كتاب (الاقتصاد المجنون: الرأسمالية والسوق اليوم) كريس هارمان

Posted: 19 ديسمبر 2010 in كتب وموسوعات, مختارات سياسية, عمال وجماهير
الوسوم:, , , , , , ,

الاقتصاد المجنون: الرأسمالية والسوق اليوم – كريس هارمان PDF

1999

مقدمة 

دائما ما يقال أن الرأسمالية هي النظام الاقتصادي الوحيد الناجح غير أن ما يبدو جليا بالنسبة لمعظم سكان العالم اليوم هو أنها لا تعمل من أجل تلبية احتياجاتهم، وتخبرنا تقارير منظمة الصحة العالمية أن أكثر الأمراض ضراوة وأكثرها فتكا في عالمنا اليوم ليس تجلط الشريان التاجي أو السرطان، ولكنه “الفقر المدقع” الذي يعاني منه ألف مليون شخص، وهذا البؤس هو أحد الخصائص المميزة للحياة حتى في البلاد المتقدمة صناعيا، حيث يوجد أكثر من ثلاثين مليون عاطل عن العمل وخمسة عشر مليونا آخرين يعملون عملا مؤقتا وغير مستقر، كما تشير آخر إحصائيات منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. وفي الولايات المتحدة ـ أغنى مجتمع في تاريخ البشرية ـ كان يعيش اثنان وثلاثون مليونا تحت خط الفقر في 1988 (أي في قمة رخاء الثمانينات) وواحد من خمسة أطفال تقريبا يولد في فقر شديد، وفي بريطانيا يربى ثلث الأطفال في ظروف بائسة.

ويواجه الأشخاص في أعمالهم عدم اطمئنان وتوتر أكثر من أي وقت في نصف القرن الماضي، وحسب دراسة أجريت على أكثر من خمس آلاف عامل مكتبي في ستة عشر دولة، ” فقد أصبح العمل هو السبب الرئيسي للتوتر”. وجاء في تقرير لجريدة الفايننشال تايمز أيضا أن أكثر من نصف المراسلين صرحوا أن معدلات التوتر ارتفعت على مدى السنتين الماضيتين.

وفي كل مكان هناك ضغوط عنيفة على الجماهير للعمل أكثر وقبول أجور أقل من الماضي، وهو ما يتضح بشكل واسع في الولايات المتحدة، حيث تنخفض الأجور الحقيقية منذ عشرين عاما، وحسب ما جاء في جريدة لوس أنجلوس تايمز، لاحظت الغرفة التجارية في الولايات المتحدة:

منذ 1973 انخفضت الأجور الحقيقية بمعدل سنوي مركب 0ر7%  ويستمر هذا الاتجاه، وخلال الثلاثة أشهر حتى يونيو 1974 انخفضت القوة الشرائية لعمال الولايات المتحدة بنسبة 0ر7%.

وتتحدث دراسة قامت بها جولييت سكور بعنوان “الأمريكيون المعذبون” عن “التدهور غير المتوقع في أوقات الفراغ”:

يعمل الأمريكيون الآن في المتوسط 164 ساعة سنويا أكثر مما كانوا يعملون منذ عشرين عاما، ويصل هذا إلى حوالي شهر عمل زيادة في السنة.

وفي بريطانيا وألمانيا ومعظم بلاد أوربا الغربية كانت الأجور الحقيقية ترتفع حتى زمن قريب. ولكن الأوضاع تغيرت وباتت الجماهير تتعرض لضغوط واسعة أيضا. ففي بريطانيا بدأت محاولة تجميد الأجور تماما في القطاع العام، وفي ألمانيا تؤدي الضرائب الجديدة إلى تخفيض مستويات معيشة الطبقة العاملة، وفي البلدين يقول لنا السياسيون المحافظون أننا عشنا طويلا في رخاء، وفي هذا السياق يقول رئيس الوزراء الألماني هيلموت كول أنه يجب على ألمانيا الغربية “أن تعتاد على تغيرات عميقة في الحياة بالعمل لساعات أطول”، بينما يدعي وزير العمل البريطاني مايكل بورتيلو أن “الأوربيين يحصلون على أجور أكثر من اللازم” ويحصلون على إجازات “طويلة جدا” ويعملون لفترات “قصيرة جدا”، ويخبرنا السياسيون أننا يجب أن نكف عن توقع الحصول على “وظائف مدى الحياة”، ويجب علينا أن نبحث عن وسائل لتخفيض “الأعباء الاقتصادية” الناتجة عن دفع معاشات لعدد متزايد من كبار السن.

يمثل كل هذا الآن جزءا من حزمة الأفكار الاقتصادية التي تدعو إليها الحكومات الكبرى، وتتعزز من خلال تزايد نفوذ ما يطلق عليه بأفكار الجناح اليميني المتطرف، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال نالت أفكار أناس مثل تشارلز مورييه تأييد جمهورا ضخما، ويفسر مورييه وجود أعداد ضخمة من الناس يعيشون في فقر شديد بأنه خطأ نتج عن صندوق الرعاية الاجتماعية الذي خلق “طبقة سفلى” من الكسالى العاجزين عن انتهاز الفرص المتاحة أمامهم والحل الوحيد كما يدعي “اليمين الجديد” هو إلغاء الرعاية الاجتماعية للأمهات غير المتزوجات اللاتي يصممن على إنجاب أطفال أكثر. وفي بريطانيا أيضا يتزايد الحديث عن خطر “الاعتماد على الرعاية الاجتماعية” ـ ذلك الحديث الذي بدأ يتردد داخل حزب العمال كما يتردد بين دوائر المحافظين.

وإذا كانت هناك مستنقعات من البؤس في البلاد المتقدمة صناعيا، فهناك بحار هائلة منه في الكثير من بقية العالم، فقد اشتد الفقر في قارتي أفريقيا وأمريكا اللاتينية في السبعينات والثمانينات، مع انخفاض متوسط دخل الفرد فيهما، وبينما يضطر الفقراء لشد الحزام ليتمكنوا من العيش في أوروبا والولايات المتحدة، نجدهم يموتون جوعا بالملايين في أجزاء من أفريقيا. 

وينعدم الأمل أيضا في جزء كبير من الكتلة الشرقية السابقة. ففي 1989 أوهمت الدعاية الغربية الناس بأن السوق سوف يمنحهم “معجزة اقتصادية” جديدة، وبعد خمسة سنوات ساءت أحوالهم المادية أكثر مما كانت في ظل الديكتاتوريات القديمة، حيث انخفضت مستويات المعيشة بنسبة 40 أو 50 بالمائة. 

وبرغم ذلك، فالصورة ليست قاتمة بالنسبة للجميع،  بل أصبح الأغنياء أفضل حالا مما كانوا عليه من قبل. ففي 1980 كان دخل كبار المديرين في أكبر 300 شركة في الولايات المتحدة أكبر 29 مرة من الدخل المتوسط للعامل الصناعي، وبحلول عام 1990 أصبحت دخولهم أكبر 93 مرة من دخل العامل، وفي حين يعيش 2 مليار شخص في بلاد العالم الثالث عند أو تحت خط الفقر، تعيش الأقلية المسيطرة حياة فاخرة، فقد أورد تقرير لجريدة الفايننشال تايمز في فبراير 1995 معلومات عن كيف استطاعت البنوك أن تتعامل مع تلك الأقلية: “بناءا على تقديرات تشيز مانهاتن أن الأغنياء في أوروبا والشرق الأوسط يحوزون ألف مليار جنيه إسترليني نقدا أو أصول متداولة..  ويصل بالنسبة لأمريكا اللاتينية وآسيا إلى ألف مليار أكثر من الثروات الخاصة ويتزايد هذا الرقم بسرعة.”

ويطالب “الخبراء” ذوي الأجور المرتفعة في الولايات المتحدة بإلغاء الإعانات الاجتماعية لتخفيف الأعباء عن الأغنياء من أجل الحفاظ على حياة الفقراء، وفي البرازيل يستأجر الأغنياء عصابات لقتل الأحداث الذين ينامون في الشوارع.

وفي وسط هذا البؤس وتلك القذارة، انتعشت مئات الشرور الأخرى. فقد عادت للظهور الأمراض القديمة مثل الالتهاب الرئوي والكوليرا وحتى الطاعون الملقب ـ بالموت الأسود ـ، وانتشر إدمان المخدرات حيث يعتبر الناس ذلك هو الطريق الوحيد للهروب، ولو مؤقتا، من معاناتهم. وارتفعت معدلات الانتحار وتزايدت الجريمة حيث أن أقلية من الفقراء يرون فيها الطريق الوحيد للحصول على الثروة التي تتيح لهم تقليد الحياة الفاخرة للأغنياء التي تتباهى بها أمامهم وكالات الإعلام، وفوق كل ذلك جاء التأثير الفظيع للحرب. وقد حذر تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية بأن “السبب الرئيسي في زيادة الصراعات الداخلية في العالم هو التهديد المستمر للجوع والعنف والأمراض” ويلاحظ أن الدول، صغيرة وكبيرة، تفضل إنفاق المليارات على الأسلحة الحديثة على الاهتمام بالحاجات الضرورية للشعوب.

