؤسسات التمويلية والصناعية الضخمة (83). في نفس الوقت، كان على المدخرين الحصول على 1.4 بيزو لكل دولار مدخر. عمليا، كان من المطلوب أن ينضم صغار المدخرون الى الدولة في تقديم العون المالي لكبار المدينين. على سبيل المثال، كان ذلك سينزل دين 350 مليون دولار لشركة بيريز كومبانك الى النصف وفي ذات الوقت يزيد من مديونية الدولة بمقدار 7 بليون دولار تقريبا (84).

كانت الصفقة مرضية لرأس المال الكبير بدرجة تفوق بمراحل تصورات وزير الاقتصاد لحكومة دوهالدي، ريمس لينيكوف. لكن تمكنت مجموعات الاقتصاد والبنوك بمساعدة المحكمة العليا الغير مباشرة – والتي دفعت حكومة دوهالدي الى حافة الانهيار – من اقناع الحكومة بتقديم الاجراءات في صيغتها النهائية (85). لم يتضرر صغار المدخرون فقط، ففي الواقع بدأت الأسعار بالارتفاع بعد ذلك بعدة أيام حتى ازداد سعر الدواء (المنتج محليا والمستورد) بنسبة 35% بين عشية وضحاها.

وأخيرا، كانت الحكومة تسعى الى اتفاقية مع صندوق النقد الدولي وبالمقابل تعد بالمزيد من الاقتطاعات من المصروفات العامة. ان في ذلك دفع للاقتصاد الى الركود في الوقت الذي ترتفع فيه الأسعار. لم تشهد الأيام التالية لاعلان تلك الاجراءات انخفاض في التوترات الاجتماعية. كان على العاملين خوض النضال من أجل الحفاظ على القيمة الحقيقية للأجور في مواجهة التضخم السريع وللدفاع عن عملهم مع تعمق الركود. سوف تزداد الضغوط التي تدفع بالعاطلين الى الفقر المدقع وسيكثر الاستياء في وسط صغار المدخرين نتيجة لاضطرارهم الى تقديم العون المادي لرأس المال الكبير. يقول تقرير من بيونس آريس:

” يمكنك أن ترى في المظاهرة الأخيرة ميل الاجتماعات الشعبية للاتقاء مع حركة بيكويتيروس وترديد نفس الهتافات – “النضال موحد ” و ” العمل للجميع” و “تخلصوا منهم جميعا ولا تتركوا واحدا منهم ” – والقيام بمسيرة معا الى بلازادومايو”.

 

إلى أين تذهب الأرجنتين؟:

ان حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي في الأرجنتين تجعل تخمين مجرى الأحداث التالية مستحيل. تريد الحكومة اخماد احتجاجات ساسيرولازو من خلال فصل قطاعات من الطبقة المتوسطة عن حركات الفقراء والعاطلين. كما تتمنى أيضا أن تتمكن من منع القوى العاملة من الانجذاب الى تلك الحركات. يشكل ذلك الأساس المنطقي وراء الوعود الشعبية المختلفة التي يقصد بها خلق الظرف الملائم لاطلاق قوى الدولة ضد الحركة في الشوارع.

لكن لا يمكنها انجاز تلك الوعود دون افساد المصالح المالية والصناعية الكبيرة. ان وضع الرأسمالية الأرجنتينية ببساطة لا يسمح للحكومة بتلبية المطالب المباشرة لجمهور الطبقات المتوسطة فضلا عن العمال العاملين بدون اغضاب المجموعات الرأسمالية الأقوى. وستحاول تلك المجموعات أن تستخدم جميع الوسائل المتاحة لتمارس الضغط على الحكومة. كما تطوق القطاعات الرئيسية الآن للوصول الى قدرة استخدام الجيش بالاضافة الى الشرطة لاستعادة النظام في جميع أرجاء الدولة.

ان الطريق أمامهم طويل في اللحظة الراهنة حتى يتمكنوا من فعل أشياء كتلك. انهم لا يزالوا بحاجة الى حكومة ” شعبية ” مثل حكومة دوهالدي على الرغم من عويلهم حولها ورغبتهم في استبدال رئيسها. لا شك في كونهم سيستغلون أي نجاح لدوهالدي في تهدئة الحركة الجماهيرية لدفع الخطط الأكثر طموحا وقمعا في آن واحد. من المتوقع، أن تقوم بتشجيع بعض المجموعات القومية المنتمية للجناح اليميني والتي كانت مزدهرة في الماضي – ليس بالضرورة لتقليدهم للسلطة لكن لاستخدامهم كقوة تدفع بالحياة السياسية في الدولة الى الاتجاه الأقرب لليمين والأكثر أمنا. سوف يكون أملهم منصب على الاستفادة من المرارة التي نشأت عن الأزمة الاقتصادية. فقد يكون لمستوى البطالة ولافلاس التجارات الصغيرة وللتجزئة والانعزالية الناجمة عن الفقر أثر في اغواء الجماهير بأفكار الجناح اليميني. لم تشهد فترة التسعينات في الأرجنتين صعود حركة بيكويتيروس فحسب – شهدت أيضا التهيج ضد المهاجرين من شيلي وباراجواي وبوليفيا بالاضافة الى انتقال بعض الممتنعين عن التصويت نحو حزب يميني متطرف في بعض الانتخابات. كما كتب بابلو بوزي منذ سنتين، ” ازدادت العنصرية بشكل ملحوظ. وكثيرا ما يتم توجيه النكات والتعليقات والتمييز الى المهاجرين الجدد من الدول المجاورة ومن كوريا الجنوبية. كما يتم التعبير عن تلك العنصرية من خلال الأفكار التي تروج أن أهالي شيلي وبوليفيا وباراجواي كسالى ومتخلفين وممارسون للسرقة وأنهم هاجروا لسرقة الوظائف من الأرجنتينيين…توضح الأبحاث الحديثة ازدياد العنصرية خلال العقد الماضي ” (86). لقد حجب صعود النضال، في اللحظة الراهنة، أصوات زعماء الدهماء والمروجون للعنصرية والقومية والذين يحاولون الاستفادة سياسيا من الاغراق في مثل تلك الأفكار العاطفية. ومن الجدير بالذكر، أن القرار المتخذ والمروج من قبل اجتماعات الأحياء يعبر عن التضامن مع المجموعات المهاجرة. لكن لا يزال خطر اتاحة فرصة جديدة للعنصريين وقوميي الجناح اليميني ما لم تنجح الحركات الجماهيرية (في ساسيرولازو وبيكويتيروس ) في التعامل مع الفقر الشديد لنصف سكان الدولة.

لذلك لا يكفي أن يقوم اليسار في الأرجنتين بتمجيد أحداث الست أسابيع الماضية. ان العبرة المأخوذة عن الأزمة العالمية العظيمة في الثلاثينات تنص على أن مثل تلك الظروف قد تفتح الباب لأمل الثورة ( أسبانيا في 1931 و 1936 وفرنسا في 1934 – 1936 ) ولكن أيضا قد تؤدي الى اليأس الثوري المضاد.

يوجد أمران شديدان الأهمية هنا. يوجد التعميم للمطالب الاجتماعية والسياسية المنبثقة عن الاجتماعات الشعبية – الاشتراك في العمل بين العاملين والعاطلين بدون نقص الأجور والخدمات الاجتماعية الكفيلة باخراج الجماهير من فقرها تأميم البنوك واعادة تأميم الشركات المخصخصة ومصادرة اللحوم والحبوب من الشركات التجارية – الزراعية وسلاسل محلات السوبرماركت لاطعام الجماهير.

لكن الى جانب المطالب يجب أن تكون هناك محاولات لنشر الحركة وتنظيمها بحيث يتم اطلاق القوى القادرة على تطبيق هذه المطالب. يظل برنامج العمل لا يعني شيئا بالنسبة لفرد جائع مادام مطبوع على ورق – لهذا السبب تعد الخلافات الناجمة عن التمسك بالتعاليم والأساليب التقليدية في التعبير عن البرنامج انحراف عن النضال. ما نحن بحاجة اليه هي القوة للبدأ بتطبيق مثل ذلك البرنامج. في الأرجنتين، ذلك يعني اشراك العمال العاملين الذين لا يزالوا متأثرين بنقاباتهم العمالية. لقد انخفض عدد هؤلاء ما بعد الأزمة الاقتصادية ولكن لا يزال هناك الملايين منهم ( 1.610,000 في بيونس آريس و210.000 في كوردوبا و110.000 في روزاريو بنهاية العام الماضي ) ولا يزال عملهم يشكل أهمية كبيرة بالنسبة لفعالية الرأسمالية الأرجنتينية على المستوى اليومي (87). لقد أدى تفشي البطالة الجماعية الى تخوف الكثير من العمال من خوض النضالات التي يخافون من عدم نجاحها، حالهم كحال العمال في أي مكان. تستمر بيروقراطيات النقابات العمالية في التلاعب بذلك الخوف بتأكيدها على أن دوهالدي هو أملهم الوحيد. لكنهم عاشوا خلال تجربة ليس لها مثيل بأي مكان آخر في الأسابيع الستة الماضية. وقد رأوا قدرة العمل الجماهيري على الاطاحة بالحكومات – وشارك الكثير منهم في الأعمال الجماهيرية للأسابيع القليلة الماضية كأفراد، حتى وان لم يكن كفرق منظمة في أماكن العمل. ومن الجدير بالذكر، انضمام بعضهم – على الأقل – الى نضالات مريرة في أماكن العمل للدفاع عن وظائفهم في تلك الأسابيع وتشكيلهم لروابط مع بيكويتيروس بينما لم يستطع آخرون تجنب المواجهة للدفاع عن مستوى معيشتهم ضد التضخم. ان ذلك يفتح الطريق لامكانية كسبهم للمطالب البعيدة والتي لا يملك سواهم القوة لتطبيقها – المطالب التي ستحمل الثورة الأرجنتينية الى اتجاه مناهض للرأسمالية بشكل واضح.

كما رأينا يتسم اليسار الأرجنتيني بالضعف لكن الظروف كالتي تمر بها الأرجنتين تعمل على تحويل وعي الآلاف من الجماهير. عند قراءة الجرائد الأرجنتينية ومراقبة اذاعة أخبار الأرجنتين على الانترنت، أتذكر الجو العام بفرنسا في 1968 أو البرتغال في 1975، الراديكالية على نطاق جماهيري لكن في ظل خلفية أزمة اجتماعية أضخم بمراحل. يتوجب على اليسار في الأرجنتين أن يرمي بقواه الضعيفة نسبيا في النضال من أجل انشاء قطب ثوري يجذب الجماهير المنغمسة في انفجارات مجتمع كامل في أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية.

أما بالنسبة لليسار في الأماكن الأخرى فعليه أن يتعامل مع العبرة البسيطة بجدية. ففي ظل نظام عالمي يمر بأزمات متكررة ومتشنجة، من الممكن أن يتحول كل ما هو صلب الى هواء. يمكن أن ينقلب النظام السياسي المتماسك والذي يكون فيه اليسار مهمش منتجا ثورات ضخمة من أسفل. يمكن أن يواجه اليسار القديم والمحبط في معظم العالم – بأواخر الثمانينات وأوائل التسعينات – وكذلك اليسار الحديث – منذ مظاهرات سياتل – بظروف ثورية كامنة.

الأرجنتين ليست استثناء وليست بالمكان البعيد والغريب. ان الأزمة ليست نتيجة لتبني السياسيون لسياسات ” خاطئة “. كما أن الأمر لا يقتصر على الخضوع للخصخصة وللبيرالية الجديدة نظرا لفساد الحكومات أو للضغوط الأجنبية الواضحة. ان رأسمالية الأرجنتين ضعيفة ولم تتمكن من التكيف مع تأثير الأزمات العالمية المتلاحقة عليها الاّ من خلال الهجوم على الظروف المعيشية التي اعتادتها الطبقة العاملة والطبقات المتوسطة الأدنى. ان تلك المشكلة تواجه رأسماليات أخرى وبما فيهم بعض الرأسماليات التي تعتبر قوية. الأرجنتين ليست المكان الوحيد الذي سنشعر فيه بالاحتياج الى حزب ثوري لديه جذور قوية في الطبقة العاملة.

 

الهوامش

1 Quoted in Le Monde, 21 January 2002.

2 R Munck with R Falcon and B Galitelli, Argentina From Anarchism to Peronism (London, 1987), p101.

3 For a graphic account of this period, see D James, Resistance and Integration: Peron­ism and the Argentine Working Class, 1946-1976 (Cambridge, 1988), ppl4-15,25-30.

4 R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, pl27.

5 The relationship between Peronism and the working class was far too intricate to do sufficient justice to it in a couple of paragraphs here. For a longer, excellent, account see D James, op cit.

6 R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, pl44 and pl63.

7 ‘Argentina’, Citta Futura, anno vi, n3 (Rome, March 1974), pl5.

8 Details in 0 Alba, ‘El Cordobazo’, Socialismo o Barbaric, no 7,2001.

9 R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, p 171.

10 For full accounts of these events, see J P Brennan, The Labor Wars in Cordoba 1955-1976 (Harvard, 1994), and chapter 9 of D James, op cit.

 

11- تنتشر الاشارة الى الأرجنتين ك “شبه مستعمرة” بين اليسار الأرجنتيني. في بعض الحالات تستخدم التسمية كمرادف ل ” امسلوب قوته “. وفي حالات أخرى تشير الى افتقار البرجوازية المحلية للسيادة نتيجة لضعفها الاقتصادي الذي يجبرها على تقلد منصب التابع في علاقاتها الاقتصادية بالدول الرأسمالية الأغنى والأقوى. ان في ذلك خطأ نظري أساسي. تفتقر المستعمرة الى الاستقلال السياسي وبمجرد تحقيقها للتحرر الوطني – تتخلص من سيطرة الجيوش التابعة لقوة ما – لا تصبح مستعمرة. ولا يوجد أي تحليل لواقع عدم حصولها على نوع من التحرر الاقتصادي الوهمي.

كانت تلك هي النقطة التي كررها لينين في جداله ضد روزا لكسمبورج ونيكولاي بوخارن عندما عارضوا مطلب حق تقرير المصير قبل الثورة الروسية. لقد زعموا بأنه لا يمكن الوصول الى الاستقلال الاقتصادي فلذلك لا يمكن أن يوجد استقلال سياسي. لكن لينين أصر على الفصل بين الاثنين. لا يمكن استخدام مصطلح ” شبه مستعمرة ” الا في حالات تدخل الجيوش لمنع وهم الاستقلال السياسي – على سبيل المثال، دول مقل باناما ونيكارجوا خلال القرن العشرين. لا يمكن أن ينطبق على دولة لديها طبقة حاكمة تدير دولتها وتمارس الاحتكار المحلي لقوات الأمن وتعقد الصفقات مع القوى الامبريالية العظمى. عدم رؤية ذلك أدى الى بحث مناصري الستالينية عن تحالفات تهدف الى ” التحرر الوطني ” في ظل البرجوازية المحلية التي تمارس ادارة الدولة – كان ذلك سائا في، على سبيل المثال، الهند، الأمر الذي جعل الأحزاب الشيوعية تدعم أعمال الجيش بأمر الدولة. ويمكنها أيضا بأنصار التروتسكية الأصولية الى الوصول الى صيغ غير عقلانية حول ” البرجوازية في الدول الغير متقدمة ” ( بما فيهم الأرجنتين).وكأنها ” طبقة شبه مضطهدة ” وعن الأرجنتين وكأنه ” دولة شبه مستعمرة يفتقر الى السيادة ” وصل الى ” التصنيع الزائف ” في فترة الثلاثينات حتى السبعينات.

لم يشك لينين في كون الأرجنتين ” مستقل سياسيا ” على الرغم من اعتمادها الاقتصادي على بريطانيا في السنوات حتي الحرب العالمية الأولى. وفي الامبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية يقول ” يوجد شكل آخر من أشكال الاعتمادية في الأرجنتين…حيث تقوم بريطانيا بتمويل رأس المال وتحصل على روابط وثيقة مع البرجوازية الأرجنتينية، مع الدائرة التي تسيطر على حياة الدولة السياسية والاقتصادية “.(5 – 1 لينين، مجموعة أعمال، المجلد 22 (موسكو، 1964) ). بالنسبة له هناك فرق بين أن تسيطر على الدولة الدوائر الأرجنتينية وليس البريطانية. ذلك يعني عدم وجود حرب يتحتم على البرجوازية دخولها مع أولئك الواقعين تحت تأثيرها لأجل حق تقرير المصير. وفي مواضع أخرى ركز على الفروق بين الأرجنتين والدول الأخرى المفتقرة الى التحرر الوطني السياسي. في تلك الحالات وجدت الظروف الملائمة لاحتكاك البرجوازية بالقوى الامبريالية لهدف التحرر الوطني. وقد أصر على الفرق بين التحرر السياسي والاقتصادي مؤكدا على عدم وجود تحرر اقتصادي في ظل سيطرة الشركات الكبيرة من خلال الرأسمالية العالمية.

 

12 M A Garci’a, Peronismo: Desarrollo Economico y Lucha de Close en Argentina (Epiuges de Llobregat, 1980), p29. The Argentinian figure was 749, that of France 571 and that of Italy 414.

13 See the arguments against those who see Argentina as being a ‘neo-colony’ in A Dabat and L Lorenzano, Conflicts) Malvinense y Crisis Nacional (Mexico, 1982), pp68-71.

14 M A Garci’a, op cit, p29.

15 Ibid, p42.

16 The figures are given in ‘Argentina’, Citta Futura, op cit.

17 See the comparison of Italian and Argentinian growth rates in M A Garcia, ‘Argentina: El Veintenio Desarrollista’, in Debate, no 4 (Rome, April-May 1978), p20.

18 ‘Argentina’, Citta futura, op cit, p3.

19 Ibid, p7.

20 Figures for Argentinian wages in 1995 given in ‘Expected Wages in Selected NME Countries’, at http://ia.ita.doc.gov/wages/95wages/95wages.htm

21 See UNDP, World Development Report (Oxford, 1997).

22 Figures in R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, p209.

23 E Carpena, ‘El capitalismo en Argentina’, in Debate, op cit, pl7.

24 According to R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, pp208-209.

25 Federal Reserve Bank of Cleveland, Economic Commentary, September 1999.

26 Ibid.

27 ‘Prologo’ to M A Garci’a, Peronismo: Desarrollo Economico y Lucha de Close en Argentina, op cit, p6.

28 See the figures in Debate, op cit, pi 14.

29 According to A Dabat and L Lorenzano, op cit, p56.

30 Business Week, 21 October 1991.

31 Financial Times, ‘Survey On Argentina’, 19 September 1997.

32 Ibid.

33 The figures given by the US Agency for International Development, Washington DC, 1996, show a rise of about 4 percent—although this figure may be misleading since we know that in this period there was growth of low paid unregistered employment in the black economy.

34 See figure 5 in P Sanguinetti and J Pantano, Changes in Production and Employment Structure and Relative Wages in Argentina and Uruguay, World Bank Sponsored Paper (August, 2001).

35 Ibid, p3.

36 Financial Times, ‘Survey On Argentina’, op cit.

37 J Stiglitz, reprinted in ATTAC Newsletter 113, available at http://attac.org

38 According to the Financial Times, 9 October 2001.

39 P Sanguinetti and J Pantano, op cit.

40 Institute Nacional de Estadistica y Censos, Republica Argentina (available at www. indec.mecon.gov.ar).

41 Financial Times, 30 October 2001.

42 M Mussa, Financial Times, 12 November 2001.

43 According to El Pats, 21 December 2001, 42.5 percent of foreign investment is from European Union countries (more than half of this from Spain) and 37.4 percent from the US.

44 Pagina 12, web version, 25 January 2002, http://www.paginal2.com.ar

INTERNATIONAL SOCIALISM

45 ‘Otra Cacerolazo Contra el Corralito’, Pdginci 12, web version. 11 January 2002. op cit.

46 Pdgina 12, 6 January 2002.

47 F Huertas, Liberation, 28 January 2002.

48 S Calloni, La Jornada, 21 January 2001.

49 E-mailed information from an Argentinian revolutionary socialist.

50 This list is taken from a single issue of the paper Prensa Obrera.

51 The original Trotskyist organisation was led by Nahuel Moreno.

52 J A Monies et al, Astillero Rio Santiago (Buenos Aires, 1999). pp54-55.

53 Quoted ibid, p66.

54 P Pozzi, ‘Popular Upheaval and Capitalist Transformation in Argentina’, iMtin American Perspectives, vol 27. no 5 (September 2000), p74.

55 J A Monies et al.op cit, pl05.

56 P Pozzi, op cit, p79.

57 Ibid, p83.

58 The attempts to do so in La Verdad Obrerci (8 January 2002) and Prensa Obrera (28 December 2001) do not hold water. The fact that there were previous struggles does not mean there was no spontaneous movement of vast numbers of new people into action, constituting a qualitative change form what had gone before.

59 The point is well made in M Romano, ‘Four General Strikes in 15 Months’, in the PTS journal. International Strategy, no 1 (May 2001), p31.

60 As does J Petras, ‘Argentina, the Big Bed and the Popular Uprising’, available at http://www.eurosur.org/rebellion.petras.htm

61 H Camarero, P Pozzi and A Schneider, ‘Unrest and Repression in Argentina’, New Politics, vol 7, no ) (new series), whole no 25 (Summer 1998).