وبالطبع فإن الفقر والمرض والجوع والألم واليأس والإحباط لا تعد أشياء جديدة على المجتمع البشري، بل وجدت على مدى معظم تاريخه المسجل، ولكن البؤس في عالمنا اليوم يختلف، لأنه يوجد جنبا إلى جنب مع ثروة يكفي مقدارها بسهولة للقضاء على الفقر إلى الأبد. ففي 1992 كان إجمالي الناتج الاقتصادي للعالم ككل خمسة أضعاف الناتج في 1950، كما جاء في تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية. وبرغم ذلك، يظل الفقر في معظم أجزاء العالم بنفس الدرجة اليوم إن لم يكن أسوأ مما كان منذ 45 عاما. ويتواجد الجوع جنبا إلى جنب مع مخزون هائل من الأغذية، والدليل على ذلك جبال الأغذية في الاتحاد الأوروبي، وبينما تدفع الحكومات في أوروبا وأمريكا تعويضات للفلاحين حتى لا يزرعوا أراضيهم، يقال للشعوب أنه لا توجد موارد تكفي الجميع، وتغلق الشركات المصانع وتطرد العمال الذين يمكنهم إنتاج ثروات أكثر. ويقال للجماهير أنه لا يمكنهم الحصول على عمل إلا إذا عملوا ساعات أطول وبصورة أعنف مقابل أجور أقل، نجد أن هناك  في كل بلد تعيش أقلية قليلة تحيا حياة فاخرة  لم تحدث من قبل، في 1950 كان الخمس الأغنى من سكان العالم يمتلك 30% من الدخل، واليوم يمتلكون 60% من هذا الدخل، في نفس الوقت، فان الخمس الأفقر من البشر يقتسمون 4.1% فقط من إجمالي الناتج العالمي. 

وقليل من هؤلاء الذين يؤيدون النظام العالمي القائم يتوقعون أن تتحسن الأمور، وتوجد أحزاب في بلاد كثيرة، مثل حزب العمال في بريطانيا،التي وعدت ذات مرة أنها ستعمل على تحسين أحوال الفقراء بالتوظيف الكامل، والإنفاق أكثر على الرعاية الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل من الأغنياء إلى الفقراء. ولكنهم اليوم يقولون أن هذه الأفكار أصبحت “موضة قديمة”.

إن لغزا كبيرا يواجهنا، ولم تستطع أياً من الأحزاب السياسية القائمة فهمه، فبينما يتم إنتاج ثروات أكبر مما كان ينتج من قبل في التاريخ، وتوجد اختراعات تزيد من إنتاج أشياء متنوعة، شاملة أغذية أساسية حرمت منها أجيال من البشرية، ويستطيع البشر أن يقتحموا الفضاء الخارجي ويستكشفوا أعماق المحيطات، ويستطيعون استخدام الماكينات للقيام بالأعباء الضخمة أو إرسال المعلومات من جانب من العالم إلى الجانب الآخر في جزء من الثانية. ومع ذلك، بدلا من ضمان تخفيف أعباء البشرية تصبح هذه الأعباء أشد حدة، وبدلا من أن يتطلع الناس إلى حياة أكثر رغدا وراحة، غالبا ما يعيشون في خوف من أن تزداد الأمور سوءا، وبدلا من أن يختفي البؤس نجده يتزايد. 

الفصل الأول: عـالم مجـنون

1) إفلاس علم الاقتصاد:

من المفترض أن يستطيع الاقتصاديون المحترفون أن يفسروا لنا كيف نتجت كل هذه التناقضات، ومع ذلك فمن يتطلع إليهم اليوم من أجل التوضيح سوف يزول عنه هذا الوهم سريعا، فالمدرسة الرأسمالية المهيمنة اليوم في علم الاقتصاد والتي تسمى بالمدرسة الحدية أو الكلاسيكية الجديدة، والتي يدعي أنصارها أن علمهم نظام تقني “أي العلم الإنساني الذي يدرس العلاقة بين الموارد النادرة والاستخدامات المختلفة التي تتنافس علي هذه الموارد”، ترى أن الإنتاج يقوم على أساس قانون العرض والطلب، وأن الطلب يعتمد على الاختيارات التي يقوم بها الأفراد، أي الحد الذي يفضلون عنده أشياء على أخرى كما يتضح من الطريقة التي ينفقون بها أموالهم. والعرض يعتمد على تكلفة الإنتاجـ أي حجم تكلفة توظيف العمالة واستخدام الماكينات التي يعملون عليها، ويتم إنتاج سلعة ما حين تكون القيمة المضافة لاستعداد الناس فشراء هذه السلعة مساوياً للتكلفة الإضافية لإنتاجها.

ويمكن بناء صور رائعة من هذه النظريات حيث يتحرك منحنى العرض في اتجاه و يتحرك منحنى الطلب في اتجاه آخر وحيث ما يتم إنتاجه أخيراً  يعتمد على نقطة الالتقاء بينهما. والمشكلة هي أن هذه الصورة في الواقع لا تفسر شيئاً حيث أنها لا تفسر من أين يأتي العرض والطلب في المقام الأول. ففي جانب الطلب، لا يفسرون لماذا تعبر رغبات بعض الناس (أي ملاك الأراضي الأغنياء، والمليونيرات أو رؤساء الصناعات الخاصة) عن نفسها في “طلب فعال”، أي طلب تدعمه النقود الجاهزة، بينما يتم تجاهل الحاجات الضرورية لآخرين (أي العاطلون عن العمل، وأصحاب الأجور المنخفضة، والشعوب الجائعة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية). وفي جانب العرض، لا يفسرون لماذا لا يتم إنتاج الأشياء الضرورية جدا حين تكون الموارد اللازمة لها متوفرة بكثرة.

يقول الاقتصاديون الحديون أن هامش دخل الأشخاص، وبالتالي هامش طلبهم، يعتمد على الكمية التي يسهم بها كل منهم في إنتاج الثروة. ويدعون أن الأجور تدفع للناس وفقا للقيمة المضافة التي يخلقها عملهم. ولكن ذلك يثير عدة تساؤلات؛ لماذا يحصل بعض الناس على أجور عن أعمالهم أكثر بعشر مرات أو عشرين مرة من آخرين، ولماذا بعض الناس يكسبون برغم أنهم لا يعملون على الإطلاق ولكنهم فقط يملكون الثروة؟! وما العمل الذي يقوم به مالك الأسهم أو المرابي؟!

ويقول الاقتصاديون أن الإجابة سهلة على هذا السؤال، فليس العمل فقط، بل رأس المال أيضا يساهم في إنتاج الأشياء. وبالضبط كما يحصل العمل على أجر مقابل إسهامه في إنتاج الثروة، كذلك أيضا رأس المال. فكل “عنصر إنتاج” يحصل على “عائد” مساوي “لإنتاجه الحدي”.

والواقع أن هذه النظرية لا تقدم حلا ـاللهم إلا أنها تسهل على ملاك رأس المال إراحة ضمائرهم. وهي تصل بالفعل إلى الزعم بأن الأغنياء يستحقون أن يصبحوا أغنى. وهي تعتمد على تكرارية ـكأن تقول “2=2” أو “القطة هي القطة”، حيث أنه إذا وجهت السؤال للاقتصاديين عن كيف يتم قياس قيمة رأس المال فإنهم ينسبونها إلى “الناتج الحدي” الذي ينتجه رأس المال. ولكن إذا وجه إليهم السؤال عن كيفية قياس ذلك “الناتج الحدي” فإنهم ينسبونه إلى قيمة رأس المال الذي استخدم في إنتاجه. وبالتالي فإنهم ينتهون إلى القول بأن “قيمة رأس المال تساوي قيمة رأس المال” أو أن “الربح يساوي الربح”!

إن الشيء الوحيد الذي يستطيع علم الاقتصاد العقائدي قوله هو أن أشياء معينة تشترى وأشياء معينة تباع في الوقت الحالي، دون توضيح لماذا يتم إنتاج أشياء معينة ولا تنتج أخرى، لماذا بعض الناس أغنياء وبعضهم فقراء، ولماذا تتكدس بعض السلع ولا تباع بينما لا يحصل عليها من هم في أمس الحاجة إليها. كما لا يستطيع الاقتصاديون العقائديون أن يفسروا لنا لماذا يحدث الرخاء أحيانا والكساد أحيانا أخرى.