62 Ibid.

63 P Pozzi, op cit, p63.

64 Details from 0 Alba, ‘La Lucha Por el Pan’, Socialismo o Barbaric, no 6, 2001.

65 See, for instance, the description in M Romano, ‘Four Genera] Strikes in 15 months’,op cit, p27.

66 Pdgina 12,31 March 2001.

67 See, for example, the account of the killing of two civilians during the road blockade in General Mosconi, north ofSalta, in Pdgina 12, 1 June 2001.

68 R Saenz in Socialisms o Barbaric, no 6, 2001.

69 See the rather bitterly toned article by local MAS activist Laura Correale in Socialismo o Barbaric, no 7,2001.

70 0 Alba, ‘La Lucha Por el Pan’, op cit.

71 L Correale, Socialismo o Barbaric, op cit.

72 J Petras, op cit

73 See, for instance, *E1 MAS en Argentinazo’, Socialismo o Barbaric, no 10, January 2002. See also the bitter diatribe against Petras in La Verdad Obrero, 8 January 2002.

74 This is clear from the papers of the Partldo Obrero and the Partido de Trabajadores por el Socialism and the magazine of the Movemienio al Socialismo, Socialismo o Barbaric.

75 PPozzi,opcit,p81.

76 Ibid.

77 For a criticism of the CTA position, see 0 Alba, ‘Cuadro de Situaci’on’, Socialismo o Barbaric, no 4, 2000, and R Ramirez and A Orbush, ‘Triste, Soitario, Final…’, Socialismo o Barbaric, no 2, 2000.

78 Deputy economics minister J Todesca, quoted in La Jornada, 8 January 2002.

79 Financial Times, 24 January 2002.

80 David Cufre in Pdgina 12, 1 February 2002.

81 T Catan in Financial Times, 4 February 2002.

82 S Calloni, La Jornada, 8 February 2001.

83       The phrase is used by A Zaiat in Pdgina 12. 4 February 2002.

84 According to A Zaiat, ibid.

85       According to A Zaiat, ibid. See also the analysis of M Itzcovich in // Manifesto, 5 February 2002.

86 P Pozzi, op cit, p76.

87 Figures given in Pagina 12, 22 January 2002, are for the number employed in workplaces of more than 12 employees. They show a loss of 122,000 jobs in these cities in the year

“لا توجد مقاومة لليبرالية الجديدة في الأرجنتين. ليس لليسار تأثير. توجد عدة اضرابات لكنهم لا يثيرون أي تحدي للنظام”.

مداخله من قبل أحد الأرجنتينيين المنتمين لليسار فى مؤتمر ” العولمة والمقاومة ” في لندن، فبراير 2001.

نقل التليفزيون مشاهد لمئات المتظاهرين ـ أغلبهم من النساء والأطفال ـ عند سوبر ماركت صارخين ” نريد أن نأكل ! نريد أن نأكل! “. كما سرقت مئات محلات السوبر ماركت خلال اليوم بجميع أنحاء الدولة.

بدأت الحكومة ووسائل الإعلام فى الحديث عن ” الفوضى السائدة ” وعن ضرورة ” إعادة بناء النظام “. صرح الرئيس دولاروا في يوم الأربعاء على شاشة التليفزيون أنه قد فرض حالة حظرالتجول. فحرم المواطنون من حقوقهم المدنية وأصبح تجمع أكثر من شخصين شغب وفرضت الرقابة على وسائل الإعلام وأطلقت ألة القمع للتصرف والاعتقال كيفما تشاء .

بمجرد انتهائه من الخطبة، بدأ بعض الجماهير بطرق الأواني فى بيوتهم. كان هذا الشكل من الاحتجاج (ساسيرولازو) شائعا في نهاية ديكتاتورية الجيش. لكنه امتد بعد ذلك في الشوارع ليصبح عملاً منظماً. ففي خلال ساعة واحدة، قام مليون مواطن بتحدي حالة الحصار.

بحلول منتصف الليل، امتلأ ميدان بلازا دومايو وقام الآلاف باستبدال الصرخة البائسة “نريد أن ناكل ” بالصرخة الأكثر عدوانية ” أخرجوهم ! “. لم تقتصر إشارتهم على الحكومة فحسب لكنها شملت البناء السياسى ككل . . .  بدأت الجماهير بترديد شعارات خاصة ضد جميع الشخصيات الرئيسية في الأحزاب التقليدية وضد بعض قادة النقابات المرتبطين بتلك الاحزاب.

قامت الشرطة بمهاجمة الجماهيرمن على الخيل بالعصي والمتاريس والغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي. تحول احتجاج الأهالى السلمي إلى حرب حقيقية. لم يسبق للكثير من المحتشدين فى الميدان الاشتراك في احتجاج بالشارع فكان هناك الكثير من الأطفال وكبار السن. كان من السهل على الشرطة حصار وتخويف المتظاهرين في بداية الأمر لكن بدأت المقاومة بالتنظيم. امتلأ الميدان بالجماهير وكذلك السلم المؤدي إلى مبنى البرلمان. بعد ساعات معدودة من بداية الاحتجاج علم الجماهير باستقالة وزير المالية كافالو.

بدأ كل شىء مرة أخرى في يوم الخميس فاحتشد الجماهير في الميدان – الذي أصبح ساحة المعركة بين الأهالي والحكومة. كان هناك العمال ذوي الأجور المرتفعة والمنخفضة وطلبة الجامعات والسيدات المسنات بحقائبهن وأطفال الشوارع والموظفين فى المكاتب والبنوك بقمصانهم وأربطة عنقهم وعمال التطعيم ببدلهم النظامية والكثير من الأهالي والنساء بالأطفال ـ الكل على نفس الجهة من المتاريس.

إزداد القمع وبدأت الشرطة بإطلاق الرصاص مما أدى إلى إصابة ووفاة الكثير من المتظاهرين. رد المتظاهرون بالهجوم على ماكدونالدز وعلى البنوك ورموز أخرى للرأسمالية وفقر الأهالي. كما أشعلوا النيران فى العديد من المباني والسيارات فاتسعت المعركة لتشمل جميع أنحاء المدينة. في الظهيرة تنحى الرئيس عن منصبه وسقطت الحكومة.

“جافير كارلز، تقرير عن أحداث 19 ـ20 ديسمبر 2001 فى بيونس آيرس”

عندما رأيت صفوف الجماهير آتية من جميع أحياء المدينة بعد إعلان الرئيس لحالة الحصار، فكرت ” هذا يشبه سقوط الحائط. انه سقوط حائط الليبرالية الجديدة “.

المعترض ريكاردو كاركوفا، 20 ديسمبر 2001 .

فاجأت الأزمة السياسية والاجتماعية للأرجنتين المسؤولين بالولايات المتحدة الأمريكية. فقد توقعوا أن يتكشف العجز عن سداد الديون بشكل بطىء ومحكوم سياسياً. لم يفكر أحد بجدية في احتمال الفوضى السياسية والاجتماعية.

بعد مرور أسبوع من عجز السلطة المتوقع يتضح تعقيد الأمور وتخشى الولايات المتحدة من انتشار حالة عدم التوازن إلى دول أخرى. علق أحد الدبلوماسيون المحنكون وذوي الخبرة فى المنطقة : ” لم تتدخل إدارة بوش فى هذه الأزمة لأنها لم تر أي مصلحة للسياسة المحلية في ذلك “. لعل هذا الموقف سيتغير إذا اضطرت إلى مواجهة انتشار أزمات سياسية واقتصادية عبر العالم نظراً للتساؤل الذى سيطرحه المعارضون لسياساتها ” من الذي خسر جنوب أمريكا ؟ “.

كارلوس إسكود من جريدة بيونس أريس الأمة، 3 يناير،2002.
لم يقتلع الغضب الذى أطلق في شوارع بيونس آريس في 19 و 20 ديسمبر الحكومة فحسب ولكنه أوضح قدرة الأزمة الاقتصادية على خلق ظروف شبه ثورية. فقد انتقلت الرئاسة إلى أربع جهات مختلفة حتى استقرت عند دوهالدي ـ نائب الرئيس فى الثمانينات ومحافظ بيونس إيريس بعد ذلك. وأنا أكتب الآن بعد مضي ستة أسابيع على الحالة الثورية وأستطيع أن أجزم بأنه لا توجد علامات تشير إلى نقص الأضطراب فى الشوارع. تستمر التقارير عن الاحتجاجات في بيونس إيريس وغيرها من المدن الريفية. إن وصف الحالة في الأرجنتين الوارد في تقارير- على سبيل المثال – الصفحة الإلكترونية التابعة لقناة آزول التليفزيونية يشبه وصف ألمانيا سنة 1923، إجهاض صعود الثورة وفشل محاولة الإنقلاب النازي. في مكان تلو الآخر، أدى العاطلون عن العمل دور الخفراء وقاموا بسد الشوارع، واقتحم الجياع محلات السوبر ماركت طالبين الطعام بينما هاجم أولئك الذين تجمدت أرصدتهم البنوك. وقد تحدث زعيم الحزب الحاكم بمجلس الشيوخ عن إمكانية إندلاع ” حرب أهلية “. توقفت الحكومة عن سداد ديونها الخارجية وشنت هجوما لاذعا ضد ملاك المؤسسات الخاصة وبعثت بالشرطة لفحص ملفات البنوك الأجنبية. وفي نفس الوقت فهي تطمئن صندوق النقد الدولي بأنها ستصل إلى ترتيب يعيد توازن النظام الرأسمالي وتؤكد للبنوك المملوكة للأجانب أنها لا تنوى إيذائها.

يصدق القليل من المشاهدين قدرة الحكومة على إطفاء حالة عدم الرضا التى تغلي فى جموع الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة على حد سواء أو أنها تستطيع أن توفر متطلبات النظام الرأسمالي العالمي. الحكومة غير قادرة على الاستمرار في سياسة واضحة حالها كحال أي حكومة تواجه وضعا شبه ثوري ولا تستطيع أن تفكر فى أكثر من بقائها ـ تتحرك تبعاً لذلك فى اتجاه ثم تغيره لتعود وتتبناه مرة أخرى.

إن الوقت لا يزال مبكراً لتحديد مجرى تطور الأمور بوضوح. تحدث بعض المعلقون عن ” سقوط الدولة “، لكن فى هذا مبالغة. فقد تمكنت قوات الدولة المسلحة من قتل مالا يقل عن 24 متظاهر في 20 ديسمبر في بيونس أريس و 20 آخرين بمدن أخرى. كما استمرت في الاعتداء على المتظاهرين بالأقاليم. على الرغم من ذلك، لا يمكن انكار الضعف الكبير للدولة. فقد رفض الجيش – الذى كثيراً ما لعب دور الوسيط لسياسة الدولة فى الماضي ـ التدخل حتى الآن . فقال أحد الضباط للصحفيين: “إذا طلب مني التدخل سيكون همي الأول انصياع رجالي لأوامري حتى فى حالة تطور الأمور الى فوضى أو حرب أهلية”)1).

لا يمكن لوضع عدم التوازن القائم أن يستمر للأبد فالعناصر المتباينة للطبقة الحاكمة الأرجنتية تحاول الوصول الى استراتيجية عامة لاسترداد تحكمها في الأحداث وانهاء العصيان في الشوارع. في حالة النجاح – فلا شك – أنها سوف تستخدم جميع قوى الدولة في فرض نظرتها للنظام ولانزال الانتقام على من قاموا بتحدي سلطتها. لكن، لا تزال المسافة طويلة أمامها. ففي الوقت الراهن، تشكل الحالة الثورية في الأرجنتين أهمية كبيرة للنظام العالمي وللمعارضين له – الذين ظهروا فى جميع أنحاء العالم فى السنتين والنصف التى تلت مظاهرة مناهضة الرأسمالية بسياتل.


الحوادث السابقة في الارجنتين:

كما يحدث فى الثورات الشعبية الكبيرة يبحث الناس في الأرجنتين فى ذاكرتهم التراكمية عن أحداث مماثلة في الماضي. وقعت ثلاث حالات عصيان كبيرة من أسفل فى القرن العشرين وأدت الى مواجهات مع السلطة كان لها تاثير على التطور الاجتماعي لسنوات طويلة.

كانت أولى هذه المواجهات فى يناير 1919 – في سنة حدوث الثورات على المستوى العالمى. شهد ” الأسبوع المأساوي ” معارك دامية بين العمال وقوى الدولة فى بيونس آريس. هاجم الأمن عمال مصنع الأدوات المعدنية فى فانسيا بعنف نتيجة لاضرابهم لعدة أيام قام 200 ألف عامل بالتظاهر بقيادة زعماء النقابات الفوضويون داخل المصانع. تمكن العمال من ارباك الأمن على الرغم من قيام معركة نارية. عندما أمرت الحكومة بزحف الجيش في المدينة ردت النقابات باعلان الاضراب العام الذى كان له تاثير كبير فى البداية. لكن تدريجيا ازدادت فعالية القمع وكسرت بعض النقابات الاضراب بانضمام المجموعات اليمينية الى الشرطة والجيش في شن الهجوم على مناطق الطبقة العاملة وفي الاغارة على المباني النقابية وقتل العمال. بحسب الاحصائية الأخيرة في النشرة الاشتراكية وصل عدد القتلى الى 700 وعدد الجرحى الى 4000. وفى السنة التالية، قام الجيش بتفريق مظاهرة نقابة الفلاحين فى بتاجونيا وقتل 1500 متظاهر.

كانت نتيجة تلك النضالات حاسمة فى تأثيرها على مجرى السياسة الأرجنتينية لمدة عقدين من الزمان. ” اتسمت النقابات عموما بالضعف في العشرينات بينما اتسع دور الجيش كوسيط للسياسة القومية “(2). فقد تمكن من جلب ” عقد الخزي ” بعد انقلاب سنة 1930 وقامت الحكومات اليمينية المحافظة بحكم الدولة من خلال التلاعب في الانتخابات والفساد والابعاد الفعلي للعمال عن الحياة السياسة(3).

كانت المواجهة التالية في 17 اكتوبر 1945 – ” الحدث الذى شق طريقه الى أساطير الحركة العمالية الأرجنيتية، ففي ذلك اليوم دخلت الطبقة العاملة الى الساحة السيايسة بشكل ضخم ومتفجر “(4). كانت قد استولت مجموعة من الضباط القوميين على السلطة في 1943، في ظل التوسع الاقتصادي الذى كاد يجدد انتشار روح النضالية بين صفوف الطبقة العاملة. فأخذ أحد أفراد المجموعة، جوان بيرون، على عاتقه السيطرة على ذلك. أصر على أن يذعن أصحاب العمل لبعض مطالب العمال الأمر الذى مكن القادة الداعمون لمشروعه السياسي من كسب التأييد اللازم للسيطرة على النقابات الأساسية والتي أخذت فى النمو وازداد تأثيرها. لكن بحلول عام 1945 رأت شرائح من الطبقة الحاكمة أن حجم التنازلات التي قدمها بيرون كبير جدا واقنعوا زملاءه من الضباط بخلعه من الحكومة.

رأى العمال فى التعدي على زعيم قدم لهم التنازلات تهديدا لمستوى معيشتهم وكرامتهم. وفي أثناء انتشار موجة من المظاهرات دعت فدرالية النقابات الى اضراب عام. فقامت صفوف من العمال بمسيرة فى ميدان بلازادومايو بمركز بيونس آريس مرعبين الجيش ومجبرينهم على اعادة تنصيب بيرون. ضمن التوسع في النصر في الشوارع نجاحه بأغلبية ساحقة في انتخابات الرئاسة للسنة التالية ومن ثم بقي في الحكم حتى سنة 1955.

كان انتصار العمال سلاح ذو حدين. فقد خلق الظروف التي أجبرت أصحاب العمل على زيادة الأجور الحقيقية بنسبة أكبر من 30% خلال أربع سنوات. ومارس زعماء النقابات تأثير مهم في حزب البراءة الذى أنشاه بيرون. وقد قدمت حكومة بيرون نموذج للخدمة الاجتماعية في الدولة من خلال الاعتراف بالنقابات واجازات مدفوعة الأجر وتعويضات في حالة الاستغناء فضلا عن الاعانات الاجتماعية. لكن قام شكل النصر الذى حظي به العمال بتقييد الحركة العمالية بأسطورة بيرون مما أدى الى تكون طائفة تتبع زوجته ايفيتا والى تفشي القومية التي تبشر باتحاد العمال وأصحاب العمل الوطنيين – بذلك تكون ” الرأسمالية العالمية أداة للاستغلال أما رأس المال القومي فيصبح آلة للخدمة الاحتماعية “(5).

كان الانفجار الثالث كوردوبازو في 1969 ويعد المرادف الأرجنتيني لمايو الفرنسي و” الخريف الحار ” الايطالي. تحرك العمال ضد الاعتداءات المستمرة على الأجور الحقيقية وظروف العمل طوال عشرون عاما.

بدأ الانخفاض في الأجور في ظل بيرون لكن كانت النقابات لا تزال تتمتع بقدر كبير من القوة بالمقارنة برغبات الرأسمالية الأرجنتينية. قام الجيش بالاطاحة ببيرون في 1955. لم تقم الثورة العمالية الفورية والمنسقة مثلما حدث من عشر سنوات مضت. لكن ذلك لا يمنع لجوء الدولة الى استخدام آلة القمع بشكل مكثف لاخماد المقاومة الواسعة والمعارك الحادة فى الشوارع والاضراب العام الذي استمر ليومين والتخريب المسلح. انتهزت الرأسمالية الأرجنتينية كل فرصة في العشر سنوات التالية للتخلص من المناضلين وفرض الاسراع في الانتاج و “منطقة” الصناعة وخفض الأجور الحقيقية. فقد تلى كل نجاح للعمال في مواجهة الاعتداء على مستوى أجورهم زيادة فى التضخم – تمكّن أصحاب العمل من استرجاع مكاسبهم – ومن ثم فترة ركود تستنزف عزيمة العمال فى مواجهتهم لقمع السلطة. عاد مستوى الأجور الحقيقية في 1960 في بيونس آريس الى ما كان عليه في 1947، كما انخفض نصيب العمال من الناتج القومي في 1965 من 49.9% الى 40.7%(6 –7). كان ذلك هو الوجه الآخر لاستراتيجية التنمية التى تبنتها الطبقة الحاكمة بهدف الكسب لبناء الصناعات الثقيلة القادرة على المنافسة فى الاسواق العالمية.

عمقت تلك الاعتداءات المرارة بين صفوف الطبقة العاملة. ووصل الولاء الكبير لبيورقراطية النقابات العمالية البيرونية وارتباط الهوية السياسية ببيرون المنفي، الى الدرجة التي تحتم فوزه في أي انتخابات نزيهة. ترتب على ذلك تدخل الجيش في 1962 و1966 في ظل الحكومات المدنية ومن ثم ديكتاتورية الجيش بقيادة جنرال أونجانيا. قامت الديكتاتورية بتجميد المرتبات وكسر الاضراب كما استولت على النقابات التى أبدت مقاومة فضلا عن الغائها للأحزاب السياسية بما فيها البرجوازية، وحاولت فرض سيطرة الجيش على جميع مستويات المجتمع – على سبيل المثال سيطرتها على الجامعات. قتلت القوات المسلحة اثنين من الطلبة أثناء الاحتجاج ضد أسعار الوجبة في مايو 1969(9). اشتعلت المظاهرات الاحتجاجية والاضرابات المحلية ونادت المؤسسات النقابية باضراب عام ليوم 30 مايو.

كانت كوردوبا مركز لصناعة محركات السيارات على الرغم فى عمرها القصير- 20 عاما. تميزت بأجورها العالية بالنسبة لمعظم الصناعات الاخرى لدرجة أن البعض لقب العاملين بها ” بالأرستقراطية العمالية “(9). لكن نتيجة لحداثة الصناعة والصبا النسبي للقوى العاملة بها لم يثقل عاتقتهم بوقع الهزائم السابقة بالاضافة الى موقفهم الأقل خضوعا بالنسبة لبيوروقراطيات الاتحادات القومية. فقد قرر العمال بمصانع السيارات والطاقة اضافة “اضراب فعال ” الى الاضراب العام بيوم 29 مايو. فتظاهرت صفوف من العمال بمركز المدينة وعند مقر الشرطة الرئيسي والفنادق والبنوك – وكان بعضهم مسلح بكوكتيل مولوتوف. كان هناك 4 آلاف عامل من رينالت و10 آلاف من عمال صناعة المعادن وألف من العمال بالطاقة. وقد تمكنوا من اجبار 4 آلاف شرطي على الفرار واحتلال مركز المدينة. لكن انضم 5 آلاف جندي مسلح الى المعركة مما أدى الى تقهقر العمال الى مناطق الطبقة العاملة والطلبة واقامتهم للمتاريس. تسبب القمع في قتل 16 شخص لكنه لم يوقف الحالة الثورية، الأمر الذي كشف هشاشة الحكومة العسكرية وقوة التحرك الجماهيري. ففتح الطريق لمدة ثلاث سنوات للمظاهرات العنيفة والاضرابات الكبيرة واحتلال المصانع واحتجاز المدراء كرهائن وحروب العصابات ضد قوى الدولة بالاضافة الى الحالات الثورية الأخرى في كوردوبا و الفيبورازو (10).