غير أن معظم هذه الانتقادات طرحت ضد علم الاقتصاد الحدي منذ أكثر من ثمانين عاما من قِبَل كل من الماركسي النمساوي رودلف هيلفردينج والثوري الروسي نيقولاي بوخارين. وطرحت مرة ثانية مؤخرا بصورة أكثر عنفا من قِبَل اقتصاديين أكاديميين منشقين اشتهروا باسم “مدرسة كمبريدج”.

وهناك سخافات كثيرة أخرى في صميم علم الاقتصاد الكلاسيكي. فنموذج السوق بالنسبة له يفترض المعرفة التامة بجميع التعاملات الاقتصادية، ليس فقط في الحاضر بل أيضا في المستقبل ـ وهو ما يعد مستحيلا. وعلى صعيد آخر، تُستخدم “نظرية المنفعة المقارنة (الحدية)” المستعارة من الاقتصادي ديفيد ريكاردو في أوائل القرن التاسع عشر لدعوة أفقر بلاد العالم إلى الحرية المطلقة للتجارة ـ ولكن النظرية الأصلية تم تطويرها عندما لم يكن لرأس المال الحرية التي يتمتع بها اليوم في التنقل من بلد إلى بلد. وهي نظرية تصر على أنه إذا لم تتدخل الدولة، سيتوازن العرض والطلب تلقائيا ـ ولكن معادلاتها، ذاتها، تبين أن الوضع على خلاف ذلك. وأخيرا، يصر علم الاقتصاد العقائدي على أنه إذا أزيلت العوامل المتعددة التي تعيق المنافسة الحرة في الواقع ـ سواء القوى الاحتكارية للشركات العملاقة أو النقابيون المدافعون عن العمل ـ فسوف تتحسن الأمور بالضرورة. ولكن علي أرض الواقع، تكشف حسابات، ذاته، أن إزالة أحد العوائق دون الأخرى يمكن أن يزيد الأمور سوءا.

وفي الحقيقة أن هذا النموذج لا يصلح مرشدا إلى ما يحدث وما يمكن أن يحدث في العالم الحقيقي، وكما أشار أحد الاقتصاديين المنشقين، بول أورميرود، في كتابه “نهاية علم الاقتصاد” أن فائدة الحكمة العقائدية في فهم الاقتصاد تعادل فائدة علم الفلك في القرون الوسطى في التنبؤ بالأحداث، لقد فشل الاقتصاديون الذين ينسبون أنفسهم إلى الأرثوذكسية تماما في التنبؤ بموجات الصعود والهبوط في الاقتصاد العالمي:

إن النشرات الاقتصادية باتت موضوعاً للسخرية العامة. فعلى امتداد العالم الغربي كانت دقتها مدهشة. فخلال العام الماضي وحده، أثناء كتابة هذا الكتاب، فشلت في التنبؤ بالركود الياباني، وقوة الانتعاش الأمريكي، وعمق الأزمة في الاقتصاد الألماني، وفوضى السوق الأوربية.

ومع ذلك يستمر تعليم هذه النظرية في المدارس، ودراستها في الجامعات وتطرح في مواجهة من يطرح إمكانية وجود بديل لنظام رأسمالية السوق الحالية. فمضمونها الأساسي، أن السوق هو الطريق الوحيد المناسب لتنظيم الإنتاج، قد تم قبوله في السنوات الأخيرة ليس فقط من قبل اليمين التقليدي ولكن من قبل القادة العالميين لحزب العمال، والاشتراكيين الديمقراطيين والأحزاب الشيوعية السابقة. وهذا القبول من الممكن تفهمه فقط إذا لم تسعي إلي تحدي أمراض هذا العالم. فهذه العقيدة تستند على التسليم بالعالم كما هو، بالأمر الواقع، بالقول بأن الأمور كما هي لأنها كما هي. ولكنها عديمة الفائدة بالنسبة لمن يرون أن حياة العالم القائم لا تطاق، الذين يريدون بديلا للأزمات الطويلة التي تتخللها فترات قصيرة من الرواج، للبطالة المتزايدة والبؤس المتفاقم، للبضائع الراكدة من جانب والناس الذين لا يستطيعون شرائها من الجانب الآخر. ولفهم هذه المشكلات نحتاج إلى وجهة نظر مختلفة. 

2) تفسير فوضى العالم

اختلفت رؤية كارل ماركس لعلم الاقتصاد كثيرا عن نظرية اليوم، فقد اهتم بعلم الاقتصاد لأنه استطاع فهم السخافات اللاإنسانية للنظام الاقتصادي الجديد ـ الرأسمالية ـ الذي كان ينمو حوله حينذاك في ألمانيا في منتصف أربعينات القرن التاسع عشر، وأدرك أن هذا المجتمع يدفع الناس فيه باستمرار إلى العمل بشكل أشد لإنتاج الثروة، ولكنهم لا يجنون أي عائد لجهودهم.وكما وضعها في 1844: 

“كلما زاد إنتاج العامل، كلما قل استهلاكه. وكلما خلق قيما أكثر، كلما أصبح أكثر انحطاطا وكلما أصبح أقل قيمة. يستبدل النظام الرأسمالي العمل بالآلات، ولكنه في الوقت نفسه يدفع قطاعا من العمال إلى أشكال همجية من العمل، ويحول القطاع الآخر إلى مجرد آلات… فهو نظام ينتج الذكاء للسادة ـ والغباء للعمال… وينتج القصور من جهةـ والأكواخ القذرة من جهة أخري. وهو ينتج الجمال، ولكنه يشوه العامل… فيشعر العامل بنفسه فقط خارج العمل، وفي العمل يشعر بغربته عن نفسه. ويشعر بوجوده عندما لا يعمل,وعندما يكون في العمل لا يشعر بوجوده.”

وبعد ذلك بأربع سنوات كتب:

“يعمل العامل كي يعيش، ولا يعتبر العمل حتى جزءا من حياته,ولكنه تضحية بحياته…فما ينتجه لنفسه ليس الحرير الذي ينسجه، وليس الذهب الذي يستخرجه من المنجم، وليس القصر الذي يبنيه. إن ما ينتجه لنفسه هو الأجر، ويعبر كل من الحرير والذهب والقصر عن نفسه بالنسبة له في كمية محددة من وسائل العيش، ربما في شكل سترة قطنية، أو بعض العملات المعدنية أو الإقامة في كوخ… والعامل الذي يظل 12 ساعة يغزل، أو ينسج، أو يثقب، ويدير الماكينات، ويبني، ويحفر، ويحطم الصخور، ويحمل الأثقال، الخ ـهل يعتبر هذه الساعات الاثنى عشر من الغزل والنسج أو الثقب أو تشغيل الماكينات أو البناء أو الحفر أو تحطيم الصخور أو حمل الأثقال مظهراً لحياته، كحياة، على العكس، تبدأ الحياة بالنسبة له عندما يتوقف هذا النشاط، على المنضدة، في المقهى، أو فوق السرير.”

تدور كتابات ماركس الاقتصادية حول كيفية ظهور هذا الشكل من المجتمع وكيف يحافظ على بقائه. كما تناولت أيضا ما يطلق عليه المفكرون الأكاديميون الرسميون “الفلسفة”، و”علم الاجتماع” و”التاريخ”. وهي كتابات لا تلقي الضوء بالأساس علي كيف تتخذ الأشياء سعرا معينا دون الآخر، ولا حتى حول متى تحدث الأزمة الاقتصادية. ولكنها كتابات حول عالم “اغتراب العمل” بالكامل ـالعالم الذي يكتسب فيه النشاط الإنساني وجودا مستقلا ويسيطر البشر على أنفسهم، عالم من العمل الدائم والبطالة، من الإنتاج الزائد والموت جوعا.

أكد ماركس في كتاباته الأولى على عبثية هذا العالم المقلوب على رأسه. والكلمة التي استخدمها لوصفه هي “الاغتراب”، وقد استعارها من الفيلسوف الألماني هيجل الذي تتسم كتاباته غالبا بالغموض إلى حد ما. ولكن ماركس نفسه اعتمد على مصادر أخرى متنوعة. فقد استفاد من نظريات خاصة بالنظام الاقتصادي الرأسمالي المذكورة في كتابات مؤسسي علم الاقتصاد الرأسمالي العقائدي مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو. واستفاد من خبرة الحركات العمالية الأولى في صراعها ضد النظام الرأسمالي، بما فيها التشارتيين في بريطانيا.

وفي الكتابات الاقتصادية التالية لماركس، خاصة في المجلدات الثلاثة من كتابه رأس المال تخلى عن كثير من اللغة الفلسفية. الأمر الذي دفع بالبعض إلى الإدعاء بأن رؤيته عن علم الاقتصاد بالكامل قد تغيرت. في الواقع كان هدف رأس المال هو تفسير الطريقة التي يتطور من خلالها عالم “اغتراب العمل” بالكامل، كقوة لاإنسانية تسيطر على البشر الأحياء. ويتضح هذا من الكراسات التي كتبها ماركس مباشرة قبل تجميع المسودة النهائية لرأس المال. وفيها كتب:

“إن السلطة التي يمارسها الرأسمالي على العامل هي سلطة الموضوع على الذات، العمل الميت على العمل الحي، سلطة المنتَج على المنتج، لأنه في الحقيقة، السلع التي تصبح وسيلة السيطرة على العامل، هي منتجات عملية الإنتاج. إنها “عملية اغتراب” عمله الاجتماعي الخاص.”

وهو يوضح نقطة أن النظام الرأسمالي يحدد كل ما يستطيع الرأسمالي الفرد أو العامل الفرد أن يفعله. ولكن بينما “..يقف العامل، كضحية، ومنذ البداية في موقف التمرد عليها ويدرك العملية على أنها استعباد له..”، فإن الرأسمالي “..منغمس في عملية الاغتراب ويجد فيها قمة الرضا…فالتوسع الذاتي لرأس المال هو الهدف المحدد والمسيطر والسائد بالنسبة للرأسمالي، هو القوة المحركة المطلقة والمكونة لنشاطه..”

3)الإنتاج والسلع

أوضح ماركس أنه لا يمكن فهم أي مجتمع إلا إذا نظرنا إلى كيف يمتلك الناس في هذا المجتمع الأشياء التي يحتاجونها للبقاء ـأى طعامهم ومسكنهم وملبسهم.لأنهم حتى يطمئنون إلى توافرها لا يستطيعون القيام بأى نشاط آخر.

ولكن الحصول على هذه الأشياء اعتمد دائما على تعاون البشر لتغيير العالم الطبيعى من حولهم. فعلى خلاف فصائل الحيوانات الأخرى، لسنا مجهزين بأسنان خاصة أو مخالب حتى نتمكن من قتل الحيوانات أو مضغ الخضراوات النيئة. وليس لنا فراء للتدفئة. والوسيلة الوحيدة حتى يستطيع البشر الحياة وحماية أنفسهم من تقلبات الطبيعة هى العمل من أجل تغيير هذه التقلبات. وكما بين ذلك إنجلز “إن العمل ليس فقط مصدر كل الثروات بعد الطبيعة، ولكنه أكثر من ذلك فهو الشرط الأساسي الأول لكل الوجود الإنسانى.” 

وتاريخيا اتخذ العمل الإنسانى أشكالا متنوعة. فلمدة عشرات الآلاف من السنين تضمن أن يعمل الرجال والنساء ويعيشون معا في جماعات من حوالى 40 فردا، يقتطفون ثمار الفواكه وجذور النباتات ويصيدون الحيوانات البرية. وكانوا قادرين على عمل ذلك دون حكام أو سيطرة الرجال على النساء. بعد ذلك، منذ حوالى 10 آلاف سنة، بدأ العمل، في أجزاء مختلفة من العالم، يشمل زراعة المحاصيل واستئناس الحيوانات. ولكن لازال تنظيم العمل لا يتضمن وجود قسم من المجتمع يعيش دون عمل بينما يكدح الآخرون. وكانت المساواة العامة بين جميع الرجال والنساء لا تزال قائمة، مع توزيع الغذاء والملابس حسب احتياجات الناس ـ وقد استمرت تلك الحياة  في أجزاء كثيرة من العالم حتى الفتوحات الاستعمارية في القرن الماضى.

وفي تلك المجتمعات لا توجد أي علامة على الطبيعة الإنسانية “الأنانية”,”والمحبة للتملك” و “التنافسية” التي نسلم بها في ظل الرأسمالية: هكذا لاحظ أحد الباحثين في أوائل القرن الثامن عشر عن مزارعى الإيروكوا:

“إذا قابلت مجموعة من الإيروكوا الجائعين مجموعة أخرى لم ينفذ بعد مخزونها بالكامل، تقتسم الأخيرة مع المجموعة الأولى القليل الذي تبقى دون أن تسألها ذلك، برغم أنهم يعرضون أنفسهم بالتالى إلى نفس مخاطر الانقراض مثل من ساعدوهم.”

ولاحظ كاهن يسوعي عن مجموعة أخرى (المونتاجنيس):

“لا يوجد الطموح والطمع في الغابات العظمى، لأنهم مسرورون بمجرد الحياة، ولا واحد منهم سلم نفسه للشيطان من أجل حيازة الثروة.”

وذكرت دراسة كلاسيكية لقبيلة الرعاة النوير في شرق أفريقيا أنه “عموما يمكن القول بأنه لا يوجد في قرية النوير من يعاني الجوع إلا إذا عانى الجميع”.

ولم يظهر الانقسام الطبقي وسيطرة الرجال على النساء في أي مكان إلا منذ 5000 عام فقط. كان ذلك نتاجا لتغيرات جديدة في الطرق التي ينتج بها الناس وسائل عيشهم، شملت الزراعة الكثيفة، واستخراج المعادن وبناء المدن الأولى. وظهرت الطبقات المستغلة التي تعيش على عمل بقية المجتمع، وأسست دولا ـفصائل دائمة من رجال مسلحين منظمين في الجيوش وقوات الشرطة ـ للحفاظ علي سلطتها وتوسيعها.

أحيانا، كما في مصر القديمة وفي ميزوبوتاميا القديمة وإمبراطورية الإنكا في أمريكا الجنوبية، استخدمت الطبقات الحاكمة القوة المباشرة للدولة للاستيلاء على الثروة التي خلقها أولئك الذين يعملون عبر فرض الضرائب. وأحيانا، في اليونان القديمة وروما، تملكت العبيد الذين قاموا بكل الأعمال. وأحيانا، كما أوروبا في القرون الوسطى، تحكمت في الأرض وأجبرت الذين يعملون فيها إما أن يعملوا لصالحهم دون مقابل أو يسلمونهم النصف أو أكثر من ناتجها. ولكن في كل الحالات كانت الأقلية تعيش من خلال إجبار غالبية المجتمع على العمل من أجلها. 

ولكن برغم ذلك، ففي كل تلك المجتمعات كان يوجد شئ واحد مشترك مع مجتمع المساواة الذي سبقها، كان هدف العمل هو تلبية احتياجات الناس المباشرة ـبرغم أن حاجات الأقلية الحاكمة كان لها الأولوية على حاجات غالبية الناس. كان العبد أو الفلاح أو الحرفي يكدح لإنتاج منتجات تستخدم مباشرة إما لأنفسهم أو لأولئك الذين يعيشون على حسابهم. لذا فلو أكل مالك العبد أكثر من اللازم بكثير أو بنى لنفسه قصرا أو مقبرة مغالية في فخامتها، لن يتبقى لدى العبد ما يكفي لمعيشته وسيعاني من الجوع. وإذا كان المحصول سيئا في أحد المواسم وأصر السيد الإقطاعي على استمراره في نمط الحياة الفاخرة فسوف يتعرض الفلاح القن للمجاعة. ولكن كان من المستحيل أن يأتي وضع يتعرض فيه الناس للجوع، كما في النظام الحالي، بسبب فائض الإنتاج. فقد كان الإنتاج يتم من أجل الاستهلاكـحتى لو كان إلى حد كبير لاستهلاك طبقة واحدة تستغل الآخرين. ولهذا السبب اتبع ماركس اقتصاديين آخرين في تسميته بإنتاج “القيم الاستعمالية”.

ومع ذلك ففي المجتمع الرأسمالي الذي نعيش فيه اليوم فإن القليل جدا يتم إنتاجه للاستهلاك المباشر، فعمال السيارات لا ينتجون العربات لاستهلاكهم الخاص الفوري، أو حتى للاستهلاك الفوري لمديرهم. إنهم ينتجون السيارات حتى يتمكن صاحب عملهم من بيعها لشخص آخر. ونفس الشىء ينطبق على عامل الصلب وصانع الأحذية وفني التصوير ومبرمج الكمبيوتر أو ينطبق في واقع الأمر علي أي شخص يقوم بعمل مقابل أجر. فمن الممكن مثلا أن تقضي حياتك كلها في صناعة المسامير، فتنتج عشرات الآلاف منها يوميا بالعمل على آلة. ورغم ذلك فمن المحتمل أن لا تستهلك منها شخصيا أكثر من مئات قليلة. 