لم تتوقف موجات النضال الاّ باذعان الطبقة الحاكمة وقيام الجيش باعادة بيرون الى البلاد وتقليده لمنصب الرئيس في أكتوبر 1973. لعبت الحكومات في عهده ومن ثم في عهد زوجته الثالثة ايزابيل- بعد وفاة بيرون في يونيو 1974 تقلدت زوجته منصب الرئيس – نفس الدور الذي لعبته الحكومات التي أشرفت على “العقد الاجتماعي ” في بريطانيا و” ميثاق مونكلوا ” بأسبانيا و” التسوية التاريخية ” بايطاليا. فتمكن البيرونيون من استخدام تأثيرهم على بيوروقراطيات الاتحادات حتى وصلوا الى درجة عالية من التحكم في نضالات الطبقة العاملة من خلال “الميثاق الاجتماعي “، بينما قامت البرجوازية والدولة باعادة تنسيق قوتهما. لكن اعادة التنسيق في الأرجنتين أخذت طابعا أكثر دموية بالمقارنة بدول غرب أوروبا. فقد أعطي للمجموعات اليمينية المتطرفة حق التصفية البدنية لخصومهم. ففي يوم عودة بيرون قامت القوات المتحالفة مع اليمين بالهجوم على اليساريين بالمطار- وسط 2 مليون مستقبل لبيرون – وقتل عدد كبير منهم. تم قتل عدد كبير من اليساريين ومن المناضلين بالنقابات بالتعاون مع قادة النقابات في الثلاث سنوات من حكومة بيرون. وبعد ذلك في 1976 قام الجيش بالاطاحة بايزابيل بيرون وبدأ بشن الهجوم الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية على حركة الطبقة العاملة وقتل 30 ألف من اليسار والمناضلين.


طبيعة النضال في الأرجنتين:

كان للانفجارات الشعبية الثلاث للقرن العشرين سمة رئيسية مشتركة، التصادم بين الطبقة العاملة الصناعية من ناحية والبرجوازية ودولتها من ناحية أخرى. كان الصراع الطبقي في الأرجنتين نتيجة مباشرة لديناميكية تطور الرأسمالية داخل الأرجنتين ولم يكن نتيجة لطريقة انتاج جديدة أو عامل عرضي. ان لتلك النقطة أهمية كبيرة لأن اللغة المستخدمة في توصيف ما يحدث بالأرجنتين كثيرا ما تخفي الجذور الحقيقية لثورة 19-20 ديسمبر.

تصنف الأرجنتين من قبل الاتجاه السائد للاقتصاد على أنها “سوق ناشئ” أو “اقتصاد نامي”. يتضمن ذلك الانتقال من كونها دولة زراعية فقيرة لتصبح دولة صناعية متقدمة مرورا بالأزمات الناجمة عن عدم انتقالها بالسرعة الكافية. يستخدم اليسار مصطلحاته في التعبير عن نفس الفكرة بالتحدث عن الاقتصاد “التابع” أو “دولة العالم الثالث” أو ” الشبه مستعمرة ” (11).

تعاني القرى من الفقر الشديد اليوم – استمر هذا الوضع منذ أمد بعيد في المناطق الريفية الواسعة ذات عدد السكان الغير كثيف وفي مدن الأكواخ الموجودة حول المدن الكبيرة مثل بيونس آريس وكوردوبا. لم تكن الأرجنتين دولة زراعية فقيرة من دول العالم الثالث تاريخيا. فمنذ قرن مضى، كانت الأرجنتين أشبه باستراليا وكندا ونيوزيلاندا من حيث الاقتصاد الذي يرتكز على تصدير المنتجات الزراعية -العالية الربح والمرتبطة بتوسع الرأسمالية (كاللحوم والصوف والحبوب) – الى غرب أوروبا فسميت ” مصدر العالم للحبوب “. ولم تكن القوة العاملة في الزراعة من أهالي دول العالم الثالث – فقد تمت تصفية هؤلاء بالطريقة الأمريكية في القرن التاسع عشر – بل كانوا مهاجرين وعمال موسميين انجذبوا الى الأجور العالية بالنسبة للأجور في بلادهم، أسبانيا وايطاليا أو جنوب أوروبا بشكل عام. كان دخل العامل في الأرجنتين أكبر بكثير من نظيره في فرنسا وايطاليا (12). كان للطبقة الحاكمة روابط وثيقة بالطبقة الحاكمة البريطانية – كانت الأرجنتين المقر الرئيسي لهجرة الصفوة البريطانية ورأس المال البريطاني فضلا عن استيراد بريطانيا لثلث صادرات الأرجنتين – لكنها تمتعت بدرجة من الاستقلال سمحت لها بفرض الضرائب الوقائية على الواردات الصناعية البريطانية والبقاء على الحياد أثناء الحرب العالمية الأولى. ( في الوقت الذي أسهمت فيه كل مستعمرة والدومنيون بالأموال والرجال لمسعى الحرب الامبريالية ) (13). يقول أحد التأريخات الماركسية للبيرونية، ” كانت الأرجنتين عند بداية الحرب العالمية الأولى قد أصبحت دولة رأسمالية متقدمة ” (14).

لم تكن مشكلة القطاعات المختلفة للطبقة الرأسمالية خلال القرن العشرين افتقار الأرجنتين للتحرر السياسي الوطني – فهي تتمتع به منذ 1816. تكمن المشكلة في تحكم الطبقة الحاكمة الأرجنتينية بسوق محلي صغير وبموارد قليلة بالنسبة لعالم الطبقات الرأسمالية الأكثر ثراء بأسواقها الأكثر ضخامة ومواردها الأكثر وفرة. فكلما وصلت تلك الطبقة في الأرجنتين أنباء هبوط السلع الزراعية – ومكاسبهم معها – انتابتهم نزعة انتقامية. حدث ذلك عند الركود العظيم في سنوات الحرب بهبوط السعر العالمي للقمح بنسبة 75%. عندئذ اكتشفت البرجوازية الأرجنتينية التي كانت تعد نفسها جزءا من النخبة القوية في العالم، هشاشة التوازن الذي يقف عليه ثراؤها. فبامكانها أن تستخدم القوة لتعدّل حدودها مع شيلي أو بوليفيا لكنها لا تستطيع أن تفرض على فرنسا استقبال حبوبها أو لحومها (15).

تركز رد فعلها منذ 1930 في اعادة توجيه مكاسبها الزراعية الى بناء الصناعة الصلبة والتي تزود السوق المحلي والمحمي باحتياجاته. بدأت الحكومات التي تسيطر عليها مصالح الرأسمالية الزراعية بتنفيذ تلك العملية ثم قام بيرون بتكثيفها في أواخر الأربعينات. وقد سلكت الحكومات التي تلته نفس الطريق في الخمسينات والستينات. تتشكل الطبقة الرأسمالية الصناعية – التي تحجب الرأسمالية الزراعية اليوم – من مجموعتين مرتبطتين. أشرف رأسماليوا القطاع الخاص على الصناعات الصغيرة والمتوسطة بينما أدار بيوروقراطيوا الدولة ( بالاضافة الى ضباط الجيش ) أغلب الصناعات الجديدة والكبيرة كالحديد والصلب والسيارات وتوليد الطاقة والبترول. وقد حافظت كل جهة على روابط معينة مع بيوروقراطيات النقابات – العالقة في شبكة من الفساد.

لقد مكنت تلك المعايير الأرجنتين من التصنيع. ففي السبعينات اشتغل 34% من السكان بالصناعة و13% بالزراعة(16). كان معدل نمو الصناعة في ذلك الوقت شبيه بمعدل النمو في ايطاليا (التي أشار اليها منظري الاتجاه السائد في الاقتصاد وكأنها تمر ” بمعجزة “، على الرغم من كونها من أفقر دول غرب أوروبا) (17)

قد توضح بعض الاحصاءات من 1972 الفرق الضئيل بين الأرجنتين وايطاليا في ذلك الوقت (18):

المواد الأرجنتين ايطاليا
كيلوجرامات اللحوم للفرد في السنة 90 47
لترات الحليب للفرد في السنة 70 65
لترات زيت الذرة للفرد في السنة 10.3 7.9
السعرات الحرارية للفرد في اليوم 3170 2940
عدد السيارات لكل 100 فرد 11.6 20.9
عدد التلفزيونات لكل 100 فرد 14,9 18.9
عدد الصحف لكل 1000 فرد 128 85
عدد السكان في المنزل الواحد 3.8 3.1
عدد طلبة الجامعة لكل 1000 فرد 11.4 11.7
عدد الأطباء لكل 1000 فرد 18.9 18
معدل الوفيات لكل 1000 فرد 8.8 9.6
متوسط العمر المتوقع 67.06 65.77

توجد العديد من الاختلافات ما بين الدولتين – كانت الأرجنتين أفضل فيما يخص المواد الغذائية بينما فاقتها ايطاليا من حيث قدرة المستهلك. ان الاختلافات بين الدول المتقاربة من حيث مستويات ” التنمية ” لا يمكن أن تشبه نتائج المقارنة بين دول كايطاليا والهند أو حتى بين الأرجنتين وجواتيمالا. وكانت الأرجنتين –على الأرجح – أقل اعتمادا على رأس المال الأجنبي والواردات. فشكلت الواردات

1% من السلع الاستهلاكية أما رأس المال الأجنبي – فبالرغم من أهميته في بعض الصناعات – فشكل 5% فقط من الاستثمار الكلي ( مقارنة ب 15.4 % في 1943 ) (19).

حدث تغير ضخم منذ 1972. اتسعت الفجوة في مستوى المعيشة لعامة الشعب بين الدولتين. على الرغم من أن متوسط الأجور في المصانع ما قبل الركود الحالي لم يتجاوز 1,67 دولار يوميا – علما بكسب الكثيرين لأقل من ذلك – تعاني الأرجنتين اليوم من فقر لم تشهده ايطاليا منذ الأربعينات (20). لقد انخفض متوسط تناول السعرات ( على الرغم من التقارب في مستوى تناول السعرات ببريطانيا في منتصف التسعينات، وكونه أعلى بمقدار الثلث مقارنة بدول مثل جواتيمالا وبوليفيا ) (21). ان هذا ليس نتيجة ” تخلف الأرجنتين في مجال التنمية”. فبمجرد وصول الرأسمالية الضعيفة الى مرحلة معينة في التنمية تواجه الكثير من التناقضات. فمن المنظور الرأسمالي، ان الأرجنتين قد أحرز تقدما منذ 1972 – على الرغم من الوضع الأسوء الذي وصل اليه الغالبية العظمى من السكان.

لا يمكن للطبقة الحاكمة الرأسمالية والقومية أن تكتفي أبدا بالقدر المعين الذي وصلت اليه. فالرأسمالية القومية المتنافسة تكدس بلا توقف ولا يستطيع أحد الأطراف التلكؤ. ان الطبقة التي تحكم اقتصادا صغيرا نسبيا تجد الأزمات شديدة الحدة، حتى في حالة قيام اقتصادها على الصناعة بدلا من الزراعة. فقد نجحت حماية السوق المحلي في تقديم حلول قصيرة الأجل لبعض تلك الأزمات في الماضي، لكن صغر السوق يجعل تكلفة الانتاج تتفاوت في الارتفاع وتكون الموارد – الموجودة بغرض التكديس – محدودة بالمقابل. بالتالي، يتوجب تكثيف معدل الاستغلال على الدوام واعادة التنظيم لفرض تحول رأس المال من أيدي أصحاب التجارة الصغيرة الى أصحاب التجارات الأكبر. هذا ما كانت تقوم به الرأسمالية الأرجنتينية لأكثر من نصف قرن، الأمر الذي يفسر وحشية المواجهات بينها وبين الطبقة العاملة فضلا عن سياساتها المتقلبة ولجوئها المتكرر للحكم العسكري. وأخيرا، انفتاح اقتصادها للتمويل الأجنبي والدولي وخضوعها لشروط صندوق النقد الدولي.

تمكن الرأسماليون في الأرجنتين من تفادي تلك المشكلة الى حد ما أثناء الخمس سنوات الأولى من حكم بيرون. فقد أدى نقص الغذاء في أوروبا الى تضاعف أسعار الصادرات الزراعية للأرجنتين. وساهمت الأرباح الباهظة العائدة الى الدولة في التخلص من حالة عدم الرضا لدى الطبقة العاملة ومن التصنيع لصالح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة في نفس الوقت. باستخدام النموذج ذاته، أدى الهبوط الضخم لأسعار المنتجات الزراعية في أوائل الخمسينات الى سحب البساط من تحت أساليب بيرون. فابتداء من 1951 والرأسمالية الأرجنتينية تبني صناعاتها من خلال زيادة معدل الاستغلال – الاقتطاع من مستوى العمال المعيشي. كما قامت بضخ مكاسبها – التراكم – بشكل متزايد في الصناعات التي تولد وسائل للانتاج لكي تتماشى الرأسمالية الأرجنتينية مع منافسيها، بدلا من توفير السلع الاستهلاكية للعمال والطبقة المتوسطة. لقد كان انخفاض مستوى المعيشة حتمي في ظل نمو الصناعة الرأسمالية.

ان ذلك يفسر سبب نفي الطبقة الحاكمة لبيرون في 1955 وعدم قيام قطاعات البيرونيين المرتبطة بالرأسمالية القومية بتعبئة معارضة حقيقية حيال الاطاحة به. كما يفسر الأسباب وراء ما شهدته الفترة ما بين 1955 و 1983 من حكومات منتخبة قصيرة الأجل وما تخللتها من فترات أقصر أو أطول من حكم الديكتاتورية العسكرية. فقد جذبت كل نزعة للتوسع الصناعي أناس جديدة الى أماكن العمل وزادت ثقة الطبقة العاملة – التي ظهرت في النضال لأجل الصناعة ودعم السياسة البيرونية ” الشعبية ” التي وعدت باعادة جزئية على الأقل لمستوى المعيشة وتوفير الضمان الاجتماعي المعروف سابقا. لم تتمكن الحكومات المدنية من مقاومة تلك الضغوط لفترات طويلة. لكن بلا شك أرادت الرأسمالية الأرجنتينية التخلص من تلك الضغوط، الأمر الذي جعلها تلجأ الى الرجال الأقوياء في الجيش لاستعادة النظام.

بدأت الحلقة الأخيرة بكوردوبازو مارة بالحكومات البيرونية الى أن وصلت الى الديكتاتورية العسكرية ال ” جانتا “. فقد حاولت الحكومات البيرونية اخماد عدم الرضا لدى الطبقة العاملة بدون الاقتطاع الكافي من مكاسبها من خلال طباعة النقد مما أدى الى ارتفاع الأسعار بنسبة 20% و 30% شهريا في منتصف 1975. فجاءت الديكتاتورية العسكرية المسؤولة عن ” اعادة النظام ” أكثر عنفا من أي وقت مضى. لم يقتصر القمع على القتل الجماعي. فقد حدث هجوم غير مسبوق على مستويات المعيشة للعمال. وصلت الأجور الحقيقية في 1987 الى نصف ما كانت عليه في 1975 (22). ان ذلك يعني جعل المستوى المعيشي أكثر سوء مما كان عليه في 1940 (23).

لقد صاحبت الهجمات المتعاقبة على العمال واليسار عملية دعائية واسعة النطاق تهدف الى منطقة وتبرير الصناعة من خلال المبالغة في تقييم البيزو وتحويل الدولة الى جنة للمضاربين. اقتطع حوالي خمس القوة العاملة الصناعية في خلال أربع سنوات بينما فرض على العمالة المتبقية رفع معدل انتاجها بمقدار 37% (24). لم تتغلب هذه الاجراءات – التي حرمت نصف مليون عامل بالقطاع العام من وظائفهم – على المشاكل الجوهرية للرأسمالية في الأرجنتين. فقد تلى النمو الاقتصادي لسنة 1979 الجمود في سنة 1980 ومن ثم ركود 1981 – بينما استمر التضخم السنوي أكثر من 100%. لم تقتصر حالة عدم الرضا على الطبقة العاملة فحسب بل وصل – أيضا – الى قطاعات من الرأسمالية الأرجنتينية. فجاءت حرب فوكلاند كمحاولة لتحويل الانتباه عن تلك المشاكل. ولذلك، أدت الهزيمة الى انتهاء عصر الديكتاتورية في 1983 دون انتهاء مشاكل الرأسمالية في الأرجنتين.


بحث الطبقة الرأسمالية عن استراتيجية:

لقد فتح انتصار الحزب الراديكالي على يد ألفونسين – في انتخابات الرئاسة لسنة 1983 – الطريق لسلك نموذج الحكومات المدنية المتعارف عليه. فقام العمال بالضغط لاستعادة ما فقدوه من مستوى معيشتهم في فترة حكم الجانتا لكن الرأسمالية لم تكن قوية بالقدر الكافي لتوفر تلك المطالب فقامت برفع الأسعار لكي تستعيد مكاسبها. ارتفع الانتاج لمدة سنة أو سنتين لكن ما لبث التضخم أن وصل الى مستويات فلكية – وصل الى 1470% أثناء 12 شهر حتى يونيو 1989 ثم وصل الى 20226% في 12 شهر حتى مارس 1990 – في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد ينهار بعنف (25). وكانت الديون الأجنبية قد تضاعفت حتى وصلت الى 60 بليون دولار. وقد فاقت معاناة العمال الاقتصادية معاناتهم في فترة الجانتا

– انخفضت الأجور الحقيقية في 1989 بنسبة 25% عن المستوى البائس أصلا لسنة 1980. لقد اشترك الرأسماليون والطبقة العاملة في الاحساس بالأزمة الضخمة القادمة.

نظمت الاتحادات ما لا يقل عن 12 اضراب عام في تلك الفترة. فقد تفشى الجوع بين الجماهير التي كانت في الماضي من الأفضل من حيث التغذية في العالم. وقامت حالات ثورية طلبا للطعام بالاضافة الى نهب محلات السوبرماركت في بيونس آريس في 1989. لكن فقدت الحلول القديمة للأزمات مثل وهم الحكومة المنتخبة أو الانقلاب العسكري فعاليتها – فقد سقطت ثلاث محاولات للانقلاب ما بين 1987 و1988 نتيجة للمعارضة الجماهيرية الضخمة كخروج مليون شخص الى الشارع في المحاولة الأولى – والانشقاق بين صفوف القوات المسلحة. كانت النتيجة حدوث تغير انتخابي عن طريق خلع الحزب الراديكالي وألفونسين وتنصيب البيرونيين بفوز مينيم في انتخابات الرئاسة لعام 1989.

لقد أجبر الرأسماليون بالأرجنتين بعد أزمة حكومة ألفونسين على البحث عن استراتيجية اقتصادية جديدة. فعلى الرغم من نزعتهم المتكررة للتراكم ورغبتهم الشديدة في المنافسة العالمية، كان ناتج الفرد الواحد أقل بمقدار الخمس بالنسبة لعشر سنوات مضت (26). كانت القطاعات الأقوى والأكثر تقدما من حيث رأس المال قد بدأت بالضغط لاتباع سياسة جديدة.

استجابت ديكتاتورية أونجانيا ( 1966 – 1970 ) لاحتياج الرأسمالية الأرجنتينة في توفير الأوضاع المناسبة لنظام التكديس المبني على تمزيق السيادة المطلقة ودخول الصناعة الى السوق العالمي. توجب تحويل التراكم الموسع من تنمية السوق المحلي المحمي من الدولة عن طريق الحواجز الضريبية الى التصارع الوحشي لخلق مكان وسط القوى الكبيرة في السوق العالمي (27).

حدث التحول عن الاستراتيجية القديمة ببطء نظرا للضغوط السياسية الناجمة عن صعود نضال الطبقة العاملة في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. ولم يتمكن أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة من دفع منهج ” الليبرالية الجديدة ” الاّ بمجيء الجانتا العسكرية الى السلطة في 1976. أدى خفض الضرائب وارتفاع معدل التبادل التجاري الى غمر السوق المحلي بالواردات – الأمر الذي أدى الى خفض الكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة لأسعارها وانخفاض عدد ساعات العمل في الصناعة بنسبة 20%.

استمرت أجزاء من النظام في استخدام سلطة الدولة لتعزيز بعض الصناعات التي قامت الشركات المحتكرة أو قطاعات من السلطة بادارتها – الماكينات والأجهزة والحديد والصلب وتطوير البنية التحتية والكهرباء والغاز وانتاج الأسلحة والأدوات الزراعية. وقد نمت كل تلك الصناعات من 1976 الى 1980(28). وقد رأت الدولة المدارة عسكريا في الأرباح التي يمكن احرازها بتصدير الغذاء الى الاتحاد السوفييتي – بشكل خاص – مصدر لبناء القوة الصناعية القومية ( وشراء الأسلحة ). فكانت الدولة مسؤولة عن أكثر من نصف الاستثمار الكلي للسنوات من 1976 – 1978 (29). كان نمو رأس المال الكبير على حساب رأس المال الصغير واستغلال الطبقة العاملة. لكن استمر افتقار الطبقة الرأسمالية الى المنافسة العالمية التي كانت تسعى اليها. ألقى أصحاب نظرية كمال السوق الحر اللوم على ما تبقى من تحكم الدولة والصناعات المؤممة.

أتاحت أزمة الثمانينات الفرصة السياسية للالقاء بهذه الأشياء. أضعف البؤس المخيم على الجماهير امكانية ابداء الطبقة العاملة أو المتوسطة لمقاومة. فقد أدى الانخفاض الكبير في مستويات المعيشة ووصول التضخم الى مستوى يصعب تصديقه الى الرغبة البائسة لجميع الطبقات في بديل ما.