إن الأشياء تنتج لكي تباع. إنها “سلع”  يجب أن تبادل مقابل النقود قبل أن يحصل المنتجون على أي فائدة من جهدهم. وبالطبع في النهاية يجب أن يكون للبضائع فائدة. ولكن يجب أن يتم تبادلها أولا. 

لذا فالأشياء في ظل الرأسمالية لها خاصية غريبة، فقبل إمكانية استخدامها، أي أن تكون “قيما استعمالية” يجب أن يتم تبادلها مقابل النقود والتي يمكن في المقابل تبادلها ببضائع أخرى. ويتم قياس قيمتها حسب الثمن الذي تحصل عليه عند مبادلتها. فالمهم هو “القيمة التبادلية” ـكم من النقود، وبالتالي كم وحدة من البضائع الأخرى، يمكن الحصول عليها مقابل سلعتك. 

ومن خلال التبادل، تنشأ الصلة بين الجهد المبذول من فرد ما وبين جهد ملايين من الأفراد الآخرين عبر النظام العالمي ويتضح ذلك عندما تنظر إلى ما نشتريه بالنقود التي نحصل عليها مقابل ما ننتجه بأنفسنا. 

4) العمل والثروة

بدأ الاقتصاديون السابقون على ماركس في تقديم رؤية لهذا النظام. وأرجعوا إلى ما أطلقوا عليه “اليد الخفية” ارتباط أنشطة الناس ببعضها.وقد لاحظوا أيضا شيئا آخر وافق عليه ماركس، وهو أن كل السلع تشترك في خاصية واحدة ـأنها جميعا من منتجات العمل البشري.

تساءل ماركس في رأس المال عما يشترك فيه شيئان مختلفان تماما يتكلفان نفس الكمية من النقود، علي سبيل المثال زوج من الجوارب ورغيف من الخبز. بالطبع ليس خصائصهما المادية، فهما يختلفان من ناحية الوزن، ومصنوعان من مواد مختلفة، ولهما شكلان مختلفان وهكذا. استخدامنا لهما. فبالطبع نحن لا نرتدي رغيف الخبز ولا نأكل الجوارب.إن المقارنة بين الاستخدام النهائي لرغيف الخبز بالاستخدام النهائي للجوارب تشبه المقارنة بين وزن الفيل ولون السماء، إنهما شيئان مختلفان تماما. بدلا من ذلك، نادى ماركس بأن ما يشترك فيه الاثنان هو كمية العمل التي تستخدم لإنتاجهما. والأكثر من ذلك، فهذا العمل فعليا هو ما يحدد قيمتهما.

من الأسهل فهم ذلك عندما ينتج الأفراد للتبادل فيما بينهم. ربما يصنع النجار منضدة ويبادلها ببدلة ينتجها الخياط ـولكنه لا يفعل إذا استطاع صناعة بدلة بنفس الجودة في وقت أقل مما يحتاجه في صناعة المنضدة. فهو يعتبر أن البدلة تساوي على الأقل نفس عدد الساعات من العمل الذي تساويه المنضدة.

وينطبق نفس المبدأ عندما يصنع الناس أشياء ويبيعونها مقابل النقود. فالنجار يبيع المنضدة التي تستغرق صناعتها أربع ساعات مثلا مقابل مبلغ من  المال يمكنه من شراء شئ آخر يستغرق أربع ساعات في صناعته. إن سعر المنضدة يعبر عن كمية من العمل استهلكت في صناعتها. وطبعا لن يكون كل النجارين بالمهارة الكافية للقيام بالعمل المطلوب في أربع ساعات، فبعضهم  سيستغرق ضعف الوقت (كما بالنسبة لي إذا حاولت صناعة منضدة). لكن لن يبدي أحد استعداده لأن يدفع لهم ما يعادل ثماني ساعات عمل مقابل المنضدة، حين يوفرها آخر مقابل ما يعادل أربع ساعات عمل. إن سعر المنضدة لا يعبر عن كمية العمل التي يقوم بها فرد محدد، ولكن كمية العمل الضرورية لفرد متوسط المهارة.

وخلال التبادل، يقارن كل عمل فردي باستمرار بالعمل علي مستوى النظام ككل، أو كما وضعها ماركس، يقاس “العمل المتجسد” لكل فرد كحصته من “العمل الاجتماعي” للمجتمع ككل.

لم يبتدع ماركس الرأي القائل بأن العمل هو المصدر الوحيد للقيمة. فذلك كان مقبولا علي الأقل جزئيا، لدي كثير من الاقتصاديين الأوائل الذين انتموا إلي النظام الرأسمالي الصاعد، من جون لوك في أواخر القرن السابع عشر، وحتى آدم سميث في القرن الثامن عشر إلي ديفيد ريكاردو في أوائل القرن التاسع  عشر. هكذا جادل آدم سميث:

إن السعر الحقيقي لأي شئ، أي التكلفة الفعلية التي يتحملها من يريدون حيازته، هو الكد والتعب لحيازته…إنه ليس الذهب ولا الفضة، ولكنه العمل، إن كل ثروة العالم كانت أصلا مشتراة، وقيمتها بالنسبة لهؤلاء الذين يمتلكونها ويريدون مبادلتها بشىء آخر، هي بالضبط مساوية لكمية العمل التي تمكنهم من الشراء أو السيطرة، ولكن المدافعين عن الرأسمالية المؤيدين “لنظرية العمل في القيمة” اندفعوا دائما في مشكلة كئود. فلو أن العمل هو مصدر القيمة، فكيف يأتي الربح؟ لو أن جميع السلع يتم تبادلها حسب كمية العمل المتضمنة فيها، إذن فيجب أن يكون كل من في المجتمع علي قدم المساواة بدرجة أو بأخرى. ربما يختار البعض أن يعمل لمدة أطول، وبالتالي يجنون ثروة أكثر قليلا، مع وقت فراغ أقل قليلا ولكن يجب أن يعيش الناس حياة مرضية بالتساوي. ومرة ثانية ربما يكون البعض أقل مهارة فيخسرون في البداية، ولكن مع الوقت سوف يمكنهم اللحاق بالآخرين. أذن فمن أين يأتي الربح المنتظم؟ بالقطع يستطيع الأفراد تحقيق أرباح من خلال خداع الآخرين. ولكن ذلك لا يفسر كيفية وجود طبقة كاملة من الأغنياء ـوبالطبع، في ظل الرأسمالية الحديثة فإن كل من يبيعون السلع تقريبا أغنياء. 

وكما أوضح ماركس:

“إن طبقة الرأسماليين ككل لا يمكنها أن تثرى نفسها كطبقة، فلا يمكنها زيادة إجمالي رأس المال الذي تمتلكه من خلال كسب أحدهم لما يخسره آخر. إن الطبقة ككل لا يمكنها خداع نفسها.”

ولكن إذا لم يكن الرأسماليون يحصلون أرباحهم من بعضهم البعض، إذن فمن الضروري أن هناك مصدر آخر لأرباحهم. ولكن من أين؟

وبالفعل، حاول آدم سميث منذ مائة عام تقريبا قبل ماركس، تفسير الربح من خلال المزج بين نظريته للعمل كمصدر للقيمة مع نظرية أخرى ترى أن رأس المال يضيف إلى القيمة بإنتاج “عائد”.

ويشير سميث إلى أن بعض أشكال رأس المال ـمثل الآلات، ومباني المصانع وهكذا ـتجعل العمل أكثر إنتاجية من المتوقع في ظروف أخرى، حتى الأداة الأكثر بدائية تضيف إلى إنتاجية البشر بصورة هائلة: يستطيع العامل باستخدام الرافعة تحريك وزن أكبر بكثير بجهد أقل من عامل يحمل الأثقال على ظهره. ولكن الآلات ومباني المصانع ليست أشياء توجد من تلقاء نفسها. إنها منتجات العمل الإنساني السابق. والرافعة التي تساعد العامل نفسها نتاج لكد عامل التعدين. لهذا السبب أطلق ماركس على وسائل الإنتاج “العمل الميت” (في مقابل العمل الحالي، الذي أطلق عليه “العمل الحي”).

تظل قيمة السلع عند البيع تعتمد على العمل المتضمن فيها، مع أن جزءا من هذا العمل عمل أُنجز من قبل وليس عملا حاليا. وإذا ادعى الرأسمالي بأنه يجب أن يحصل على عائد مقابل الاستثمار في المصانع أو الميكنة، فيجب أن نسأل كيف استحوذ على هذا المصنع أو تلك الآلات، ولم يحوزه أولئك الذين أنتجوه من كدهم. وفوق ذلك، لا يمكن للآلة أن تضيف إلى قيمة أي شئ دون أن يديرها العمل الحي. فالآلة وحدها لا يمكنها عمل شئ. إنه العمل الإنسانى الذي يدير الماكينة هو ما يجعلها تنتج سلعا جديدة، مع قيمة زائدة.

فالبشر يستطيعون أن ينتجوا بدون الماكينة، ولكن الماكينة لا تستطيع إنتاج أي شئ دون أن يديرها الإنسان.

إن واقع  العمل الإنساني هو الذي يحدد القيمة التبادلية للأشياء بصورة مطلقة يتضح مما يحدث مع التقدم التكنولوجي الحديث. فقد انخفضت أسعار منتجات كانت مرتفعة جدا من 20 أو 30 عاما حيث قلل التقدم التكنولوجي من كمية العمل الضرورية لإنتاجها، برغم أن الآلات المستخدمة في إنتاجها غالبا ما أصبحت أغلى وأكثر تعقيدا. هكذا فآلة الجمع الميكانيكية كانت تكلف 40 أو 50 جنيه إسترلينى في الستينات (أي ما يعادل 400 أو 500 جنيه إسترلينى بسعر العملة اليوم)، ولكن اليوم من الممكن شراء الآلة الحاسبة الإلكترونية ذات إمكانيات أكبر مقابل 1 أو 2 جنيه إسترليني، ونفس الشيء، كان الكمبيوتر متوسط الإمكانيات تصل تكلفته إلى نصف مليون جنيه إسترلينى حينذاك، والآن من الممكن الحصول على نفس الكمبيوتر مقابل 600 أو 700 جنيه إسترلينى.

إن البضائع التي لم ينخفض سعرها بهذه الطريقة هي البضائع التي ما زالت تتطلب تقريبا نفس كمية العمل لإنتاجها كما في الماضي ـأي السيارات، الأغذية والمشروبات، الطوب والمدافع الثقيلة، وكثير من الملابس.

5) الأرباح والاستغلال

أصبحت فكرة أن العمل مصدر كل القيم، بما فيها تلك التي تعود على الرأسمالي في صورة الربح، والفائدة والإيجار، تدعو للقلق بازدياد بالنسبة لمبرري النظام الرأسمالي بعد زمن آدم سميث. لقد تضمنت أن الرأسماليين كانوا طفيليين بالضبط كما كان الإقطاعيون الذين حلوا محلهم. دفع هذا الاقتصاديين من مناصري الرأسمالية إلى تطوير نظريات تستند إلى “التضحية” تفسيرا للأرباح. ويدعون الآن أن الأرباح عائد يحق للرأسمالي مقابل استخدام ثروته في توظيف عمالة بدلا من استهلاكه الفوري الخاص.

ولكن ذلك، كما أوضح ماركس، محض هراء. فتوظيف الناس يتضمن شراء عملهم، لو أن الرأسمالي يحصل على الربح مقابل ذلك، إذن فيجب أن يحصل أي شخص آخر يشتري شيئا ما على أرباح. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يحصل العمال على ربح مقابل شرائهم للأشياء التي يحتاجونها للمعيشة؟

إن نظرية ‘التضحية’ هي محض خرافة. فالرأسمالي لا يضحي بثروته الحالية عندما يستثمرها. والحقيقة، إن استثماره لها يحفظ قيمتها، بينما تكون الأرباح شيئا إضافيا يحصل عليه دون عمل. وهكذا إذا كانت معدلات الأرباح 10% (وهو رقم منخفض تماما حسب المستويات الرأسمالية)، سيستطيع شخص يمتلك مليون جنيه قابلة للاستثمار أن ينفق 100,000 جنيه سنويا (أي 2000 جنيه أسبوعيا) علي متعته الخاصة وتظل قيمتها كما هي في نهاية السنة ـويحصل علي 100,000 جنيه أخرى في السنة التالية بدون عمل. وعلي العكس فحتى لو أن العامل الذي يحصل علي متوسط أجر عام 1995 كان قادرا، بمعجزة، أن “يحرم” نفسه تماما من الطعام، والمسكن والملبس، فسوف يستغرق 80 سنة لكسب ما يكفي للقيام بهذا الاستثمار.

يشدد ماركس علي أن ما يحدث فعلا هو أن الرأسمالي يمكنه تحقيق الأرباح من خلال الاستيلاء علي جزء من عمل العمال، بالضبط كما كان مالك العبيد يستمتع بحياة الرفاهية عن طريق إجبار العبيد علي الكد لصالحه، وكما كان السيد الإقطاعى يملأ بطنه بإجبار الفلاحين علي العمل في أراضيه دون مقابل. الفرق الوحيد هو أنه لم يكن هناك ما يخفي علي العبيد أو فلاحي القرون الوسطي مجمل الحقيقة القاسية بأن منتجات عملهم يستحوذ عليها آخرون. لقد كانوا يعرفون ذلك لأن شخص ما كان يقف وراءهم بالكرباج أو العصا.

وعلي العكس، يبدو أن هناك تبادلا عادلا ومتكافئا بين العامل والرأسمالي في ظل النظام الحالي. يبيع العمال عملهم مقابل مبلغ من المالـأي أجورهم، وما يحصلون عليه يعتمد علي السعر الجاري لعملهم ويشبه كثيرا ما يحصل عليه البقال مقابل البيض والذي يعتمد أيضا علي السعر الجاري. فيبدو أن هناك”عمل يومي عادل مقابل أجر يومي عادل”.

ولكن هذا التبادل “العادل” في الظاهر بين العامل والرأسمالي يخفي عدم مساواة جوهرية فيما بينهما. فكل منهما لديه القدرة علي العمل (برغم أن الرأسمالي لا يضطر إلي استخدام هذه القدرة). ولكن فقط أحدهما، أي الرأسمالي، هو الذي يسيطر علي الأدوات والمواد الضرورية لاستمرار العمل. ولكن إذا لم يكن لدي الناس الحق في استخدام الأدوات والأرض فانهم يواجهون الخيار الصعب بين الجوع أو العمل لدي أولئك الأفراد الذين يمتلكونها. 

وكما أشار آدم سميث:

“في الوضع الأصلي للأمور، الذي يسبق كلا من الاستحواذ علي الأرض وتراكم المخزون، فان كامل إنتاج العمل كان يخص العامل…لكن بمجرد أن تحولت الأرض إلى ملكية خاصة، يطالب مالك الأرض بحصة من المنتج…”

“إن منتج العمل الإجمالي عرضة لخصم مماثل من الربح…وفي كل المصانع يكون الجزء الأكبر من العمال في حاجة إلى السيد ليقدم لهم مواد عملهم. وهو يقتسم معهم منتج عملهم.”

وان ما كان صحيحا في أيام آدم سميث، عندما كان الكثير من الفلاحين والحرفيين المستقلين لازالوا يمتلكون وسائل عيشهم الخاص، أصبح أكثر صحة مائة مرة اليوم. إن جميع وسائل إنتاج الثروةـ أي المصانع، والماكينات والأراضي الزراعيةـ في أيدي عدد صغير من الناس. ففي بريطانيا على سبيل المثال، تسيطر 200 شركة كبرى، يديرها مجموعة مغلقة من حوالي800 مدير، علي وسائل إنتاج تنتج ما يزيد عن نصف الناتج القومي. وليس للكتلة الهائلة المكونة من 24 مليون عامل في بريطانيا خيار إلا محاولة العمل لصالح هؤلاء. لا ينطبق ذلك فقط علي العمال اليدويين الذين يطلق عليهم عادة “الطبقة العاملة بل أنه ينطبق أيضا علي كثير من الموظفين ذوى الياقات البيضاء الذين يعتبرون أنفسهم “طبقة وسطي”. فموظفي الأرشيف، ومشغل الكمبيوتر، وصغار المحررين في المجلات والجرائد أو بائعي المجلات جميعهم مضطرون إلي بيع قوة عملهم بنفس القدر مثل عمال السيارات أو عمال المواني.

وقليل جدا من الناس، الذين يتركون المدرسة أو يستغنى عنهم في العمل، يستطيعون أن يقيموا مشروعات خاصة. فالبديل الوحيد لمحاولة بيع عملهم للشركات التي تمتلك المصانع والمكاتب هو محاولة العيش على القدر الضئيل الذي يوفره نظام الرعاية الاجتماعية. وحتى هذا القدر الضئيل يستمر في النقصان من قبل الحكومات التي تتحدث عن الحاجة إلى إعطاء الناس “حافزا” على العمل.