حضر مينيم الى منصبه وهو يعد بتوفير البديل وتمتع بدعم شديد من بيوروقراطيات النقابات العمالية ومعظم العمال. لكن روابطه الأخرى بقطاعات من أصحاب الشركات الضخمة – الباحثين عن نموذج جديد للتراكم – جعلته يلجأ الى الرئيس السابق للبنك القومي أثناء حكم الديكتاتورية والاقتصادي المتمرس في هارفارد – دومينجو كافالو – للحصول عليه. تبنى كافالو وجهة النظر التي ترى في الليبرالية الجديدة الخلاص من أزمات الرأسمالية الأرجنتينية.


صانع معجزة الليبرالية الجديدة:

انه فصل الربيع في بيونس آريس. تبيع الحكومة كل ما يقع عليه النظر. اللافتات الاعلانية الضخمة تعلن عن مباني المكاتب في شيك كالي فلوريدا وأكرات الواجهة المائية. ويتم ترحيل وحدات الجيش لتحل محلهم المباني السكنية. أصبح لكل زرافة ونعامة وللفيل الهندي البالغ من العمر 48 عاما والمسمى بنورما مالكا خاصا بعد بيع حديقة الحيوان.

لم تتوقف عملية الخصخصة عند المدينة واتسعت لتشمل حقول البترول التي فتحت لأول مرة للمستثمرين بالقطاع الخاص. سوف تنهي عملية سكب السيولة أزمة الديون لعقد كامل. ” في خلال عدة أشهر، ستصبح ( الديون ) جزء من التاريخ القديم ” يتفاخر دومنجو كافالو، وزير الاقتصاد بالأرجنتين. لذلك، يحتشد اليوم المستثمرون الى أمريكا اللاتينية.

ان التغير في الثلاث سنوات الماضية لا يقل عن كونه ثورة اقتصادية مركزها الخصخصة. في الوقت الذي سقطت فيه الاشتراكية مدوية في اوروبا، تهاوى النظام التقليدي المتمركز في ادارة الدولة للصناعات الاستراتيجية بهدوء. الآن ينحني اللاتينيون كأهالي أوروبا الشرقية للسوق الخاص ويتسابقون للاستثمار لانعاش اقتصادهم المتردي. ان التغيير يعني فرصة ضخمة لبنوك العالم الأول التي تجمع العمولات مقابل المساعدة من خلال التعريف بحيل التمويل والاندماج والكسب المأخوذة عن الشمال.

هذا هو تحليل جريدة بزنس ويك في 1991 (30). اشتركت معظم وسائل الاعلام التجارية بالاضافة الى ” خبراء ” الاقتصاد في المنظور المتفائل فيما يخص المكاسب المتوقعة من الأرجنتين وانتهاء حلقة الأزمات والديون. استمر التفاؤل لمدة ست سنوات على الرغم من فترة الركود القصيرة التي مرت بها الأرجنتين بعد أزمة ” تيكيلا ” المكسيكية في 1994. ” انني شديد التفاؤل “، هذا ما قاله والتر مولانو – مدير قسم الأبحاث الاقتصادية والتمويلية في واربورج بنيويورك. وقد أضاف قائلا: ” ان الدولة تشهد بشكل واضح نتائج اصلاحات 1991 –1995 والتي يحتاج البعض منها الى فترة تبلور….يفترض أن يكون الحد الأدنى للنمو في السنة المقبلة 6% ” (31). وكتبت جريدة فاينانشل تايمز ” مرونة الاقتصاد بعد الاصلاحات ” (32).

كانت ” الاصلاحات” عبارة عن تطبيق واسع النطاق للشروط المنصوص عليها في ” اتفاقية واشنطن ” والتي يبشر بها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – الخصخصة الفعلية لجميع صناعات ومرافق القطاع العام واستبدال معاشات الدولة ورعايتها الصحية بهيئات خاصة وبتر ما تبقى من ضرائب على الواردات وتشجيع تدفق رأس المال الأجنبي وتتويج كل تلك الشروط بربط قيمة البيزو بالدولار الأمريكي في 1992. وبالمقابل وافق صندوق البنك الدولي على مساعدة الأرجنتين في التفاوض على دفع ديونها كجزء من خطة برادي لأمريكا اللاتينية.

كان من المفترض أن تدفع الصفقة الى اعادة بناء الصناعة باخراج العمال من القطاع العام واغلاق الشركات الخاصة الغير فعالة بينما يتم تشجيع تدفق رأس المال الأجنبي الكفيل بتنمية الصناعة الأرجنتينية وتمكينها من المنافسة العالمية. تماشى ذلك مع اقامة الأرجنتين للسوق الاقليمي المشترك ” ميركوسور ” مع البرازيل وأوروجواي وباراجواي.

قوبلت تلك التعديلات بالفرح في أوساط التمويل العالمية لرغبتهم في شراء الشركات الأرجنتينية بأسعار منخفضة. كما قوبلت بالترحاب من قبل قطاعات مهمة من الطبقة الحاكمة في الأرجنتين – فبدلا من أن يكونوا أسماكا كبيرة ببركة أرجنتينية سيصبحون أسماكا متوسطة الحجم في البحيرة العالمية. أذعنت أعداد كبيرة من الطبقة العاملة والمتوسطة للتعديلات نظرا للحالة البائسة التي كانوا عليها منذ بداية العقد آملين في التخلص منها تحت ظل وهم مينيم البيروني “صديق العمال “.

صاحب التعديلات تحسن محدود في ظروف عدد كبير من الجماهير نتيجة لنمو الاقتصاد حتى سنة 1994. توقف هبوط الأجور الحقيقية وارتفعت عن الحد الأدنى لسنة 1989 (33). كما ارتفع معدل التعيين لعدة سنوات في أغلب المجالات (34). وأحس أصحاب الأعمال الحرة والتجارات الصغيرة والمتوسطة أن خطر الافلاس قد زال. ورأى العاملون بالأجر من الطبقة المتوسطة ( أو بالأخص الأقسام الأعلى مهنيا من ذوي الياقات البيضاء ) أن زيادة عدد العمال الشبه مهرة أو الغير مهرة ضد مصالحهم (35). كان الاحساس بالتحسن عند البعض كافي لنجاح مينيم في انتخابات الرئاسة لسنة 1994 ونجاح الحزب البيروني في انتخابات الكونغرس في 1996. تماما كما حدث ببريطانيا مع انتعاش ” ثاتشر – لوسون ” في الثمانينات، فقد خلق التحسن في ظروف بعض الجماهير وهم التحسن الدائم وولّد الحديث عن العصا ” السحرية “.

لكن ببداية 1992 أصبحت عملية منطقة واعادة بناء الصناعة تتم بشكل سريع. حدث الغاء واسع النطاق لوظائف معينة – حوالي وظيفة من كل عشر وظائف في التصنيع ووظيفة من كل خمس وظائف بالكهرباء والمياه والغاز. وارتفع معدل البطالة بحدة الى أن وصل الى 18% في 1994 – 1995. ومن هنا استمر ارتفاع معدل البطالة على الرغم من اعادة انتعاش الاقتصاد من 1995 الى 1998. على الرغم من اطراء جريدة فاينانشل تايمز ل ” الاصلاحات ” في 1997، تمكنت من ابداء هذه الملاحظة:

” فشل النمو الأسرع في أن يترجم الى انخفاض ملحوظ في معدل البطالة على الرغم من الظواهر التي تشير الى وظائف جديدة. يعد ارتفاع معدل البطالة أحد عناصر زيادة التوتر الاجتماعي في هذا العام” (36).

تتلخص ” المعجزة ” بالنسبة لجماهير العمال على ثبات الأجور الحقيقية الى حد ما عند المستوى المتدني تاريخيا مع اتساع حجم بركة العمال المواجهون للبطالة الى أجل غير مسمى. ونظرا لاقتصار اعانة البطالة على بضع أشهر، ترجم ذلك الى نمو الفقر المدقع بين الجماهير.

كما أن ” المعجزة ” لم ترقى الى المستوى الذي تمنته البرجوازية الأرجنتينية تاريخيا أيضا. فعلى الرغم من نمو الناتج القومي بنسبة 25%، لم تتمكن صناعات الرأسمالية الأرجنتينية من احتلال السوق العالمي أو حتى الاقليمي ” ميركوسور “.

فقد عاد الوضع بشكل أو آخر الى ما كان عليه منذ عشر سنوات من حيث الناتج القومي على الرغم من الآمال التي استمرت ما يقرب من نصف القرن. فعلى العكس من فترة حكم الجانتا، غرق السوق المحلي بالمنتجات الأرجنتينية. كان هناك محاولات للتوازن بشكل متكرر لتغطية العجز.

لقد تمت تغطية الفجوة والسلبيات المهمة من خلال تدفق رأس المال الأجنبي وفواتير الخصخصة الأمر الذي مكن كافالو من التأكيد – سنويا – على الاختراق العظيم المنتظر لزملائه، عناصر الطبقة الحاكمة. فقد قرر تجاهل أن رأس المال الذي يتدفق بسرعة الى دولة ما بامكانه أن يتدفق بالخروج منها عند التشكك في مستوى الأرباح المتوقعة. في غضون ذلك، كانت الديون الخارجية تتراكم بشكل يتعذر سداده.


السقوط والسحق:

جاءت اللحظة الحاسمة مع تأثير الأزمة الآسيوية على امريكا اللاتينية في 1997. أصاب الممولون ورجال الأعمال القلق المفاجئ حيال ” الأسواق النامية ” التي يفترض أن تكون آمنة ومربحة – بما فيها أسواق أمريكا اللاتينية – وقاموا بسحب أموالهم الى خارجها. أدى ذلك الى دفع الأرجنتين الى الركود ثانية بعد ركود سنة 1994 المرتبط بالأزمة المكسيكية. وقام المقرضون الأجانب والأرجنتينيون برفع فادح لمعدلات الفوائد على القروض التي اعتمدت عليها الحكومة ورجال الأعمال. فكما أشار الخبير الاقتصادي جوزيف ستجليتز الذي تم الاستغناء عنه لنقده للبنك الدولي:

” أصبحت أزمة شرق آسيا في 1997 أزمة تمويل عالمية برفعها لمعدلات فوائد جميع الأسواق النامية بما فيها الأرجنتين. دفعت الأرجنتين ثمنا باهظا للحفاظ على التبادل التجاري من خلال مضاعفة معدل البطالة. أجهدت ميزانية الدولة بسرعة تحت ضغط ارتفاع معدلات البطالة……بوصول معدل الفائدة الى 20%، صرف 9% من الناتج المحلي للدولة سنويا في تمويل القروض. وقد ارتفعت قيمة الدولار الذي ارتبط به البيزو. بينما هبطت قيمة عملة شريك الأرجنتين التجاري ميركوسور في ميركوسور. حدث هبوط في الأجور والأسعار لكن ليس بالدرجة التي تسمح للأرجنتين بالمنافسة بشكل فعال (37).

فيما يخص منافسة الأرجنتين للبرازيل، فقد أدى الضعف الطويل الأمد للرأسمالية الأرجنتينية الى تفاقم الوضع من جراء انخفاض العملة البرازيلية الذي جعل سلعها أرخص في السوق العالمي والأرجنتيني على حد سواء. بدأت الشركات الأرجنتينية – الغير قادرة على الاقتراض بسهولة – بالاقتطاع من الانتاج وخفض الأجور لحماية أرباحها. انخفض انتاج السيارات بنسبة 47% في سنة واحدة(38). وانخفض عدد العاملين بصناعة النسيج والأحذية الى نصف ما كان عليه في 1990 (39). وببداية الأزمة الاقتصادية في الثلاث مراكز للرأسمالية العالمية

( الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي، اليابان ) في العام الماضي بدأت بالسحق. تفاقمت البطالة الى أن وصلت الى 20% وانخفضت أجور القطاع الخاص بمقدار الخمس على الرغم من المستوى المتدني الذي كانت عليه.

فاقم الاقتطاع من العمالة وخفض الأجور من الأزمة لدى قطاعات الشركات الصغيرة والمتوسطة. ببداية سبتمبر 2001 انخفض اجمالي المبيعات بنسبة

8,4% أما المبيعات في المراكز التجارية فانخفضت بنسبة 21% (40). توضح الاحصائيات الرسمية اليوم أن 40% من السكان كان يعيش تحت خط الفقر. تعد هذه كارثة اقتصادية بالنسبة لما حدث للألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية في أوائل الثلاثينات.

لكن الأوضاع ازدادت سوء في الربع الأخير من السنة. عانت الدولة من العجز في الميزانية بحيث كانت تنفق أكثر من دخلها فقد صاحب كل تقلص اقتصادي انخفاض في الدخل الضريبي ( انخفض بنسبة 14% في تلك السنة حتى سبتمبر 2001). ببساطة، لم تملك الدولارات الكافية لسداد ديونها – ومنعت مجمل سياساتها مصادرة دولارات الأغنياء التي أخذت في التسرب الى الأماكن الامنة بخارج الدولة. لم يكن بوسعها الاستمرار الاّ باللجوء الى صندوق النقد الدولي الذي طالب بالمزيد من الاقتطاع من مصروفات الدولة.

كانت النتيجة تبني السياسة الاقتصادية التي أجمع خبراء الاقتصاد على كونها ” ” الغلطة ” المميتة في الثلاثينات والتي لن يعاود تكرارها ثانية. كان من الحتمي أن يؤدي كل اقتطاع في مصروفات الدولة الى تعميق الركود وأن يؤدي كل تعميق للركود الى زيادة العجز في ميزانية الدولة نتيجة لانخفاض الدخل. على أي حال، كان ذلك اقتراح صندوق النقد الدولي – الذي وافقت عليه حكومات الأرجنتين المشكلة من الحزبين الرأسماليين الرئيسيين.


سياسات الركود:

قضت بداية مرحلة الركود الجديدة على حكومة مينيم. أسفرت انتخابات 1999 عن نجاح ساحق لحليف الحزب الراديكالي والذي يفترض أن يكوّن كتلة يسارية جديدة ومنتخبة – فريباسو. لكن استمرت الحكومة الجديدة في اتباع سياسات الحكومة السابقة وقدمت حزمة من الاقتطاعات الجديدة في مايو 2000 وحزمة أخرى في السنة التالية. أجبرت المقاومة الجماهيرية الرئيس دو لا روا على سحب حزمة مارس 2001 وفصل الشخص المسؤول عنها – لوبيز مرفي. لكن سرعان ما أسعد الداعمون لليبرالية الجديدة بتعيينه لكافالو بدلا منه. فقد قالوا أن عودة

” صانعي المعجزات ” قد تخرج الرأسمالية الأرجنتينية من مأزقها مرة أخرى.

خلال خمسة أشهر اتضحت الحقيقة الاحتيالية لقوة مشروعه الاعجازي. فقد اضطر الى اللجوء الى صندوق النقد الدولي من أجل القروض موافقا على اقتطاعات أكبر من الميزانية وفرض اقتطاعات من أجور ومعاشات القطاع العام بنسبة 13% – حدث ذلك تحت ظل مباركة توني بلير عند توقفه في الأرجنتين في طريقه لقضاء عطلته في المكسيك. على أي حال، اتضح في تلك الأثناء عدم قدرة كافالو على سد العجز بميزانية الدولة بدون فرض الجوع على الجماهير. فكما اضطر رئيس تحرير جريدة فاينانشل تايمز الى التصريح:

لقد أصبح واضحا الآن أن الأرجنتين لن تتمكن فعليا من الهروب من التحطم البطئ لقطارها. فالوضع المالي يسوء نظرا للسقوط في الانتاج. وان زعزعة الثقة الناجمة عن ذلك قد دفعت بالفائدة على اقتراض الدولار الى أن تصبح اعلى منهم بالخزانة الأمريكية بنسبة 20% نقطة. لا يسع الاقتصاد الا الانفجار داخليا بمثل تلك المعدلات للفائدة. ان الخطوة المنطقية الوحيدة في مثل تلك الظروف هي الجمع بين تخفيض قيمة العملة والتخلف عن سداد الديون. يكمن الخوف من مثل هذه الخطوة في خطورة اطلاق الزناد للهروب من العملة والعودة الى تضخم شديد الحدة. لكن، بقاء ديون الدولار الضخمة قد يؤدي – أيضا – الى الافلاس الجماعي ( 41).

وبعد أسبوع من صدور المقال السابق ذكره، صرح اقتصادي كبير وسابق في صندوق النقد الدولي بمنظوره الكافر الذي يرى استحالة تغطية الحكومة للعجز على النحو الذي يريده صندوق النقد الدولي:

يتضمن التقييم الواقعي لمأساة الأرجنتين…..نتائج صناعة السياسات العالمية. سيكون العجز بالقطاع العام في هذه السنة أكبر بكثير من الستة بليون دولار التي يهدف اليها برنامج صندوق النقد الدولي…..ففي الأغلب سيتراوح العجز السنوي لهذا العام بين 20 و 25 بليون دولار. فحالة الركود الشديدة التي يغرق بها الاقتصاد لن تسمح في الغالب للحكومة بأن تخفض متطلباتها التمويلية لعام 2002الى أقل من 12 الى 15 بليون دولار (42).

لم يكن كافالو مستعدا لسماع مثل ذلك الحديث. وقد قاوم اقتراحات البعض في صندوق النقد الدولي في احتذاء نموذج البرازيل بصدد تخفيض قيمة البيزو. بينما رفض صندوق النقد الدولي نفسه القيام بأي عمل ايجابي لمساعدته. لم تعتبر الادارة الجمهورية بواشنطن أن للأرجنتين أهمية استراتيجية وتحدثت عن

” المجازفة الأخلاقية ” حيال تخفيف عبء الديون عن الأرجنتين. وبلغ موقفها الدرجة التي جعلتها تقترح أنه يتوجب على الجهات التي جازفت بحماقة باقراض الأرجنتين ان تتحمل جزء من مسؤؤلية أخطائها. مما لا شك فيه أن السبب وراء تشجيع مثل ذلك الاتجاه يكمن في أن الضرر الفادح من جراء انهيار الأرجنتين والذي سيحل بالشركات الأوروبية – وخاصة الأسبانية – أكبر بكثير من نظيره الواقع على الشركات الأمريكية ( 43 ). وبالتالي، بدأ صندوق النقد الدولي بتوضيح عدم فتحه لباب الاقراض ما لم تقوم الحكومة باقتطاعات أخرى وحشية. في تلك الأثناء، كانت الادارات الحكومية والمحلية غير قادرة على دفع مستحقات العاملين بها بالعملة المحلية وكانت قد لجأت الى صرف الكوبونات التي يمكن استبدالها بالسلع في محلات معينة.

من هنا لجأ كافالو الى الاجراءات التي لم تفقر الطبقة العملة فحسب بل وقطاع كبير من طبقة المهنيين وأصحاب الأعمال الحرة. قام بسحب الأموال من صناديق المعاشات الخاصة لدفع الفوائد على الديون وفرض نظام التقييد ( كوراليتو ) على مجمل الأرصدة الخاصة في البنوك بحيث لا يتمكن الجماهير من سحب أكثر 1000 دولار شهريا ( حوالي 150 دولار في الأسبوع ). هرع الجماهير الى البنوك لسحب أموالهم – ليواجهوا ماكينات السيولة الخاوية والأرتال اللانهائية. وبعد ذلك، في 17 ديسمبر قدم حزمة جديدة من الاقتطاعات تصل قيمتها الى 9 بليون دولار.

وصفت الكثير من أجهزة الاعلام الدولية عملية التقييد ( كوراليتو ) كاجراء خاص بالأغنياء – أصحاب الأرصدة الكبيرة. لكن الواقع أن الأغنياء قد قاموا بنقل أموالهم منذ أمد طويل الى الأماكن الآمنة بالخارج. الحقيقة أن الكوراليتو قد أصاب قطاعات البرجوازية الصغيرة والمتوسطة – العمالة المهنية الحرة وأصحاب الشركات الصغيرة التي يعمل بها بضعة أفراد وأصحاب المحلات. كانت تلك المجموعات تحتفظ بمعظم دخلها في البنوك وتنظر بعين الحسرة الى مدخراتها نتيجة لعدم توافر الفرص التجارية أو عجز الآخرين عن سداد الديون لهم. وقد اصبحوا الان بلا دخل حالهم كحال الكثير من ذوي الياقات البيضاء الذين تضاف مرتباتهم بشكل منتظم الى أرصدتهم. وأخيرا، اعتمد الكثير من العمال العاطلين عن العمل على أرصدتهم – التي كانوا يدخرون فيها القليل مما تبقى من أجورهم أو مدخراتهم السابقة – في معيشتهم.

في الواقع، ان ما فعله كافالو لم يكن سوى اعلان أن الرأسمالية الأرجنتينية ودولتها لا تأبه بالطبقات المتوسطة أكثر مما تأبه بالعمال. فكانت أكبر حركة انضمام للطبقة المتوسطة مع العمال ( بروليتارية). ردت الطبقات المتوسطة عن طريق الخروج الى الشوارع مع العاطلين عن العمل في 19 – 20 ديسمبر – والاطاحة بالحكومة.


طرق الأواني وحركات العمال العاطلين عن العمل:

(ساسيرولازوس وبيكويتيروس)

كانت الحالة الثورية ليومي 19 – 20 ديسمبر ” عفوية ” بمعنى أنه لم تصدر جهة معينة نداء لقيامها ولم تقم قوة سياسية بتوجيه تطورها. فجاءت خليفة لأيام 14 يوليو 1789 وفبراير 1848 في فرنسا، وفبراير 1917 في روسيا، ونوفمبر 1918 في ألمانيا، وأكتوبر 1956 في المجر، ومايو 1968 في فرنسا – وبشكل أقرب ديسمبر 1989 في رومانيا، و1997 في البانيا، و2000 في الصرب. ففي كل حالة اتحد غضب مجموعات مختلفة تحت ضغط هموم معينة آخذا طابع القوة القابلة للتفجر التي لا تستطيع السلطة مجابهته. فلاذ بعض القادة بالفرار بينما انحنى البعض الآخر لقوة الحركة الغاضبة في محاولة لاستعادة السلطة في فترة تالية.

توضح التقارير الخاصة بالحالة الثورية في الأرجنتين مصادر الحركة المتنوعة. تجمهر الجياع من الجماهير أمام محلات السوبرماركت في طلب الطعام ولجأ هؤلاء الى الهجوم ونهب البنوك عندما لم تلبى مطالبهم. وكان هناك تجمعات أخرى بالأحياء غضبا من التقييد ( كوراليتو ) واتجه هؤلاء الى مركز المدينة محدثين ضجة بطرق أوانيهم. كما انضم الشباب الى الحركة بعدما بدأت وكذلك السيدات المحتجات – كما في كل يوم خميس – على اختفاء أطفالهن وأزواجهن أثناء الحرب القذرة للجانتا. لكن بمجرد تحالف تلك القوى في مواجهة قمع الشرطة الذي أسفر عن مقتل 23 شخص في بيونس آريس ( و20 شخص على مستوى الدولة ) لاجبار كافالو على الاستقالة والرئيس على الفرار، أضاف عامل الحركة المطالب المحددة لحدث طرق الأواني ( ساسيرولازو ). فخرج الجماهير الى الشوارع مرة أخرى بعد تسعة أيام موجهون غضبهم في هذه المرة ضد خليف كافالو – رودريجو ساء – واقتحام مبنى الكونغرس لارغامه على الاستقالة. وقد وصفت جريدة باجينا 12 بعد ثلاث أسابيع موجة الاحتجاج الأخرى ب:

” الشبح الذي يبعث الرعب في البيت الزهري ( قصر الرئاسة ) ” (44).

ففي هذه المرحلة كان الاحتجاج في بيونس آريس قد أخذ طابعا ثابتا. وصفت جريدة باجينا 12 احتجاج نموذجي اشترك به الطبقة المتوسطة الدخل وسكان الأحياء الفقيرة:

“بدأت حركة طرق الأواني بمناطق متفرقة في المدينة واخذت بالنمو في العدد والكثافة. بدأت بالشرف والمداخل والضغط على ابواق السيارات بحماس في باريو نورت. لم تكن هناك أناشيد أو شعارات ولم يقم أحد بسد الطريق لكن بدأ الصوت بصم الجميع. وفي الساعة التاسعة مساء بدأ الجماهير بالخروج الى الشارع في بلجرانو. بدأت مجموعة بالغناء وطرق المعادن…وبدأت مجموعات بالنمو في كابيلدو وجورامنتو. وفي سان كريستوبال – الحي النشيط جدا في الساسيرولازوس السابقة – تجمهر الجماقير في سان جوان ولا ريوجا. بدأ التجمهر أمام الكونغرس في الساعة الواحدة مساء – بدأ ذلك بالعشرات ومن ثم المئات حتى وصلت مجموعات هائلة من الجماهير من أحياء سدت طرقها بالكامل. عندما وصل التجمهر الى كتلة هامة، تشكل صف متجها الى بلازا دو مايا” (45).

كان هدف المحتجين تغيير سياسة الحكومة – أو حتى تغيير الحكومة كما فعلوا في 20 و 29 ديسمبر. وعندما أحبطت أهدافهم، حاولت القطاعات الأصغر والأفقر من الجماهير اقتحام مبنى الكونغرس مما أدى الى مواجهات عنيفة مع الأمن.

ان نموذج الاحتجاج المتكرر في الشارع شديد الشبه بالنموذج الذي سلكته الثورة الفرنسية في 1789 – 1794 عندما ملأت القطاعات الفقيرة الشوارع متحركة نحو رموز القوة بمركز باريس. أخذت أول حالة ثورية في القرن الحادي والعشرين نفس طراز ثورة القرن الثامن عشر!

أدرك الجماهير ضرورة التنظيم بعد نجاح أول ثورة عفوية. حاولت بعض القطاعات من الاعلام ببث التصور أن كل شيء قد انتهى، مدعين أن الناس يملؤون الشواطئ ( نظرا لوجودها في نصف الكرة الجنوبي، كان فصل الصيف).

وصورت قطاعات أخرى رعب الطبقة المتوسطة من عصابات الجماهير الفقيرة التي تقتحم منازلهم وتسرق ممتلكاتهم ( مما يذكر ” الفزع الرهيب ” في الثورة الفرنسية ). قامت قيادات هامة للنقابات العمالية بدعم الحكومة ومحاولة تهميش المحتجين. في غضون ذلك، كانت المشاكل الحقيقية تواجه العمل العفوي. ففي حالات معينة لم يقتحم العاطلون عن العمل والفقراء الجياع محلات السوبرماركت وشركات المنتجات الغذائية فقط وتعدوا ذلك بالهجوم على شركائهم في الفقر من أصحاب المحلات الصغيرة والبائعين بالشوارع – الأمرالذي عرضهم للوقوع في يد السلطة. كان الشباب الذي يتحمل الوطأة الأكبر من اعتداءات الأمن أكثر عرضة من غيرهم للانفصال عن الجماهير المحتجة مما يسهل قيام عناصر الأمن المندسة بعمليات استفزازية لتبريرالسياسات القمعية. وأخيرا، كان من الضروري منع القادة البيرونييون في الحكومة من اللجوء الى الخدمة القديمة – تحريك العصابات للهجوم على المحتجين نظير 30 أو 50 بيزو يوميا.

بدأ الجماهير بعقد ” الاجتماعات الشعبية “، كما تقرر احدى الجرائد التي تصدر من أحد الأجزاء الفقيرة في بيونس آريس:

” قال سكان سان كريستوبال ” لقد عشنا في الأسابيع الأخيرة بين الحماس والخوف. لقد قمنا بأشياء لم نفكر حتى فيها من فبل ولازلنا لا نعرف ما الذي يتوجب علينا فعله بعد “. لقد تجمهروا بركن في لاريوجا وسان جوان للقيام بالاحتجاج ضد دولاروا وقاموا بمسيرة الى الكونغرس. وتقابلو في اليوم التالي لشجب القمع. وقد قاموا بحركة طرق للأواني أخرى عندما نصب المجلس التشريعي دوهالدي. في يوم الأحد استجاب 150 شخص لنداء الاجتماع في بلازا مارتن فيرو وتشكل تنظيم ثابت ومنفصل عن الأحزاب.

كان من الحضور: قسيس والعديد من ربات النزل وعضوين بالحزب الشيوعي وعضو بحزب العمال وصاحب حانة وستة عاطلين عن العمل….والقادة المحليين للحزب البيروني والعديد من المتخصصين في علم النفس الاجتماعي وطلبة الجامعات ومجموعة من العمال بمستشفى قريبة. قال أحدهم، ” نحن نعد قائمة بأسماء جميع العاطلين عن العمل بالحي “. وقال آخر ” نحن نحافظ على الأمن فقد اشتبهنا في بعض الوجوه في حركة طرق الأواني الأخيرة ” و ” نحن ندعو لحركة طرق أواني جديدة ضد ارتفاع الأسعار ” (46).

ومن هنا بدأت الاجتماعات بالانتشار في المدن وعشرات المراكز الريفية. فقد وصفت الجريدة الفرنسية ليبيرايشن ( الحرية ) الجو العام لهذه الاجتماعات في الأحياء الأغنى قائلة:

الساعة 11 مساء في مفترق الطرق للشارعين كابيلدو وكونجرسو. حاملا هتفه التنقل الكبير يحاول رجل في حوالي الثلاثبن السيطرة على الوضع. ” سوف ننتقل الى التصويت على الآراء المقترحة هذا المساء ” – الامتناع عن سداد الديون الخارجية والتحقيق حول شرعيتها وتأميم البنوك ومراجعة عقود المؤسسات التجارية الأجنبية التي تدير الخدمات العامة والتي أغضبت الكثيرين نتيجة لسلوكها المغتصب. استمر الاجتماع لمدة ثلاث ساعات في يوم الاثنين الماضي وتحدث عشرون شخص. حاول المسؤول أن يحدد حديث الفرد الى دقيقتين لكن الغالبية العظمى من المتحدثين تجاوزوها. انهم ليسو نشطاء في أي حزب. وقد جاءوا بشعار موحد : الاجتماع الشعبي لمنطقة بيلجرانو.

لقد تكرر هذا المشهد في كل مساء طوال شهر من يوم اللاثنين الى السبت في حي أو آخر بالمدينة. ويجتمع حوالي 5000 شخص في الحديقة العامة سنتيناريو لعقد أم الاجتماعات الذي يجمع الجماهير من جميع أنحاء الدولة. اسفرت تلك الاجتماعات عن أول حركة طرق أواني ذات حجم قومي تضم عشرات الآلاف من الجماهير في جميع شوارع المدن الكبيرة (47).

يصف أحد الصحفيون بجريدة الجناح اليساري المكسيكي لا جورنادا صورة مشابهة:

” يعمل العشرات من اجتماعات الأحياء كنتيجة صادقة للتنظيم الشعبي بعد ثورة طرق الأواني. انهم يطالبون بمعرفة حقيقة الوضع ومعاقبة المسؤولون عنه – بسخط واضح على البنوك الأجنبية والخصخصة. الجماهير تتحدث في تلك الاجتماعات اليوم عن العشر بلايين التي أخذتها شركة الكهرباء ايدينور آند ايديسور وعن الربح الذي تحققه شركات الاتصالات – يصل 800 و1000 مليون دولار كل عام “(48).

يقرر أحد المشتركون في أحد اجتماعات المدينة في الحديقة العامة سنتيناريو:

” حضر 6000 شخص من حوالي 80 لجنة حي بالمدينة والقرى وضمت حركة العمال العاطلين عن العمل. عكست الشعارات نضج مطالب الجماعات المختلفة وضرورة خلق قنوات شعبية منفصلة عن الأجهزة السياسية ” (49).

تضمنت المطالب الامتناع عن سداد الديون الخارجية وتأميم المؤسسات الخاصة تحت ادارة العمال ولجان الحي وعقاب المسؤولين عن القمع في 19 و 20 ديسمبر و 25 يناير. بالاضافة الى تأسيس لجان أمنية على مستوى الأحياء والمدينة للتعامل مع محاولات قوات الأمن الاستفزازية أثناء الاجتماعات والمظاهرات ودعم حركات العمال العاطلين عن العمل ( بيكويتيرو ) واعلان الكونغرس الوطني المكون من المنظمات واللجان الشعبية ودعم نضال عمال السكك الحديدية والاتصالات والنسيج ونقد لسلوك قادة النقابات العمالية لامتناعهم عن دعم المطالب.

عقدت اجتماعات مماثلة بمدن ريفية متعددة ومتفاوتة في الحجم – في كوردوبا وفي نيكين وفي مرسيدس وفي لابلاتا وفي أولافاريا…وغيرهم(50). وفي كل حالة، لم تكن الاجتماعات لمجرد الحديث. كانت الأحاديث تدور حول المواضيع المحلية – المطالبة بالأدوية للصيدليات المحلية ودعم العمال في نضالهم للحفاظ على مصانعهم مفتوحة والذهاب الى محلات السوبرماركت لطلب الطعام والى البنوك للاصرار على دفع أجور العاملين بالقطاع العام والاعتراض على السياسات القمعية بالاضافة الى رفع المطالب الخاصة باعادة تأميم القطاع الخاص والنضال ضد البنوك والتقييد ( كوراليتو ).

تعبر لجان الحي والاجتماعات الشعبية عن حاجة أولئك الذين قاموا بالاطاحة بالرؤساء الى التنظيم. انها الشكل الذي اتخذه الرفض الشعبي الجماهيري للنظام القديم. في ذلك السياق، يكون هناك شبه بينها وبين نضالات الطبقة العاملة التي ظهرت في القرن العشرين من حيث السمات الأساسية للنضال الجماهيري المنظم. لكن توجد – أيضا – فروق هامة بينهم.

أولا، تفتقر الاجتماعات الشعبية الى الكتل الممثلة. ان الجماهير الحاضرة تمثل أنفسها ولا تربطهم علاقات وثيقة بمجموعة ما لتمثيل مطالبها – ويمكنها محاسبتهم في حالة عدم تنفيذ تلك المطالب. ثانيا، انها تجمع شرائح من أصول طبقية مختلفة كما يتضح من انعقاد بعض لجان الحي بالأجزاء الغنية من بيونس آريس – مثل بيلجرانو وليبرتادور – علاوة على مناطق الطبقة العاملة والقطاعات الدنيا من المتوسطة.

أخيرا، لا تنعقد الاجتماعات الشعبية في أماكن العمل حيث يجتمع ويكدح ملايين الأجنتينيون بشكل يومي. يتشكل الحضور على الأغلب من مجموعات فردية من أماكن مختلفة ومنظمات العمال العاطلين عن العمل. تشيد التقارير بالدور القيادي الذي يلعبه المناضلون العاطلون عن العمل ببعض الاجتماعات نظرا لخبرتهم السابقة في النضال بالمصانع – يرفع شعار ” تيار الطبقة المقاتلة ” في الكثير من الاحتجاجات. لكن ذلك لا يجعلهم جسدا ممثلا للطبقة العاملة بالأرجنتين ذات التاريخ الطويل والحافل بالنضالات. ان وضع تلك الاجتماعات الشعبية يشبه شعب – الاجتماعات الجماهيرية الليلية بالمناطق – الثورة الفرنسية أكثر من مجالس العمال في 1905 و1907 بروسيا أو نوفمبر 1918 بألمانيا أو أكتوبر ونوفمبر 1956 بالمجر.

توجد سمة أخرى تربط بين الاجتماعات الشعبية وحركة طرق الأواني (ساسيرولازو). على الرغم من التهديد الواقع على البناء الكلي للرأسمالية الأرجنتينية من جراء المطالب الجماهيرية، فان اللغة المستخدمة ليست معادية للرأسمالية وبعيدة عن الاشتراكية. وينصب التركيز على فساد النخبة السياسية من جهة – الحزبين السياسيين الرئيسيين والمحكمة العليا والجنرالات – والاستثمار الأجنبي في عملية الخصخصة من جهة أخرى. الغة القومية هي السائدة فيعد العلم الوطني أكثر الشعارات شيوعا والنشيد القومي هو الأكثر شعبية في الهتاف.

لفهم هذه المعالم، يتوجب النظر الى التطور التاريخي لحركة الطبقة العاملة في الأرجنتين.


البيرونية والنقابات:

سيطر الحزب البيروني على حركة الطبقة العاملة بالأرجنتين لأكثر من نصف قرن بنهاية 1945 مثلما سيطر حزب العمال ببريطانيا. لم يكن ذلك الوضع قائما من قبل. ففي فترة ” سيمانا تراجيكا ” في 1919 كانت هناك تيارات قوية فوضوية ونقابية واشتراكية اصلاحية بالاضافة الى القوى الشيوعية المهمة في بداية العشرينات حتى بداية الأربعينات. لكن اصبحت البيرونية مسيطرة من بعد تلك المرحلة.

كان خوان بيرون متأثرا بالأفكار الاشتراكية للفاشية الايطالية ( فقد أمضى عامين بايطاليا في فترة حكم موسوليني ونفي الى أسبانيا في فترة حكم فرانكو بالستينات). لكن الحركة التي أنشأها لم تكن فاشية بالتأكيد. فقد تمكن ما بين 1943 – 1945 من تركيب صيغة تروق لقطاعات من الطبقة العاملة والبرجوازية وأجزاء من نظام الدولة. فقامت بتحويل الموارد من القطاع الزراعي الى بناء شركات صناعية تزود احتياجات السوق المحلي بينما كانت تلبي بعض مطالب الطبقة العاملة المناضلة والقوية. نجحت في تصوير ذلك كصراع قومي تخوضه الأرجنتين ضد ” الهيمنة ” الطفيلية المرتبطة ب ” الامبريالية “. لقد تمكن بذلك من انتزاع النقابات العمالية من القادة الشوعيين أو الاشتراكيين القدامى امّا بالرشوة أو بفرض أتباعه في ظل موافقة العمال.

كان تأييد الصيغة قد ضعف في الوقت الذي قام فيه الجيش بطرد بيرون في 1955 نتيجة لانخفاض مستوى معيشة الطبقة العاملة. لكن هجمات الحكومات الغير بيرونية المتكررة على منظمات العمال طوال 17 عاما أدت الى تعزيز مكانة الصيغة. فبدت فترة حكم بيرون كالعصر الذهبي مقارنة بالأوضاع التي تلتها. وكان واقع تمركز البيرونية المنظمة في بيروقراطيات النقابات العمالية طوال 17 عام من حظر الحزب البيروني يدعم التصور الذي يرى في البيرونية حركة الطبقة العاملة. كانت البيرونية بالنسبة للغالبية العظمى من العمال حركة الطبقة العاملة في ذلك الوقت. فقامت معظم النضالات ضد الهجمات المتعاقبة للجيش وللحكومات المدنية تحت شعارها.

لكنها بقيت تحالفا لطبقات مختلفة تسيطر عليه متطلبات جزء من الرأسمالية الأرجنتينية. أما على الصعيد السياسي فكانت تمثل البرجوازية المتوسطة – المستفيدة من السوق المحمي – والبيروقرطيين المسؤولين عن ادارة صناعات وبنوك الدولة الكبيرة والجديدة بالاضافة الى بيروقراطية النقابات. اتسمت بيروقراطية النقابات بالفساد منذ البداية نظرا لبناء الكثير من أعضائها الأفراد الروابط المربحة مع عناصر أخرى بداخل البيرونية. لكنها على الرغم من ذلك كانت تحتاج الى الدخول في صراعات للحفاظ على موقعها. وفي حالات معينة، رأت ضرورة القيام بأعمال محكومة بدقة لكن على درجة عالية من النضال – وأحيانا العنف – لفرض مصالحها مع الاحتفاظ بولاء العمال. كانت – من نواحي معينة – أشبه باتحاد امريكي فاسد مثل ” سائقي الثيران ” ( تيمسترس ) في عهد جيمي هوفا اذا ما استثنينا الدور المركزي لسياسات البرجوازية.

أقتربت الفترة الثانية للحكم البيروني من 1973 من تمزيق الحركة السياسية. فقد تنازل الجيل الجديد من الطلبة والعمال عن حقهم في التفسير الثوري لصالح البيرونية أثناء القمع المرير لديكتاتورية أونجانيا في أواخر الستينات. رأى الجيل الجديد في قومية بيرون نظير للثورة الكوبية وجيفارا ونضال التحرر للفيتناميين وحولوا نضال العمال في الأرجنتين الى جزء من النضال الوطني ضد الامبريالية (على الرغم من تمتع البرجوازية الأرجنتينية بالاستقلال منذ أمد طويل وعدم وجود قواعد أجنبية وصغر حجم الاستثمار الأجنبي). لقد دفع ذلك الشباب البيروني اليساري والمسلح الى تكثيف الاضرابات واحتلال المصانع والاحتكاك بقوات الأمن. لكن بمجرد عودة البيرونية الى السلطة عملت قواتها البرجوازية وقادتها السياسية على قمع الحركة العمالية واليسار– بشكل متزايد. فقام لوبيز فيجا– الوزير الرئيسي في حكومة ايزابيل بيرون – ما بين 1974 – 1975 بتنظيم العصابات المسلحة ( الاتحاد المناهض للشيوعية ) لاغتيال المناضلين بالنقابات المهنية واليساريين وشملت الاغتيالات أولئك الذين لازالوا رسميا ضمن صفوف البيرونية. وقد علقت بيروقراطية الاتحاد العمالي بين الترحيب بالهجمات على اليسار وبين حاجتها للاحتفاظ بسيطرتها على العمال – من خلال القيام بايماءات نضالية معينة كالدعوة الى أول اضراب عام ضد الحكومة البيرونية في 1975.

أتاحت الأزمة بداخل البيرونية الفرصة لتأثير القوى السياسية الأخرى. أصبحت التيارات ” الطبقية ” التي لم ترى في الطبقة العاملة حليف ل ” أصحاب العمل القوميين ” مهمة في الصناعات ” الجديدة ” في كوردوبا. وتطور تأثير الماويين في بعض الاتحادات المحلية. كما انفصلت منظمة تروتسكية عن الحزب البيروني ومعهم آلاف الأعضاء قبل انشقاقها الى جناح جيفاري – يتركز حول حروب العصابات ويتمتع بتأثير كبير في مناطق مثل كوردوبا – وحزب منافس يركز على العمل في الاتحادات (51).

لكن، استمر تأثير البيرونية لكونها الشكل الرئيسي للاصلاحية بالأرجنتين، على الرغم من اختلافها عن الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية. اكتفى العمال بما يقدمه لهم البيرونيون من أشياء محدودة من خلال النظام نظرا لفقدانهم للثقة في قدرتهم على هزيمة الرأسمالية. لن يحوّل العمال ولاءهم الا بظهور قوة سياسية ثورية تقودهم الى نجاحات محدودة على الأقل. وبذلك يتمثل الواقع المتناقض في أن الهزائم التي أحرزتها القيادة البيرونية أدت الى فقدان العمال للثقة وجعلتهم يعتمدون على القيادة ذاتها.