والحقيقة القاسية هي أن الجمهور الأعظم من السكان لا يمكن أن يحظى بحياة شبه لائقة إلا إذا كانوا مستعدين لبيع عملهم لهؤلاء الذين يسيطرون على وسائل الإنتاج. ربما كانوا أحرارا بمعنى أنهم غير مجبرين على العمل لدى شركة أو رأسمالي محدد واحد. ولكن لابد لهم من السعي للعمل لدى شخص ما.

وكما بين ماركس، “يستطيع العامل أن يترك الرأسمالي الفرد الذي استأجره عندما يشاء…ولكن العامل الذي يمكنه العيش فقط عن طريق بيع قوة عمله، لا يستطيع أن يترك كل طبقة المشترين، أي الطبقة الرأسمالية، دون أن يتخلى عن وجوده. إنه لا يخص هذا البرجوازي أو ذاك، ولكنه يخص الطبقة البرجوازية ككل”.

ربما لا يكون العامل عبدا، أي ملكية شخصية لرأسمالي معين. ولكنه “عبد مأجور”، مجبر على الكد لصالح أحد أعضاء طبقة الرأسماليين. يضع ذلك العامل في موقف يضطره إلى قبول أجر أقل من الناتج الإجمالي لعمله. إن قيمة الأجر في ظل الرأسمالية لا تصل أبدا إلى قيمة العمل الذي يقومون به بالفعل.

6) من أين يأتي الربح؟

في لغتنا اليومية غالبا ما نقول أن العمال يحصلون علي أجر “مقابل عملهم”، ولكن ماركس أوضح أن عبارة “عملهم”تعني شيئين مختلفين. إنها تعني”العمل الذي يقومون به”، ولكنها أيضا تعني”قدرتهم علي العمل” ـوالتي اختصرها إلى “قوة العمل”.

وهذان المعنيان مختلفان تماما. فقدرة الناس علي العمل تعتمد علي توفير الطعام الكافي، والمسكن، والملبس وكذا وقت الراحة الذي يمكنهم من الذهاب إلي العمل كل يوم بحيوية كافية للقيام بالجهد المطلوب والانتباه الكافي للمهام التي تواجههم. ولو لم يحصلوا علي أجر كافي لشراء هذه الأشياء، سيكونون عاجزين جسمانيا عن العمل.و كما لاحظ أدم سميث:

“يوجد حد أدني معين من المستحيل بعده تخفيض الأجر العادي لأقل نوعية من العمل لمدة طويلة. فيلزم أن يعيش الإنسان دائما من خلال عمله، ويجب أن يكفي أجره للإبقاء عليه. بل يجب حتى في معظم الأحوال أن يزيد إلى حد ما، وإلا سيكون مستحيلا بالنسبة له إعالة أسرته وجنس العمال لن يستطيع البقاء أكثر من الجيل الأول.”

وبالضبط، فما يعتبر ” كافيا ” بالنسبة للعمال يعتمد على العمل الذي يقومون به والظروف العامة في المجتمع الذي يعيشون فيه. لذلك، فالعمال اليوم في أوروبا الغربية، والولايات المتحدة واليابان وحتى كوريا الجنوبية يتوقعون عامة الحصول على غذاء أفضل، ومسكن وملبس أفضل، ووقت راحة أطول مما كان يتوقعه عمال مانشستر الذين قابلهم إنجلز في منتصف أربعينات القرن التاسع عشر ـ وأيضا يتوقعون حياة، أفضل من حياة كثير من العمال الهنود والأفارقة اليوم. ويعرف صاحب العمل الأبعد نظرا أحيانا أنه يجب أن يوفر لعماله حد أدنى معين إذا أراد منهم أن يعملوا بصورة أكثر إنتاجية، بالضبط كما يعرف الفلاح الماهر أنه يجب عليه أن يطعم بقراته بما يكفي من العلف إذا أراد أن يحصل على إنتاج أعلى من اللبن. وكما جاء في تقرير نشرته جريدة الفايننشال تايمز في يناير 1995: “.. يدرك العديد من المديرين أنه لو لم يحصل موظفوهم وعمالهم على إجازاتهم ويستطيعون الحياة خارج العمل سوف يفشلون في العمل بكفاءة..”. وأعلن أحد الشركاء في شركة محاسبة بريطانية هامة “..أننى أصر على أن يحصل الموظفون على إجازاتهم وإلا سيصبحون أقل إنتاجية”.

وبالطبع، لا يرى كثير من رجال الأعمال الأمور بهذه الصورة، فهم يمتعضون لكل بنس ينفقونه على الأجور ولكل دقيقة لا يكدح فيها العمال لصالحهم. والعمال بالتأكيد لا يعتبرون أجورهم فقط وسيلة لتمكنهم من العمل لصالح أصحاب الأعمال، وإنما يعتبرونها كشىء يمنحهم الفرصة لشراء ما يريدونه ـعبوات قليلة من البيرة، أو سيارة مستعملة، أو لعب للأطفال، أو توفير نفقات رحلة  لمدة أسبوعين، لهذا السبب يوجد دائما الصراع بين أصحاب الأعمال والعمال، حيث يحاول أصحاب الأعمال تخفيض الأجور إلى ما دون الحد الأدنى الضرورى لإعالة أسر العمال ويحاول العمال أن يرفعوا أجورهم فوق هذا الحد ليمنحوا أنفسهم “..وقت فراغ أطول قليلا وقليل من بعض السلع الفاخرة..”.

ولكن الواقع في ظل الرأسمالية اليوم، بنفس القدر، تماما كما كان في أيام ماركس، هو أن جماهير العمال اليدويين وعمال الياقات البيضاء يتم استنزافهم جسديا أو ذهنيا أثناء العمل وينفقون أموالهم على أشياء لا تقدم إلا القليل لإعادة استعدادهم إلى مواصلة العمل في اليوم التالى أو الأسبوع التالى. فنحن قلما نرى عمالا يدويين أو مكتبيين كثيرين لا يبدو عليهم التعب عندما يتكدسون في الأتوبيسات أو القطارات إلى العمل في الصباح، أو عندما يتكدسون فيها مرة ثانية للعودة إلى البيت في المساء.

ويعتمد تحديد الأجر أو المرتب الذي يحصل عليه العامل على تكلفة تجديد هذه القدرة عل العمل ـأى تكلفة تجديد “قوة العمل”. لو أن الأجور قليلة جدا، فلن يستطيع العمال العيش ولن يستطيع الرأسمالى الحصول على أقصى إنتاج ممكن بالقدر الذي يريده. ومن ناحية أخرى، لو كانت الأجور أعلى من تكلفة تجديد قدرة العمال على العمل، سيبذل صاحب العمل كل ما في وسعه لاستبدالهم بعمال آخرين أرخص منهم.تماما مثل أي سلعة أخرى تباع وتشترى، تعتمد قيمة قوة عمل العامل على كمية العمل الضرورى لإنتاجها. هكذا، فهى تعتمد على كمية العمل الذي يستهلك في إنتاج الغذاء الضرورى للحفاظ على لياقة العامل وصحته واستعداده للعمل، أى الكمية الضرورية لتوفير ثلاث وجبات في اليوم، وكذا وسيلة المواصلات التي تنقله إلي العمل، ووقت قليل للراحة في المساء والعطلة الأسبوعية، بالإضافة إلي تربية أطفاله الذين سيصبحون الجيل الثانى من العمال. ولكن كمية العمل الضرورية لإنتاج السلع التي تجعلك لائقا وقادرا على العمل ليست نفس الكمية التي تستطيع فعليا القيام بها بمجرد أن تبدأ في العمل، وربما تحتاج إلى أربع ساعات عمل من إجمالي العمل الاجتماعي لإنتاج الطعام والسكن والملبس لعائلتك. ولكنك تحت الضغط، يمكنك أن تعمل لمدة ثمانية أو عشرة أو حتى أثنى عشر ساعة يوميا. وسوف يرفض الرأسمالي أن يدفع لك أجرك لو لم تفعل ذلك. 

إنه يدفع لك السعر الجارى لقوة عملك، ولكنه يحصل منك على عمل يوم كامل وهذا يساوى أكثر كثيرا من السعر الجارى لقوة العمل في اليوم، لذلك فأنك تحتاج إلى العمل لمدة أربع ساعات لإنتاج السلع التي تعيش عليها ولكنك تعمل لمدة ثمانى ساعات، إذن فالرأسمالى يستحوذ على أربع ساعات عمل يوميا منك بدون مقابل. فلأنه يتحكم في وسائل الإنتاج يستطيع أن يسرق فائضا من أربع ساعات عمل يوميا،هذا الفائض أطلق عليه ماركس “فائض القيمة” مصدر الربح والفائدة والإيجار.