لقد ساعد الهجوم على اليسار بعد انقلاب سنة 1976 البيورقراطية البيرونية. أهلك الكثير من المناضلين – تقول الاحصائيات أنه قد تم قتل 10 آلاف من 100 ألف موظف بالمحلات أثناء ديكتاتورية الجيش. استمرت البيورقراطية في الصمود – بشكل أو آخر – واحتفظت بعلاقاتها مع الجنرالات وتمكنت من اعادة بناء تواجدها القومي ومن ثم القيام بايماءة حيال المرارة الاقتصادية التي يعاني منها الأعضاء العاديون للاتحادات العمالية من خلال الدعوة الى الاضرابات العامة ليوم واحد.

نجح المنتمون للمعارضة في انتخابات بعض الاتحادات بعد سقوط الجانتا، لكن كان تأثير الأفكار البيرونية على الطبقة العاملة ككل قوي في الثمانينات للدرجة التي جعلت الجماهير ترى في انتخابات مينيم في 1989 نصر كبير. فكما تقرر دراسة في نضال العمال ببيونس آريس:

في هذه اللحظة، يصدق الغالبية العظمى من العمال أن وجود البيرونية في السلطة يعني عودة الفترة التي كان يتقاضى بها العمال 47% من الدخل القومي وكان لهم وظائف وأجور تمكنهم من العيش….في المواني، يفقد أكثر العمال نضالا الأوهام الخاصة بالأحزاب البرجوازية وهرمية النقابات العمالية وقوانين وعدالة أصحاب العمل(52).

لقد سمحت تلك الأوهام لمينيم وكافالو بدفع عجلة الخصخصة واعادة البناء بدون مواجهة مقاومة منظمة. وقعت الاضرابات واحتلت المصانع نتيجة للوقع المرير لاغلاق المصانع وفصل العمال. لكن تمت تلك الانفجارات بشكل منعزل وتبعها الشعور بالهزيمة والاحباط المعنوي. ازداد الضغط على العمال لزيادة عملهم تحت ظل تهديد الادارة الصريح بالاغلاق ما لم يفعلوا. في تلك الظروف كان وقع المعاش المبكر على العمال أشبه بوقعه في بريطانيا في الثمانينات. وافق الكثير من العمال الذين لم يرو الا القليل من الأمل في الحفاظ على عملهم من خلال المقاومة الجماعية على أخذ الرشوة.

وافق الآلاف من العمال المناضلين بميناء أستليروس دو ريو سانتاجو على أخذ المعاش المبكر بشكل اختياري في عام 1981. قال أحد المناضلين: ” شكل المعاش المبكر اغراء للجميع، بما فيهم أنا ” (53). كتب المؤرخ الماركسي للحركة العمالية الأرجنتينية بابلو بوزي: ” عندما لم يعثر العمال على عمل أقاموا التجارات الصغيرة كأكشاك الصحف ومحلات الخضروات والبقالة. على سبيل المثال، ازداد عدد سيارات الأجرة ما بين 1988 و 1994 في بيونس آريس من 36 ألف الى 55 ألف ” (54).

أصبح العمال الذين حافظوا على وظائفهم أكثر اعتمادا من ذي قبل على الحماية الضئيلة التي توفرها لهم عضويتهم النقابية. لكن افتقارهم للثقة لخوض النضال بأنفسهم ترجم الى المزيد من الاعتمادية على بيروقراطيات النقابات. حتى عندما تعلق الأمر بالفصل، كان من الأفضل مناقشة الشروط السيئة مع بيروقراطي النقابات بدلا من الشروط البائسة والمفروضة من قبل أصحاب العمل بشكل غير قابل للنقاش. شعرت قطاعات من بيروقراطية الاتحادات بضرورة الابتعاد عن الحكومة، لكن هذا يختلف عن المبادرة بقيادة نضال جماعي.

وأخيرا، احتفظ العمال على الرغم من فقدهم للأمل في مينيم بمنتصف التسعينات بأوهام خاصة بنائب الرئيس السابق وحاكم بيونس آريس، دوهالدي. فقد حاول استخدام منصبه ليبعد نفسه عن الحكومة المركزية فعلى سبيل المثال ” خلق الأوهام بين صفوف الغالبية العظمى من العمال بالمواني ” (55).

في ذلك الوقت، كان دوهالدي يحاول انشاء أجهزة سياسية بيرونية بشكل منفصل عن الاتحادات من خلال ” شبكة محلية بالأحياء منشأة حول قادة الكتلة النسائية

( مانزانيراس ). عمل هؤلاء النساء كقناة لمعونة الحكومة وكهمزة وصل للخدمات السياسية…فقد عملوا كعنصر للتحكم بالأحياء والتحرك السياسي ” (56). تقترح التقارير أن دوهالدي يتمتع بقدر كبير من التأثير بالأحياء الفقيرة للمدينة بحيث تمكن من دفع المال لمجموعات لتتحرك ضد حكومة دولاروا ومن ثم ضد اليسار.

أثرت التجربة المريرة في التسعينات بالسلب فيما يخص سيطرة البيرونية على العمال المنظمين. بنهاية العقد كان هناك ثلاث فدراليات نقابية عمالية منافسة، لكن لم تختلف وسائل الفدراليات الجديدة بشكل جوهري عن تلك الرسمية. كانوا يقومون بالدعوة الى الاضراب في بعض الأحيان كوسيلة للضغط على أصحاب العمل والحكومة، لكنهم لم يحاولوا الحفاظ على نضالات ثابتة للدفاع عن أعضائهم. تمكن أحدهم من اشراك 40% من العمال بالدولة في اضراب عام بسنة 1997 الأمر الذي أدى الى أخذ الموقف ضد حكومة مينيم. لكن استمرت قيادة الفدرالية في تأدية دورها من خلال الضغط على عناصر السلطة والترويج لائتلاف فريبازو الراديكالي والبرجوازي (57).

لقد اتضحت حدود جميع فدراليات الاتحادات في أحداث ديسمبر الأخيرة. كان هنالك اضراب عام في 13 ديسمبر، لكن الاتحادات لم تقم بأي عمل في الأيام التالية مما أدى الى تغيب العمال كقوة منظمة في 19 – 20 ديسمبر. قامت احدى الفدراليات – المائلة لفظيا نحو اليسار – بالدعوة الى اضراب عام عندما كانت السلطة في مهب الريح في 20 ديسمبر وقد ألغي الاضراب بعد سقوط الحكومة. وبعد ذلك بأيام، تقابل قادة الفدرالية الرسمية مع رودريجو ساء قائلين أنه ” شخص بيروني من النوع القديم ” بدون أخذ الشعور الجماهيري المناهض للحكومة في الاعتبار.

منذ ذلك الحين، بدأت بعض الكتل النقابية المحلية والفدرالية اليسارية – لفظيا- بدعم العديد من الاحتجاجات. لكن استمرت الفدراليتين الرئيسيتين في الوقوف بعيدا عن الاحتجاجات في محاولة لفصل الملايين من العمال الذين لايزالوا يعملون – بشكل متقلقل – عن الحركة التي تمتلئ بها الشوارع والأحياء.


العقد المرير:

كانت الثورة عفوية لدرجة تجعل زعم غير ذلك مناف للعقل (58). لكن هذا لا يتنافى مع وجود تيارات معارضة قامت بتمهيد الطريق لها. من الممكن رؤية محاولات العمال لايقاف اغلاق المصانع وتسريح العمال طوال التسعينات كهزائم متلاحقة، لكنهم نجحوا في الحفاظ على روح مقاومة ونضالية اضطرت أنصار اللبيرالية الجديدة في حكومة مينيم الى تقديم التنازلات في بعض الأحيان. كثيرا ما اخذت الاضرابات العامة التي دعت اليها بيروقراطية الاتحاد طابعا شعائريا بلا مظاهرات، لكنها أدت الى تجميد صفوف عريضة من المصانع والنقل

موضحة وجود القوة التي بامكانها أن تشل النظام. كما قامت باجبار أنصار اللبيرالية الجديدة على سحب بعض مطالبهم – مثلما حدث لدى استقالة كافالو في 1996عندما أراد الاقتطاع من أجور ونصيب الأسرة (59). يعجز العمال الذين انصرفوا عن الاضراب عن رؤية – الواقع البسيط – الذي يجسده هذا الاضراب من قوة للعمال على الرغم من سلبيته (60).

ظهرت أشكال جديدة للنضال الى جانب الأشكال ” القديمة “. فقد ظهرت أولى الحالات الثورية مع الأزمة الاقتصادية لسنة 1989 :

” تحرك الجماهير للتخلص من الحكومة في مقاطعة باتاجونيا في 1989. وبعد ذلك قام الآلاف من جماهير بيونس آريس وروساريو بالتحرك ونهب محلات السوبرماركت والبقالة في شهر يونيو لنفس السنة. تحركت الأحياء والمدن المختلفة العديد من المرات في السنتين التاليتين…ازداد عنف الاحتجاجات في 1993 من خلال الهجوم وحرق مقر الحكومة في كل من مقاطعة سانتياجو دل استيرو ولا ريوجا وشاكو وتوكومان وكورينتس. تميزت تلك الاحتجاجات بوقوعها بشكل غير متوقع وسريع – فبالكاد استمرت لأكثر من يوم – وعدم تركها لأي أشكال أولية للتنظيم. فبدت أقرب الى الرغبة الملحة للتنفيس عن الغضب والاحباط المتراكمين من كونها شكل جديد للنضال. على الرغم من عنف الحركات وانتشارها كانت السيطرة عليها سهلة نسبيا. فحاولت الحكومة أن تتجاهلها في حميع الحالات انتظارا لخمودها ومن ثم لجأت الى القمع الأمني(61).

كانت تلك الحركات المحلية والأشبه بالثورة في بداية التسعينات قصيرة الأمد ومنفصلة عن بعضها البعض ولم تؤدي الى تنظيم ثابت. لكن تغير الوضع في 1996 مع السلسلة المتتابعة للنضالات في بتاجونيا والتي دلت على بداية الاتجاه الجديد:

ان كوترالكو وبلازا هونكول هم الدائرتين الانتخابيتين في الجزء العلوي لبتاجونيا بمقاطعة نيكيوين وتحتوي على 55 ألف من السكان…تم بناؤها وتنميتها حول صناعات البترول… تم خصخصة شركة البترول المملوكة للدولة بين 1994 – 1995 ومن ثم تسريح 80% من عمالتها. كان معدل البطالة 35.7% في الدائرتين وعاش 23.500 شخص تحت خط الفقر في 1996. فشل الحاكم المحلي في توقيع الاتفاق بشأن تشييد مصنع للأسمدة مع مؤسسة كندية في يونيو 1996 مما أسفر عن احتجاج السكان بالشوارع. أغلق أصحاب المحلات أبوابهم وأقام 5 آلاف شخص المتاريس في جميع أرجاء المدينتين – عرف بعد ذلك هؤلاء المقيمون للمتاريس بحركة االعمال العاطلين عن العمل (بيكويتوروس). وقامت قوات الأمن بحصار الأهالي(62).

تمكن حاكم المقاطعة من انهاء الاضطراب الذي استمر لمدة أسبوع بتعهده بالقيام بمفاوضات مع لجنة من الأهالي وتقديم المعونات للأسر الفقيرة. لكن انطلق الجماهير للنضال مرة أخرى بعد تسعة أشهر أثناء اضراب المدرسين ضد الفصل والاقتطاع من الأجور. أغلقت الشوارع العامة القريبة مما أدى الى اصطدام الشباب المسلح بالعصي والحجارة مع الأمن وقتل الأمن لامرأة واحدة.

في تلك الفترة انتشرت الاحتجاجات والاشتباكات المشابهة في ترتجال وججاي بالشمال الغربي ولاباتا وبيونس آريس على الساحل: ” حوصرت الطرق العامة بالمتاريس وتظاهر الطلبة في مواجهة الأمن وأضرب العمال والمزارعون…كان للثورة وقع على المخيلة الشعبية…ساهمت كل مواجهة جديدة في تحرك مناطق أخرى وانتشر التنوع في أساليب النضال “(63). وقد وقع المزيد بظهور أساليب جديدة للتنظيم أديرت من خلال الاجتماعات الشعبية واللقاءات الجماعية حيث تمكن الجميع من الاشتراك. اختلفت تلك الاجتماعات بشدة عن الضوابط البيروقراطية التي اتسمت بها الفدراليات النقابية الثلاثة.

مر انتشار النضالات بفترة سكون قصيرة في 1997 – 1998 نتيجة لتوقع الجماهير لبعض التحسن في ظروفهم ما بعد الانتخابات، لكن ما لبثت خيبة أملهم أن أدت الى توسع النضال. قامت حركات كبيرة في نيكوين وجنرال موسكوني ولااسبيرانزا وججاي وسيبولتي وأوران وباهيابلانكا وكمودورورفادافيا. وقام الجماهير في ترتاجال بأقصى الشمال الغربي بالهجوم على مقر الشرطة(64). أما في النصف الثاني لعام 2000 تحالفت حركة العاطلين عن العمل لأول مرة مع تحرك جماهيري للعاملين من العمال. وفي ماتانزا – ضاحية بيونس آريس التي يصل عدد سكانها الى 2 مليون نسمة وأكثر ضواحي الدولة كثافة من حيث التصنيع في السبعينات – قام ألف من العاطلين بحركة (بيكويتيروس) باغلاق الطرق العامة الرئيسية لمدة أسبوع. وجمعت موجة أخرى من النضال في ترتاجال العاطلين عن العمل وعمال النقل وقاموا باغلاق الطرق. عندما أطلق رجال الأمن النار على أحد المتظاهرين وقتلوه، قام الجماهير باحتلال مقر الشرطة وأخذ الضباط كرهائن والاستيلاء على أسلحتهم(65).

اتحدت الحركات المختلفة مرة أخرى على نطاق أوسع في مارس 2001 في الانتفاضة الشعبية التي أدت الى استقالة لوبيز ميرفي من الحكومة واستبداله بكافالو. أدى الاعلان عن الاقتطاعات الضخمة من ميزانية التعليم الى موجة نضالية بين صفوف الطلبة – على الرغم من قيادتهم المنتمية لفرع الشباب للحزب الراديكالي الحكومي – واضراب المدرسين لمدة 48 ساعة ومسيرة لمنظمات العاطلين في بيونس آريس ومن ثم اضراب عام لمدة 24 ساعة يشمل الفدراليات النقابية الثلاثة. كتب المعلق باسكويني دوران في الجريدة اليومية باجينا 12 “وضعت الاضرابات واحتلالات المصانع وحالة عدم الرضا العام الحكومة في موقف صعب للغاية…كان من الضروري أن تأخذ الاختيارات الاقتصادية المتاحة في الاعتبار واقعا شديد الأهمية – المجتمع قال ” كفى! “. ولأول مرة منذ أمد بعيد يخاف السياسيون من العصيان المدني أكثر من خوفهم من الأسواق”(66).

استمرت حركة العاطلين في النمو من مايو الى أغسطس 2001 من خلال مؤتمرين قوميين لمنظمات بيكويتيرو واغلاق الآلاف من العاطلين ل300 طريق عام رئيسي – أدى التصادم مع الأمن الى قتل خمسة من العاطلين (67). قدم الماركسي الأرجنتيني روبرتو ساينز في تحليله لأزمة مارس ملحوظة صحيحة:

” يمكننا القول بأن حلقة جديدة من النضال قد بدأت وتحتوي على سمات مختلفة عن تلك السائدة في النضالات السابقة. كل شئ مطروح للسؤال. توجد حالة من النقاش الدائم بين الأهالي…تنمو طليعة حركة بين الشرائح الشعبية وتبدأ بأخذ سمات محددة وهي في الأغلب من داخل حركات العاطلين ولكن أيضا من ضمن قطاعات من العاملين… بشكل عام تنشأ الحركات الجديدة بعيدا عن منظمات الاتحادات النقابية التقليدية وتتمتع بديمقراطية مباشرة من أسفل وقادة جدد ” (68).

بذلك تكون القوى الجديدة والأشكال الجديدة للنضال قد أظهرت قدرتها غلى زعزعة المجتمع حتى جذوره – وهذا في الوقت الذي كانت فيه الطبقة الحاكمة تتمزق بشكل متزايد حول ما يتوجب فعله حيال الأزمة التمويلية الحادة لكلا من الصناعة الأرجنتينية والدولة. لتلك الأسباب كان الرأي اليساري الماركسي صائب حينما أشار الى تطور ظروف ثورية (أو ما قبل الثورية).

لكن ذلك لا يعني أن الوعي لدى قادة الحركات الجديدة اتسم بالثورية بشكل آلي أو حتى بشكل عام. فقد جلب المشتركون في الحركات تصوراتهم المختلفة عن كيفية النضال وتوقعاتهم المختلفة أيضا عن ما يمكن تحقيقه. اتضح ذلك في بداية النضال في مقاطعة نيكوين. غضب الشباب المناضل الذي كثيرا ما تصارع مع الأمن من موافقة القادة المحليين الرئيسيين على التسوية مع الحاكم نظير توفيره لعدة وظائف وعدة معونات للبؤساء. وقد ظهر نفس النوع من الانقسامات في الحركات الرئيسية في متانزا. فقد وافق قادتها بعد أسبوع من اغلاق الشوارع على فك الحصار نظير ” خطط وظيفية ” تعمل على مساعدة 7.500 شخص وتترك مئات الآلاف من العاطلين بالمقاطعة. اعترضت قلة من المحتجين على ذلك، لكن لم تكن لديهم الثقة لتحدي القادة الموجودين (69).

لا يحول واقع وجود العاطلين – بشكل آلي – دون محاولة العثور على علاج داخل النظام السائد. كانت الرغبة في تحسين الوضع المباشر والبائس هي الدافع وراء اشتراك أغلب الجماهير في الاحتجاجات. بالتالي، كانت الميول الرئيسية في حركات العاطلين (بيكويتيروس) تهدف الى الضغط على الحكومة من أجل التحسنات الطفيفة مثل ” خطط وظيفية ” وليس من أجل الفرصة البعيدة ظاهريا للثورة الاجتماعية. تجلى ذلك في القوى الرئيسية المشتركة في نضال متانزا وفي القوى المسيطرة على الاجتماعات القومية لحركة بيكويتيروس بصيف 2001. لكن المطالبة بخطط وظيفية يمنح الحكومة ببساطة فرصة للتلاعب. فيمكنها أن تعد بتلك الأشياء على أمل العدول عنها بمجرد انتهاء الاحتجاجات المباشرة. كما يمكنها أيضا أن تتوقع اجتذاب المناضلين العاطلين الى شبكات محسوبيتها من خلال تطبيق تلك الخطط. أشار أحد النقاد ” يستفيد معظم رؤساء الأحزاب المختلفة من التفاوض مع جوع وفقر العاطلين من خلال خلق وظائف تدور حول الأجر البائس في مقابل العمل على قطع الأعشاب الضارة أو دهن الحواجز ” (70). ان مثل تلك الميول تشير الى خطأ التصور الرومانسي الذي يتعامل مع حركات العاطلين وكأنها ” ثورية خالصة ” بالمقارنة بالعمال في أماكن العمل.

ربما تكون وسائل الاعلام والأحزاب المسيطرة قد خلقت التحيزات بين العاملين ضد العاطلين عن العمل بزعمها أنهم كسالى وغير عابئين بالعمل. لكن حركات 2000 – 2001 قد أوضحت امكانيات وصل حركات العاطلين بالقطاعات الأكثر نضالا من العمال العاملين. فعلى سبيل المثال، لعب العمال المفصولون من مصنع للتبريد والمناضلون بالنقابات سابقا دورا بالغ الأهمية في تنظيم احتجاج متانزا وبعث العمال في مصانع هامة بالوفود المفوضة من أجل تلبية الاحتياجات المادية لرافعي المتاريس (71).

على الرغم من اتساع النضالات في العام الماضي لم تتخلى القطاعات العاملة أو العاطلة عن الفكرة التي ترى أنه من الممكن تلبية مطالبهم من خلال النظام الراهن. استمر العمال في التسليم بالنظام الراهن نظرا لنشأتهم بداخله وعدم معرفتهم لسواه ولكن في نفس الوقت استمر نضالهم في التحرك في الاتجاه المعاكس تماما لمتطلباته. بصيغة أخرى، أراد العمال شيئا من حيث التطبيق وآخر من حيث الأفكار القديمة التي كانت لاتزال تملأ عقولهم. شجع ذلك ” الوعي المتناقض ” (على حد تعبير جرامسكي) على الميل المستمر نحو الاصلاحية. بالتالي، حدث صعود محدد لنماذج جديدة للاصلاحية اليسارية مع تراكم النضالات. فقد أظهرت استطلاعات الرأي لذلك الوقت أن أحد السياسيين الأكثر شعبية هو اليسا كاريو الرئيس الأسبق للحزب الراديكالي والذي تحول الى معارضة حكومة دولاروا. كما استمرت بعض المنظمات النضالية والمشتركة في تنظيم حركات العاطلين في التحالف مع قطاعات من رأس المال ” القومي ” و”المنتج ” والتي يفترض أن تكون مناهضة للبيرالية الجديدة.

ما كان الميل نحو الاختيارات الاصلاحية ليختفي على الرغم من نجاحات الحركة الشعبية في الشوارع. يظهر اتجاهان مع كل حركة ثورية ضخمة. يتحرك أصحاب الخبرة النضالية نحو المنهج اليساري الأبعد مما يؤدي بهم الى الاقلاع عن الحلول الاصلاحية. لكن يميل ملايين الجماهير الجديدة والمنضمة الى الحركة للمرة الأولى الى ربط هويتهم بالشخصيات السياسية البارزة والتي تبدو عقلانية وبعيدة عن الثورية ” الغير واقعية “. ففي الثورة الروسية بسنة 1917 قامت الغاليبة العظمى في السوفيات بدعم الحكومة البرجوازية بعد ثورة فبراير مباشرة. وفي الثورة الألمانية 1918 – 1919 علق جمهور العمال والعساكر آمالهم بشكل مبدئي على مناصري الديمقراطية الاجتماعية وليس على حزب سبارتاكوس الاشتراكي المتطرف الذي يضم روزا لكسيمبورج وكارل ليبكنخت. أما في الثورة البرتغالية في 1974 – 1975 اتجهت جماهير العمال الى الحزب الشيوعي الاصلاحي أو الى الحزب الاشتراكي الأكثر اصلاحية ولم تتجه سوى أقلية صغيرة الى اليسار الثوري.


اليسار الثوري:

زعم جيمس بيتراس في مقالة واسعة الانتشار بأنه لم يكن لليسار الثوري أثر في أحداث 19 – 20 ديسمبر(72). من حسن الحظ أن زعمه غير سليم تماما. فقد تواجدت بعض القطاعات من اليسار الثوري في ذلك اليوم ومن ثم حاولت أن تبني وتؤثر في اللجان الشعبية(73-74). أما الجزء الصحيح في زعمه فينصب في صغر حجم اليسار الثوري الأرجنتيني وتمزقه الى عدة مجموعات مختلفة وعدم احتوائه على قاعدة من التأثير في ثورة عفوية جماهيرية.

لم يكن اليسار بهذه الدرجة من الضعف على الدوام. فعلى الرغم من القمع الفظيع الذي وجهته قوات جانتا ضد اليسار الثوري وقتلهم للكثيرين من المناضلين ونفيهم لعدد أكبر منهم، شكل اليسار قوة جوهرية حتى نهاية الثمانينات – فكان للمنظمة التروتسكية التي أنشأت في 1983 آلاف الأعضاء فضلا عن المجموعة الأخرى المسماه بحزب العمال (بارتيدو أبريرو) والكبيرة حجما. لكن سنوات الهزائم المتلاحقة للحركة العمالية بدأت بانتزاع ضريبتها بانتهاء العقد. لا يختلف المسار العام لليسار الأرجنتيني كثيرا عن نظيره الأوروبي. يقول بابلو بازي:

” على الرغم من النمو الكبير لليسار المنظم ما بين 1983 – 1986 الا أنه تأثر بالركود في 1976 – 1983 وبانهيار الاتحاد السوفييتي وبالوضع العالمي ككل. أدى الاختفاء المفاجئ للاتحاد السوفييتي الى اصابة الكثير من المناضلين وكذلك الناقدين التقليديين للاستالينية بالاحباط….بالاضافة الى ما توقعه الكثير من الجماهير من اختفاء أبدي للاشتراكية من على الأجندة – اذا كانت أبدا على الأجندة. بدأ ظهور الكثير من الأفكار الخاصة بالامكانيات المتاحة وتضمنت عدة تنوعات للديمقراطية الاجتماعية. وبشكل مفاجئ أصبح الطريق الى الاشتراكية بعيدا عن الثورة ولكن تطور لمساحات الديمقراطية المتزايدة من خلال المشاركة الانتخابية….

انطلقت معظم المنظمات اليسارية بعد 1983 الى النضال الانتخابي على أمل تنصيب بعض المشرعين. قامت الكثير من المجموعات اليسارية باستهلاك مواردها الضئيلة ونشطائها في الانتخابات بسحبهم من العمل الجماهيري. صرفت الطاقة في تشكيل الاتحادات الانتخابية وفي الحصول على رضا الصحافة وناخب الاتجاه السائد…نجحت المنظمة التروتسكية في انتخاب عضو بالكونغرس الوطني وعضو بالمجلس المحلي وممثل محلي، لكن كان الثمن باهظ…ظهرت فكرة بداخل الحزب تنص على أن الاشتراك في النضالات الجماعية يعوق احراز المزيد من التقدم في الانتخابات لأنها تنفر الطبقات المتوسطة(75).

انقسمت المنظمة التروتسكية تدريجيا الى عدة أجزاء وعادت المجموعة المحتفظة بالاسم الى المنظور الثوري الذي يروج ” الاشتراكية أو البربرية ” و ” الاشتراكية من أسفل “. وعمل الى جوارها حزب العمال (بارتيدو أبريرو) وقسم آخر من المنظمة القديمة والحركة من أجل الاشتراكية وحزب العمال من أجل الاشتراكية. لقد احتفظ كل هؤلاء ببعض العمال المناضلين من فترة السبعينات والثمانينات لكن لم يكن لأي منهم التأثير الذي تمتع به اليسار الثوري منذ أمد بعيد.

كما عانى الحزب الشيوعي بطريقة مماثلة من ضياع التأثير والتمزق الداخلي. فقد شكل اتحاد انتخابي في 1989 مع المنظمة التروتسكية ثم بدأ الحزب في 1993 بالاعتماد على السياسيين البيرونيين الذين قاموا بنبذ حكومة مينيم. لكن قامت الشخصية الرئيسية لذلك الاتحاد بابعاد الحزب عنه وجعله جزء من ائتلاف فريبازو والانضمام الى حكومة دولاروا التي اكتسحتها الجماهير في 19 – 20 ديسمبر(76).

أخيرا، لقد شجع الجو العام لتلك السنوات محاولات العثور على نوع من البديل الاصلاحي للأزمة. لقد أدت الفكرة بأن اللبيرالية الجديدة ما هي الاّ سياسة مجنونة فرضت على ” الدولة ككل ” من قبل رأس المال الأجنبي وأداتهم المحلية كافالو دون أن تعبر عن احتياجات رأس المال الأرجنتيني في الصعود الى المسرح العالمي الى عمل الفدرالية النقابية والشبه يسارية على استقطاب قطاع من رأس المال المحلي للانضمام الى برنامج التوسع القومي – المبني على زيادة دخل العمال والسلع الاستهلاكية في السوق (77).

كانت فترة بداية ومنتصف التسعينات صعبة جدا بالنسبة لقطاعت اليسار المتبقية حالها كحال نظيرها ببريطانيا بعد هزيمة اضراب عمال المناجم ( 1984 –1985 ) ونضال عمال الطباعة (1986 – 1987). وقد خلقت تلك الفترات باليسار نزعتين متناقضتين في الظاهر لكن متكاملتان في الواقع.

كانت النزعة الأولى باتجاه التكيف ان لم يكن مع اللبيرالية الجديدة ( التي وقعت في بعض الحالات ) فعلى الأقل مع العديد من البرامج الاصلاحية – المدعومة في الأرجنتين من قبل عرف اليسار القديم الذي يرى في رأس المال الأجنبي العدو الرئيسي والذي يتحتم مواجهته من خلال التحالف مع قطاعات من رأس المال المحلي. أما بالنسبة للمناضلين المشتغلين بأماكن العمل المنظمة فقد اضطروا الى مواجهة الضغطين المتوازيين، التكيف مع وسائل البيروقراطية النقابية واستبدال المعارضة الفعلية لسياساتها بالمهمة الشاقة والمتمثلة في تحريك النضال على الرغم من المقاومة النقابية لذلك.

كانت النزعة الثانية باتجاه الطائفية. لقد حثت عدم قدرة مجموعات اليسار على تحريك قوى حقيقية في مواجهة هجمات النظام الى محاولة استبدالها بالصيغ المنهجية – ومن ثم اقامة حوارات متقدة مع بعضهم البعض حول تفاصيل تلك الصيغ. وقد زودت المطالب مثل ” الاجتماع المقوم ” بطابع سحري لم يكن موجودا من قبل ( حتى في الظروف التاريخية المناسبة لمثل ذلك الطابع ). وكثيرا ما ازداد الميل نحو توجيه الطعنات اللفظية ضد التيارات الاصلاحية وبيروقراطية النقابة العمالية بدلا من استخدام وسائل الجدال التي يمكنها كسب العمال الذين لازالوا يعتمدون عليهم. بلا شك، عمل ذلك على اعاقة تجهيز القيادة العملية والضرورية للحركة اليوم.

لكن يتوجب أن يكون لليسار امكانية التأثير في الأحداث. لقد تمت الانتخابات المحلية في أكتوبر 2001 ومن الجدير بالذكر، النفور الجماهيري من الأحزاب السياسية السائدة، المتمثل في المستوى الضخم في الامتناع عن التصويت – حوالي 10 مليون – في دولة يفترض أن يكون التصويت فيها الزامي. لكن أظهر بعض النافرون استعدادهم للجوء الى بدائل الجناح اليساري فوصل اجمالي التصويت القومي للأحزاب اليسارية المختلفة الى أكثر من مليون – كان نصيب اتحاد الحزب الشيوعي/ حركة العمال الاشتراكية (MST)500 ألف و 250 ألف لاتحاد حزب العمال (PO)/ الحركة نحو الاشتراكية(MAS) وأما حزب العمال لأجل الاشتراكية (PTS) فحصل على 100 ألف صوت. حصل اليسار في بيونس آريس على نتيجة قوية 27% من الأصوات وأحرز اليسار نتائج جيدة أيضا في مدن مثل كوردوبا و سالتا.

يبدو أن التصويت لليسار كان بشكل رئيسي تصويت احتجاجي بدلا من كونه رمزا للقناعة العميقة بمواقفه. لقد أظهر امكانية حصول اليسار على تأثير أوسع، واستعداد الجماهير للجوء الى السياسات الاشتراكية كبديل للأحزاب البرجوازية المنافسة، لكن ليس أكثر من ذلك. ان السؤال المطروح منذ 19 – 20 ديسمبر هو ما اذا كان لليسار القدرة على البناء من تلك النقطة أم لا.


أزمة الطبقة الحاكمة:

لقد طرح لينين في فقرة شهيرة له أن قناعة الطبقة المستغلة باستحالة تحملهم لظروف معيشتهم لا يكفي ليتوافر الظرف المناسب لقيام ثورة. يجب أن تصل الطبقة الحاكمة الى الخلاصة باستحالة استمرار الأمور على ما كانت عليه في الماضي. ان ذلك يحدث تشققات مشلة وعميقة بداخلها، ويرمي المجتمع ككل في حالة اضطراب عظيمة، ويحفز الطبقات المستغلة للتعبير عن غضبهم.

كان ذلك واضحا في أزمة مارس في السنة الماضية، بطرد لوبيز ميرفي وحل كافالو محله. عندما أعلن لوبيز ميرفي خطة فرض اقتطاعات وحشية من نظام التعليم قام 300 من كبار رجال الأعمال بمرافقته حتى استقلاله للباخرة. وفي ذات الوقت، قام ال(UIA) ( المرادف التقريبي لجمعية المدراء في بريطانيا ) بانتقاد النظام. أدت عودة كافالو الى وزارة الاقتصاد الى تهدئة النزاعات لفترة قصيرة لكن ببداية الصيف عادت النزاعات أكثر شدة. كان موضوع النزاع الرئيسي بداخل الطبقة الرأسمالية يدور حول ما اذا كان الطريق لحل الأزمة يكمن في تخفيض قيمة البيزو (وبالتالي، خفض الواردات وزيادة الصادرات ) أو في تثبيتها للأبد بالدولار (وبالتالي، بعث ” الثقة ” لدى المستثمرين الأجانب لكي يقوموا باقراض الأرجنتين ).

قبع وراء تلك النزاعات حول سياسة النقد تضارب مادي وحقيقي في المصالح. كانت عملية التثبيت بالدولار وسيلة لحماية الثروات من الأزمة الأرجنتينية بالنسبة لبالغي الثراء وللقطاعات المالية التي كانت قد جنت الكثير من الأموال خلال العشر سنوات الماضية. فقد استوعبتها وكأنها شكل يمكن نقله الى جميع أماكن العالم للحصول على الربح. وعلى العكس، أراد أصحاب الصناعات الانتاجية – بما فيهم الشركات الأجنبية والمالكة لتلك الصناعات نتيجة للخصخصة – الهروب من التقيد بالدولار. كانت اللبيرالية الجديدة ملائمة بالنسبة لهم في بداية التسعينات عندما كانت تتسبب في اغلاق الشركات الصغيرة وتركز الأصول في أيديهم. كان تدمير بعض الصناعات ” الغير متنافسة ” (بالنسبة لهم) ثمن يستحق الدفع لبناء رأسمالية أرجنتينية قوية وتشمل تكاليف العمالة المنخفضة. لكن انخفضت امكانية بيع الصناعات المتبقية لسلعها في ظل المنافسة الأجنبية نتيجة لقيمة البيزو المرتفعة. لقد رأوا أن بتخفيض قيمة العملة سيحدث انخفاض في الأسعار يمكّنهم من بيع سلعهم بالخارج، بينما يصد تدفق الواردات بدرجة تمكنهم من رفع الأسعار بالداخل. بالتالي، عارضت شركات التصنيع والمنتجات الزراعية الكبيرة تثبيت العملة وضغطت من أجل تخفيضها.

احتدت أزمة الطبقة الحاكمة السياسية عندما رفض صندوق النقد الدولي اقراض الأرجنتين في ديسمبر وظهر تهديد افلاس النظام البنكي. تفاقمت الانشقاقات بين صفوف الحزبين السياسيين السائدين، الراديكالي والبيروني، بانصراف فئات مختلفة من قادة السياسة البيرونية لتعزيز مكاناتهم الفردية دون الاكتراث لمصالح الطبقة الحاكمة ككل. لم تتواجد الشخصية السياسية القوية بدرجة تؤهلها لفرض تثبيت أو تخفيض قيمة العملة. تهاوى القرار بدون وجود سياسة سوى المزيد من الاقتطاع من الميزانية حتى أجبرت الحكومة على تجميد الأرصدة البنكية من خلال (كوراليتو) – والتصديق على مصيرها – نتيجة لنقص الدولار.

استفحل مستوى الانشقاق بين الطبقة الحاكمة بتفجر الجماهير الى داخل الساحة السياسية. لم يضطر السياسيون المتنافسون الى مواجهة قطاعات الطبقة الحاكمة المتأهبة للحرب فقط واضطروا الى مواجهة الضغط من أسفل. لقد علموا أن قول ما هو غير لائق واغضاب الجماهير يمكنه أن يحطم السمعة السياسية – بينما قد تقوم ايماءة شعبية بفتح جميع الأبواب لمسيرة مهنية عظيمة. بذلك ترجم الاضطراب في الشوارع الى اضطراب أيضا في الكونغرس وقصر الرئاسة كاسا روسادا (البيت الزهري). تم تنصيب رودريجو ساء من قبل المؤسسة السياسية للاطاحة به بعد أسبوع نظرا للعصيان الجماهيري في الشوارع والمؤامرات السياسية لمنافسيه من قادة البيرونية. نجح دوهالدي، أول مدبري المؤامرة، في تقلد منصبه لكنه بدى عاجزا عن اصدار برنامج متماسك. فقد أعلن تخفيض العملة والموراتوريوم ( قرار رسمي بتأجيل دفع الديون المستحقة) ولكنه أضاع شهرا في شرح معنى ذلك بالنسبة للبلايين من البيزو المودوعة في والمدينة للبنوك، بينما استمر التجميد (كوراليتو) ساريا ومعه مرارة الطبقات المتوسطة. قامت الحكومة بشجب ” التملص الفظيع من النظام الضريبي والمتمثل في عقاب المستهلكين وأدنى مستوى ضريبي على الأرباح في العالم ” وأرسلت الشرطة لفحص سجلات البنوك التي يشتبه في تهريبها للنقود الى الخارج (78). لكنها ما لبثت أن طمأنت الأجانب من أصحاب المؤسسات المخصخصة بعدم رغبتها في تدمير مصالحهم وبدأت بالتحاور مع صندوق النقد الدولي بشأن تسديد الديون.

لخص مارتن وولف، محرر عمود في جريدة فاينانشل تايمز، الفزع في وسط الكثير من المصالح الرأسمالية نتيجة للتشوش بداخل الحكومة. ” لقد حول رئيس الأرجنتين النكبة الى شئ أسوأ من خلال مجهوداته للوصول الى سياسة شعبية تستهدف ارضاء الجميع ” (79). لم يقل وولف ما يتوجب على دوهالدي فعله اذا ما أراد الحفاظ على بقائه السياسي.

بعد أسبوع من ذلك اجتمعت قطاعات الرأسمالية العليا للضغط على دوهالدي ليتخلى عن نظريته ” الشعبية “. كان العنوان الرئيسي في جريدة باجينا 12 ” ولادة الائتلاف المقدس للتسعينات من جديد “. حكت المقالة عن تحالف ” جمعية البنوك الأرجنتينية وأقوى المصالح التجارية ” والآن بعد تسوية موضوع التخفيض من قيمة العملة: ” منذ التخفيض، تحالفت البنوك والمجموعات الاقتصادية القومية الكبيرة للعمل على مصالحها وقامت باعادة تسليح المجتمع الذي شكلته في التسعينات. انتهى نزاع مصالح اتحاد الصناعة ورجال التشييد والزراعة ضد مستغلي العقد الماضي (80).

لم ينه حتى ذلك النزاع السياسي بالداخل ضمن أولئك الذين أشرفوا على اللبيرالية الجديدة. في نفس اليوم الذي ظهر فيه ذلك التقرير، تدخلت المحكمة العليا باعلان عدم شرعية ال(كوراليتو). يسيطر على المحكمة أشخاص قام مينيم باختيارهم أثناء فترة رئاسته ومن الجدير بالذكر ارتباطها بالمصالح التجارية القوية والمريبة. كان الحكم بلا أدنى شك مناورة تهدف الى افقاد حكومة دوهالدي للاستقرار. بينما كانت الجموع تحتشد بأرجاء مركز بيونس آريس، أعلن دوهالدي برنامجه الجديد بفك التجميد ببطء وتحدث نواب البرلمان عن التشكيك في المحكمة العليا. اعتبر مراسل جريدة فاينانشل تايمز أن ذلك قد ” يجهز مسرح الأحداث لأخطر أزمة دستورية منذ عودة الدولة الى الديمقراطية في 1983 “(81). في الأيام التالية، “بدأت الشائعات حول انقلاب عسكري أو مدني – عسكري في الانتشار، وبالتالي زادت من ضعف الحكومة “(82).

قامت الاجراءات التي اتخذتها الحكومة للتعامل مع الأزمة البنكية بمفاقمة التوترات الاجتماعية. لقد حاولت أن تضفي على الاجراءات طابعا جذابا من خلال التأكيد على مركزية فك تجميد الأرصدة بالدرجة التي تسمح للجماهير بسحب ما يعادل أجورهم أو معاشاتهم شهريا. لكن سرعان ما اتضح التعقيد الحقيقي للاجراءات.

في الوقت الذي كان الدولار يعادل 1.8 بيزو بسعر التبادل، وافقت الحكومة على تحديد المقدار الذي يتوجب على كبار المدينين اعادته الى البنوك ( أولئك المدينين بأكثر من 100 ألف دولار ) بواحد بيزو لكل دولار وتعويض البنوك عن الفرق. وبالتالي، كانت تهمش ديون المؤسسات التمويلية والصناعية الضخمة (83). في نفس الوقت، كان على المدخرين الحصول على 1.4 بيزو لكل دولار مدخر. عمليا، كان من المطلوب أن ينضم صغار المدخرون الى الدولة في تقديم العون المالي لكبار المدينين. على سبيل المثال، كان ذلك سينزل دين 350 مليون دولار لشركة بيريز كومبانك الى النصف وفي ذات الوقت يزيد من مديونية الدولة بمقدار 7 بليون دولار تقريبا (84).

كانت الصفقة مرضية لرأس المال الكبير بدرجة تفوق بمراحل تصورات وزير الاقتصاد لحكومة دوهالدي، ريمس لينيكوف. لكن تمكنت مجموعات الاقتصاد والبنوك بمساعدة المحكمة العليا الغير مباشرة – والتي دفعت حكومة دوهالدي الى حافة الانهيار – من اقناع الحكومة بتقديم الاجراءات في صيغتها النهائية (85). لم يتضرر صغار المدخرون فقط، ففي الواقع بدأت الأسعار بالارتفاع بعد ذلك بعدة أيام حتى ازداد سعر الدواء (المنتج محليا والمستورد) بنسبة 35% بين عشية وضحاها.

وأخيرا، كانت الحكومة تسعى الى اتفاقية مع صندوق النقد الدولي وبالمقابل تعد بالمزيد من الاقتطاعات من المصروفات العامة. ان في ذلك دفع للاقتصاد الى الركود في الوقت الذي ترتفع فيه الأسعار. لم تشهد الأيام التالية لاعلان تلك الاجراءات انخفاض في التوترات الاجتماعية. كان على العاملين خوض النضال من أجل الحفاظ على القيمة الحقيقية للأجور في مواجهة التضخم السريع وللدفاع عن عملهم مع تعمق الركود. سوف تزداد الضغوط التي تدفع بالعاطلين الى الفقر المدقع وسيكثر الاستياء في وسط صغار المدخرين نتيجة لاضطرارهم الى تقديم العون المادي لرأس المال الكبير. يقول تقرير من بيونس آريس:

” يمكنك أن ترى في المظاهرة الأخيرة ميل الاجتماعات الشعبية للاتقاء مع حركة بيكويتيروس وترديد نفس الهتافات – “النضال موحد ” و ” العمل للجميع” و “تخلصوا منهم جميعا ولا تتركوا واحدا منهم ” – والقيام بمسيرة معا الى بلازادومايو”.


إلى أين تذهب الأرجنتين؟:

ان حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي في الأرجنتين تجعل تخمين مجرى الأحداث التالية مستحيل. تريد الحكومة اخماد احتجاجات ساسيرولازو من خلال فصل قطاعات من الطبقة المتوسطة عن حركات الفقراء والعاطلين. كما تتمنى أيضا أن تتمكن من منع القوى العاملة من الانجذاب الى تلك الحركات. يشكل ذلك الأساس المنطقي وراء الوعود الشعبية المختلفة التي يقصد بها خلق الظرف الملائم لاطلاق قوى الدولة ضد الحركة في الشوارع.

لكن لا يمكنها انجاز تلك الوعود دون افساد المصالح المالية والصناعية الكبيرة. ان وضع الرأسمالية الأرجنتينية ببساطة لا يسمح للحكومة بتلبية المطالب المباشرة لجمهور الطبقات المتوسطة فضلا عن العمال العاملين بدون اغضاب المجموعات الرأسمالية الأقوى. وستحاول تلك المجموعات أن تستخدم جميع الوسائل المتاحة لتمارس الضغط على الحكومة. كما تطوق القطاعات الرئيسية الآن للوصول الى قدرة استخدام الجيش بالاضافة الى الشرطة لاستعادة النظام في جميع أرجاء الدولة.

ان الطريق أمامهم طويل في اللحظة الراهنة حتى يتمكنوا من فعل أشياء كتلك. انهم لا يزالوا بحاجة الى حكومة ” شعبية ” مثل حكومة دوهالدي على الرغم من عويلهم حولها ورغبتهم في استبدال رئيسها. لا شك في كونهم سيستغلون أي نجاح لدوهالدي في تهدئة الحركة الجماهيرية لدفع الخطط الأكثر طموحا وقمعا في آن واحد. من المتوقع، أن تقوم بتشجيع بعض المجموعات القومية المنتمية للجناح اليميني والتي كانت مزدهرة في الماضي – ليس بالضرورة لتقليدهم للسلطة لكن لاستخدامهم كقوة تدفع بالحياة السياسية في الدولة الى الاتجاه الأقرب لليمين والأكثر أمنا. سوف يكون أملهم منصب على الاستفادة من المرارة التي نشأت عن الأزمة الاقتصادية. فقد يكون لمستوى البطالة ولافلاس التجارات الصغيرة وللتجزئة والانعزالية الناجمة عن الفقر أثر في اغواء الجماهير بأفكار الجناح اليميني. لم تشهد فترة التسعينات في الأرجنتين صعود حركة بيكويتيروس فحسب – شهدت أيضا التهيج ضد المهاجرين من شيلي وباراجواي وبوليفيا بالاضافة الى انتقال بعض الممتنعين عن التصويت نحو حزب يميني متطرف في بعض الانتخابات. كما كتب بابلو بوزي منذ سنتين، ” ازدادت العنصرية بشكل ملحوظ. وكثيرا ما يتم توجيه النكات والتعليقات والتمييز الى المهاجرين الجدد من الدول المجاورة ومن كوريا الجنوبية. كما يتم التعبير عن تلك العنصرية من خلال الأفكار التي تروج أن أهالي شيلي وبوليفيا وباراجواي كسالى ومتخلفين وممارسون للسرقة وأنهم هاجروا لسرقة الوظائف من الأرجنتينيين…توضح الأبحاث الحديثة ازدياد العنصرية خلال العقد الماضي ” (86). لقد حجب صعود النضال، في اللحظة الراهنة، أصوات زعماء الدهماء والمروجون للعنصرية والقومية والذين يحاولون الاستفادة سياسيا من الاغراق في مثل تلك الأفكار العاطفية. ومن الجدير بالذكر، أن القرار المتخذ والمروج من قبل اجتماعات الأحياء يعبر عن التضامن مع المجموعات المهاجرة. لكن لا يزال خطر اتاحة فرصة جديدة للعنصريين وقوميي الجناح اليميني ما لم تنجح الحركات الجماهيرية (في ساسيرولازو وبيكويتيروس ) في التعامل مع الفقر الشديد لنصف سكان الدولة.

لذلك لا يكفي أن يقوم اليسار في الأرجنتين بتمجيد أحداث الست أسابيع الماضية. ان العبرة المأخوذة عن الأزمة العالمية العظيمة في الثلاثينات تنص على أن مثل تلك الظروف قد تفتح الباب لأمل الثورة ( أسبانيا في 1931 و 1936 وفرنسا في 1934 – 1936 ) ولكن أيضا قد تؤدي الى اليأس الثوري المضاد.

يوجد أمران شديدان الأهمية هنا. يوجد التعميم للمطالب الاجتماعية والسياسية المنبثقة عن الاجتماعات الشعبية – الاشتراك في العمل بين العاملين والعاطلين بدون نقص الأجور والخدمات الاجتماعية الكفيلة باخراج الجماهير من فقرها تأميم البنوك واعادة تأميم الشركات المخصخصة ومصادرة اللحوم والحبوب من الشركات التجارية – الزراعية وسلاسل محلات السوبرماركت لاطعام الجماهير.

لكن الى جانب المطالب يجب أن تكون هناك محاولات لنشر الحركة وتنظيمها بحيث يتم اطلاق القوى القادرة على تطبيق هذه المطالب. يظل برنامج العمل لا يعني شيئا بالنسبة لفرد جائع مادام مطبوع على ورق – لهذا السبب تعد الخلافات الناجمة عن التمسك بالتعاليم والأساليب التقليدية في التعبير عن البرنامج انحراف عن النضال. ما نحن بحاجة اليه هي القوة للبدأ بتطبيق مثل ذلك البرنامج. في الأرجنتين، ذلك يعني اشراك العمال العاملين الذين لا يزالوا متأثرين بنقاباتهم العمالية. لقد انخفض عدد هؤلاء ما بعد الأزمة الاقتصادية ولكن لا يزال هناك الملايين منهم ( 1.610,000 في بيونس آريس و210.000 في كوردوبا و110.000 في روزاريو بنهاية العام الماضي ) ولا يزال عملهم يشكل أهمية كبيرة بالنسبة لفعالية الرأسمالية الأرجنتينية على المستوى اليومي (87). لقد أدى تفشي البطالة الجماعية الى تخوف الكثير من العمال من خوض النضالات التي يخافون من عدم نجاحها، حالهم كحال العمال في أي مكان. تستمر بيروقراطيات النقابات العمالية في التلاعب بذلك الخوف بتأكيدها على أن دوهالدي هو أملهم الوحيد. لكنهم عاشوا خلال تجربة ليس لها مثيل بأي مكان آخر في الأسابيع الستة الماضية. وقد رأوا قدرة العمل الجماهيري على الاطاحة بالحكومات – وشارك الكثير منهم في الأعمال الجماهيرية للأسابيع القليلة الماضية كأفراد، حتى وان لم يكن كفرق منظمة في أماكن العمل. ومن الجدير بالذكر، انضمام بعضهم – على الأقل – الى نضالات مريرة في أماكن العمل للدفاع عن وظائفهم في تلك الأسابيع وتشكيلهم لروابط مع بيكويتيروس بينما لم يستطع آخرون تجنب المواجهة للدفاع عن مستوى معيشتهم ضد التضخم. ان ذلك يفتح الطريق لامكانية كسبهم للمطالب البعيدة والتي لا يملك سواهم القوة لتطبيقها – المطالب التي ستحمل الثورة الأرجنتينية الى اتجاه مناهض للرأسمالية بشكل واضح.

كما رأينا يتسم اليسار الأرجنتيني بالضعف لكن الظروف كالتي تمر بها الأرجنتين تعمل على تحويل وعي الآلاف من الجماهير. عند قراءة الجرائد الأرجنتينية ومراقبة اذاعة أخبار الأرجنتين على الانترنت، أتذكر الجو العام بفرنسا في 1968 أو البرتغال في 1975، الراديكالية على نطاق جماهيري لكن في ظل خلفية أزمة اجتماعية أضخم بمراحل. يتوجب على اليسار في الأرجنتين أن يرمي بقواه الضعيفة نسبيا في النضال من أجل انشاء قطب ثوري يجذب الجماهير المنغمسة في انفجارات مجتمع كامل في أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية.

أما بالنسبة لليسار في الأماكن الأخرى فعليه أن يتعامل مع العبرة البسيطة بجدية. ففي ظل نظام عالمي يمر بأزمات متكررة ومتشنجة، من الممكن أن يتحول كل ما هو صلب الى هواء. يمكن أن ينقلب النظام السياسي المتماسك والذي يكون فيه اليسار مهمش منتجا ثورات ضخمة من أسفل. يمكن أن يواجه اليسار القديم والمحبط في معظم العالم – بأواخر الثمانينات وأوائل التسعينات – وكذلك اليسار الحديث – منذ مظاهرات سياتل – بظروف ثورية كامنة.

الأرجنتين ليست استثناء وليست بالمكان البعيد والغريب. ان الأزمة ليست نتيجة لتبني السياسيون لسياسات ” خاطئة “. كما أن الأمر لا يقتصر على الخضوع للخصخصة وللبيرالية الجديدة نظرا لفساد الحكومات أو للضغوط الأجنبية الواضحة. ان رأسمالية الأرجنتين ضعيفة ولم تتمكن من التكيف مع تأثير الأزمات العالمية المتلاحقة عليها الاّ من خلال الهجوم على الظروف المعيشية التي اعتادتها الطبقة العاملة والطبقات المتوسطة الأدنى. ان تلك المشكلة تواجه رأسماليات أخرى وبما فيهم بعض الرأسماليات التي تعتبر قوية. الأرجنتين ليست المكان الوحيد الذي سنشعر فيه بالاحتياج الى حزب ثوري لديه جذور قوية في الطبقة العاملة.


الهوامش

1 Quoted in Le Monde, 21 January 2002.

2 R Munck with R Falcon and B Galitelli, Argentina From Anarchism to Peronism (London, 1987), p101.

3 For a graphic account of this period, see D James, Resistance and Integration: Peron­ism and the Argentine Working Class, 1946-1976 (Cambridge, 1988), ppl4-15,25-30.

4 R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, pl27.

5 The relationship between Peronism and the working class was far too intricate to do sufficient justice to it in a couple of paragraphs here. For a longer, excellent, account see D James, op cit.

6 R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, pl44 and pl63.

7 ‘Argentina’, Citta Futura, anno vi, n3 (Rome, March 1974), pl5.

8 Details in 0 Alba, ‘El Cordobazo’, Socialismo o Barbaric, no 7,2001.

9 R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, p 171.

10 For full accounts of these events, see J P Brennan, The Labor Wars in Cordoba 1955-1976 (Harvard, 1994), and chapter 9 of D James, op cit.

 

11- تنتشر الاشارة الى الأرجنتين ك “شبه مستعمرة” بين اليسار الأرجنتيني. في بعض الحالات تستخدم التسمية كمرادف ل ” امسلوب قوته “. وفي حالات أخرى تشير الى افتقار البرجوازية المحلية للسيادة نتيجة لضعفها الاقتصادي الذي يجبرها على تقلد منصب التابع في علاقاتها الاقتصادية بالدول الرأسمالية الأغنى والأقوى. ان في ذلك خطأ نظري أساسي. تفتقر المستعمرة الى الاستقلال السياسي وبمجرد تحقيقها للتحرر الوطني – تتخلص من سيطرة الجيوش التابعة لقوة ما – لا تصبح مستعمرة. ولا يوجد أي تحليل لواقع عدم حصولها على نوع من التحرر الاقتصادي الوهمي.

كانت تلك هي النقطة التي كررها لينين في جداله ضد روزا لكسمبورج ونيكولاي بوخارن عندما عارضوا مطلب حق تقرير المصير قبل الثورة الروسية. لقد زعموا بأنه لا يمكن الوصول الى الاستقلال الاقتصادي فلذلك لا يمكن أن يوجد استقلال سياسي. لكن لينين أصر على الفصل بين الاثنين. لا يمكن استخدام مصطلح ” شبه مستعمرة ” الا في حالات تدخل الجيوش لمنع وهم الاستقلال السياسي – على سبيل المثال، دول مقل باناما ونيكارجوا خلال القرن العشرين. لا يمكن أن ينطبق على دولة لديها طبقة حاكمة تدير دولتها وتمارس الاحتكار المحلي لقوات الأمن وتعقد الصفقات مع القوى الامبريالية العظمى. عدم رؤية ذلك أدى الى بحث مناصري الستالينية عن تحالفات تهدف الى ” التحرر الوطني ” في ظل البرجوازية المحلية التي تمارس ادارة الدولة – كان ذلك سائا في، على سبيل المثال، الهند، الأمر الذي جعل الأحزاب الشيوعية تدعم أعمال الجيش بأمر الدولة. ويمكنها أيضا بأنصار التروتسكية الأصولية الى الوصول الى صيغ غير عقلانية حول ” البرجوازية في الدول الغير متقدمة ” ( بما فيهم الأرجنتين).وكأنها ” طبقة شبه مضطهدة ” وعن الأرجنتين وكأنه ” دولة شبه مستعمرة يفتقر الى السيادة ” وصل الى ” التصنيع الزائف ” في فترة الثلاثينات حتى السبعينات.

لم يشك لينين في كون الأرجنتين ” مستقل سياسيا ” على الرغم من اعتمادها الاقتصادي على بريطانيا في السنوات حتي الحرب العالمية الأولى. وفي الامبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية يقول ” يوجد شكل آخر من أشكال الاعتمادية في الأرجنتين…حيث تقوم بريطانيا بتمويل رأس المال وتحصل على روابط وثيقة مع البرجوازية الأرجنتينية، مع الدائرة التي تسيطر على حياة الدولة السياسية والاقتصادية “.(5 – 1 لينين، مجموعة أعمال، المجلد 22 (موسكو، 1964) ). بالنسبة له هناك فرق بين أن تسيطر على الدولة الدوائر الأرجنتينية وليس البريطانية. ذلك يعني عدم وجود حرب يتحتم على البرجوازية دخولها مع أولئك الواقعين تحت تأثيرها لأجل حق تقرير المصير. وفي مواضع أخرى ركز على الفروق بين الأرجنتين والدول الأخرى المفتقرة الى التحرر الوطني السياسي. في تلك الحالات وجدت الظروف الملائمة لاحتكاك البرجوازية بالقوى الامبريالية لهدف التحرر الوطني. وقد أصر على الفرق بين التحرر السياسي والاقتصادي مؤكدا على عدم وجود تحرر اقتصادي في ظل سيطرة الشركات الكبيرة من خلال الرأسمالية العالمية.

 

12 M A Garci’a, Peronismo: Desarrollo Economico y Lucha de Close en Argentina (Epiuges de Llobregat, 1980), p29. The Argentinian figure was 749, that of France 571 and that of Italy 414.

13 See the arguments against those who see Argentina as being a ‘neo-colony’ in A Dabat and L Lorenzano, Conflicts) Malvinense y Crisis Nacional (Mexico, 1982), pp68-71.

14 M A Garci’a, op cit, p29.

15 Ibid, p42.

16 The figures are given in ‘Argentina’, Citta Futura, op cit.

17 See the comparison of Italian and Argentinian growth rates in M A Garcia, ‘Argentina: El Veintenio Desarrollista’, in Debate, no 4 (Rome, April-May 1978), p20.

18 ‘Argentina’, Citta futura, op cit, p3.

19 Ibid, p7.

20 Figures for Argentinian wages in 1995 given in ‘Expected Wages in Selected NME Countries’, at http://ia.ita.doc.gov/wages/95wages/95wages.htm

21 See UNDP, World Development Report (Oxford, 1997).

22 Figures in R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, p209.

23 E Carpena, ‘El capitalismo en Argentina’, in Debate, op cit, pl7.

24 According to R Munck with R Falcon and B Galitelli, op cit, pp208-209.

25 Federal Reserve Bank of Cleveland, Economic Commentary, September 1999.

26 Ibid.

27 ‘Prologo’ to M A Garci’a, Peronismo: Desarrollo Economico y Lucha de Close en Argentina, op cit, p6.

28 See the figures in Debate, op cit, pi 14.

29 According to A Dabat and L Lorenzano, op cit, p56.

30 Business Week, 21 October 1991.

31 Financial Times, ‘Survey On Argentina’, 19 September 1997.

32 Ibid.

33 The figures given by the US Agency for International Development, Washington DC, 1996, show a rise of about 4 percent—although this figure may be misleading since we know that in this period there was growth of low paid unregistered employment in the black economy.

34 See figure 5 in P Sanguinetti and J Pantano, Changes in Production and Employment Structure and Relative Wages in Argentina and Uruguay, World Bank Sponsored Paper (August, 2001).

35 Ibid, p3.

36 Financial Times, ‘Survey On Argentina’, op cit.

37 J Stiglitz, reprinted in ATTAC Newsletter 113, available at http://attac.org

38 According to the Financial Times, 9 October 2001.

39 P Sanguinetti and J Pantano, op cit.

40 Institute Nacional de Estadistica y Censos, Republica Argentina (available at www. indec.mecon.gov.ar).

41 Financial Times, 30 October 2001.

42 M Mussa, Financial Times, 12 November 2001.

43 According to El Pats, 21 December 2001, 42.5 percent of foreign investment is from European Union countries (more than half of this from Spain) and 37.4 percent from the US.

44 Pagina 12, web version, 25 January 2002, http://www.paginal2.com.ar

INTERNATIONAL SOCIALISM

45 ‘Otra Cacerolazo Contra el Corralito’, Pdginci 12, web version. 11 January 2002. op cit.

46 Pdgina 12, 6 January 2002.

47 F Huertas, Liberation, 28 January 2002.

48 S Calloni, La Jornada, 21 January 2001.

49 E-mailed information from an Argentinian revolutionary socialist.

50 This list is taken from a single issue of the paper Prensa Obrera.

51 The original Trotskyist organisation was led by Nahuel Moreno.

52 J A Monies et al, Astillero Rio Santiago (Buenos Aires, 1999). pp54-55.

53 Quoted ibid, p66.

54 P Pozzi, ‘Popular Upheaval and Capitalist Transformation in Argentina’, iMtin American Perspectives, vol 27. no 5 (September 2000), p74.

55 J A Monies et al.op cit, pl05.

56 P Pozzi, op cit, p79.

57 Ibid, p83.

58 The attempts to do so in La Verdad Obrerci (8 January 2002) and Prensa Obrera (28 December 2001) do not hold water. The fact that there were previous struggles does not mean there was no spontaneous movement of vast numbers of new people into action, constituting a qualitative change form what had gone before.

59 The point is well made in M Romano, ‘Four General Strikes in 15 Months’, in the PTS journal. International Strategy, no 1 (May 2001), p31.

60 As does J Petras, ‘Argentina, the Big Bed and the Popular Uprising’, available at http://www.eurosur.org/rebellion.petras.htm

61 H Camarero, P Pozzi and A Schneider, ‘Unrest and Repression in Argentina’, New Politics, vol 7, no ) (new series), whole no 25 (Summer 1998).

62 Ibid.

63 P Pozzi, op cit, p63.

64 Details from 0 Alba, ‘La Lucha Por el Pan’, Socialismo o Barbaric, no 6, 2001.

65 See, for instance, the description in M Romano, ‘Four Genera] Strikes in 15 months’,op cit, p27.

66 Pdgina 12,31 March 2001.

67 See, for example, the account of the killing of two civilians during the road blockade in General Mosconi, north ofSalta, in Pdgina 12, 1 June 2001.

68 R Saenz in Socialisms o Barbaric, no 6, 2001.

69 See the rather bitterly toned article by local MAS activist Laura Correale in Socialismo o Barbaric, no 7,2001.

70 0 Alba, ‘La Lucha Por el Pan’, op cit.

71 L Correale, Socialismo o Barbaric, op cit.

72 J Petras, op cit

73 See, for instance, *E1 MAS en Argentinazo’, Socialismo o Barbaric, no 10, January 2002. See also the bitter diatribe against Petras in La Verdad Obrero, 8 January 2002.

74 This is clear from the papers of the Partldo Obrero and the Partido de Trabajadores por el Socialism and the magazine of the Movemienio al Socialismo, Socialismo o Barbaric.

75 PPozzi,opcit,p81.

76 Ibid.

77 For a criticism of the CTA position, see 0 Alba, ‘Cuadro de Situaci’on’, Socialismo o Barbaric, no 4, 2000, and R Ramirez and A Orbush, ‘Triste, Soitario, Final…’, Socialismo o Barbaric, no 2, 2000.

78 Deputy economics minister J Todesca, quoted in La Jornada, 8 January 2002.

79 Financial Times, 24 January 2002.

80 David Cufre in Pdgina 12, 1 February 2002.

81 T Catan in Financial Times, 4 February 2002.

82 S Calloni, La Jornada, 8 February 2001.

83       The phrase is used by A Zaiat in Pdgina 12. 4 February 2002.

84 According to A Zaiat, ibid.

85       According to A Zaiat, ibid. See also the analysis of M Itzcovich in // Manifesto, 5 February 2002.

86 P Pozzi, op cit, p76.

87 Figures given in Pagina 12, 22 January 2002, are for the number employed in workplaces of more than 12 employees. They show a loss of 122,000 jobs in these cities in the year

تسعدني تعليقاتكم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.