يقتنص الرأسمالى هذه القيمة من العامل كل يوم، وبعمله هذا يضع نفسه دائما في موقف يمكنه من اقتناص فائض قيمة أكبر. لأن فائض القيمة يمنحه الوسيلة التي تمكنه من الحصول على وسائل إنتاج جديدة وإجبار العمال على العمل العبودي لصالحه في المستقبل.

وبعد كل هذا يدعى الرأسماليون أنهم يصنعون معروفا للعمال بالسماح لهم بالعمل. يدعون أنهم هم “مقدمو العمل”، كما لو أنه لا يمكن للعمل الاجتماعى أن يتم دون السرقة التي يقومون بها أولا. وبعض الناس داخل حركة الطبقة العاملة أغبياء بما يكفي لاعتبارهم “شركاء في الإنتاج”، كما لو أن مالك العبيد “شريك للعبيد أو أن السيد الإقطاعى “شريك” للقن. 

والواقع أنه في كل مرة يعمل العامل يضيف إلى السلطة التي يمارسها الرأسمالى، ويظل هذا صحيحا حتى لو سمحت الظروف بتحسين مستوى معيشة العمال. وكما أوضحها ماركس في رأس المال: 

بالضبط، كما أن الغذاء الأفضل واللبس والمعاملة الأفضل لا تعوض العبد عن استغلاله، فإنها لا تنفي استغلال العامل المأجور، كما أن ارتفاع سعر العمل يعنى فقط أن طول ووزن السلسلة الذهبية التي صاغها العامل المأجور لنفسه تسمح بتخفيف التوتر الذي يعانيه منه.. 

يمكن هذا الرأسماليين من تركيز الآلات والمصانع والمواد الخام الضرورية لإعادة الإنتاج في أيديهم. يستطيعون حينئذ التظاهر بأنهم “خالقى الثروة” وأنهم هم الذين “يوفرون العمل” للآخرين ـوالحقيقة أن كل ما يعملونه هو سرقة ناتج عمل الآخرين ـثم يمنعون استخدامه لإعادة الإنتاج إلا إذا سمح لهم بالسرقة مرة أخرى.

7) النهب وصعود الرأسمالية 

نحن اليوم نسلم بديهيا بعملية بيع وشراء قوة العمل ويبدو ذلك طبيعيا مثل شروق الشمس وغروبها، ومع ذلك، فلم يكن ذلك، في أي مكان أكثر من ظاهرة باهتة منذ مئات  قليلة من السنوات. في أوروبا في أواخر العصور الوسطى أو في أفريقيا أو أسيا في عصر الاستعمار الأوروبى في القرنين الثامن والتاسع عشر كان لدى معظم الناس حقا مباشرا في وسائل إنتاج حياتهم حتى لو اضطروا إلى تسليم جزء من إنتاجهم إلى إقطاعى طفيلى. كان الفلاحون يزرعون غذاءهم في أراضيهم. والحرفيون ينتجون البضائع في ورشهم الصغيرة الخاصة بهم.

ولكن السرقة الهمجية هى التي غيرت ذلك ـاستخدام القوة لتجريد جماهير الناس من أى سيطرة على وسائل الإنتاج، وتم هذا بواسطة قوة الدولة وتحت وصاية بعض المجموعات الأكثر تميزاً في المجتمع.

هكذا في إنجلترا وويلز، مثلا، كان صعود الرأسمالية مصحوبا “بالحجوزات” ـوهى سلسلة من الإجراءات البرلمانية التي طردت الفلاحين من الأراضى المشاع التي كانوا يزرعونها لمئات السنين. وتم تمرير قوانين أخرى ضد “التشرد”،  وهي التي أجبرت الفلاحين منزوعى الملكية على البحث عن عمل مقابل أجر يمكن الحصول عليه. وكان “للتطهيرات” في اسكتلندا نفس الأثر حيث طرد اللوردات صغار المزارعين من الأرض واستبدلوهم بالأغنام وبعد ذلك بالغزلان.

وبعد أن اقتطع الحكام البريطانيين إمبراطورية لأنفسهم في بقية العالم، اتخذوا إجراءات لإنتاج نفس الانقسام بين جماهير الناس من خلال عملية السيطرة على وسائل كسب المعيشة. وعلى سبيل المثال في الهند منحوا الملكية الكاملة للأرض لطبقة الزيمندار العليا المتميزة فعلا. وفي شرق وجنوب أفريقيا عادة ما أجبروا السكان على دفع مبلغ محدد من المال، ضريبة الرأس، والتي لا يمكنهم تدبيرها إلا إذا أرسلوا بعض أفراد عائلاتهم للبحث عن عمل لدى ملاك المزارع الأوروبيين أو رجال الأعمال. وفي أمريكا الشمالية والكاريبى عندما وجدوا أنهم لم يستطيعوا إجبار السكان المحليين لأن يصبحوا عمال مأجورين “أحرار”، استوردوا ملايين العبيد بعد اختطافهم من غرب أفريقيا لتوفير الأرباح التي يريدونها.

وقد أطلق ماركس على هذه العملية من خلق شروط نمو الإنتاج الرأسمالى “التراكم البدائى لرأس المال”. وقد تضمنت أمرين ـ من ناحية، تركيز الثروات الضخمة في أيدى الطبقة الرأسمالية، ومن ناحية أخرى “تحرير” جماهير السكان من أى سبيل للسيطرة علي وسائل إنتاج معيشتهم.

وبمجرد أن وطدت الرأسمالية نفسها، دفعت ميكانيزماتها الاقتصادية الخاصة هذه العمليات أكثر إلى الأمام، هكذا ففي بريطانيا، في أواخر القرن الثامن عشر كان لازال يوجد مئات الآلاف من النساجين اليدويين الذين كانوا يعملون لدى أنفسهم في نسج القماش للبيع. وخلال 50 عاماً تم إخراجهم من سوق العمل من قبل الشركات الرأسمالية التي تستخدم النول الكهربائى. وفي أيرلندا في أربعينات القرن الثامن عشر تسببت مجاعة فظيعة نتجت عن مطالبة الفلاحين الجائعين بدفع الإيجار إلى ملاك الأرض (معظمهم بريطانيين) ـ حتى بعد فشل محصول البطاطسـإلى موت مليون شخص من الجوع ومليونا آخرين هجروا أراضيهم بحثا عن عمل في بريطانيا والولايات المتحدة.

تكررت هذه القصة عدة مرات منذ ذلك الوقت. ففي أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية دفعت الضغوط “الاقتصادية” العاديةـالتي تساندها إجراءات البوليس ضد من لا يستطيعون تحمل الإيجار ـملايين من الناس لترك ممتلكاتهم الصغيرة للبحث عن عمل في المدن الكبرى، وغالباً لم تنجح محاولاتهم. وهناك لم يكن لهم خيار إلا الكد مقابل أى أجر يمكنهم الحصول عليه. فبمجرد أن توطد الرأسمالية نفسها تماماً في أى جزء من العالم، تقل حاجتها إلى استخدام القوة المباشرة لإجبار الناس على العمل. ومع الوقت ينسى الناس أنهم كان باستطاعتهم كسب عيشهم دون العمل لدى الآخرين. ويبدأوا في التسليم بطبيعة العلاقة بين العامل وصاحب العمل. وفي الأغلب يقبلون الإدعاء الرأسمالى الذي يحرف واقع عبودية الأجر وراء مقولة أن الرأسماليين “يوفرون العمل”. وتدريجيا يختفي واقع الاستغلال ـاستغلال الأقلية التي تستحوذ على القيمة التي يخلقها الأغلبية ـ عن الرؤيا.

وفي هذا السياق استخدم ماركس اصطلاح ” صوفية البضاعة” لتعريف مثل هذا الموقف. يوضح أن الناس يخطئون بالنظر فقط إلى ما يحدث في السوق الرأسمالى، دون النظر إلى العلاقات الإنسانية الحقيقية التي يقوم عليها. والنتيجة هى انعدام وجود أى طريقة أخرى مرئية لتنظيم الأمور.

8) ديناميكية الرأسمالية

يقول تونى بلير، أحد قيادات حزب العمال البريطاني، أن الماركسية قد انتهى زمنها، لأنها كما يدعى لا تفسر “دينامية” “اقتصاد السوق”.

هذا الادعاء يوضح جهل تونى بلير بأفكار ماركس، لأن تحليل ماركس الشامل للرأسمالية يقوم على فهمه لدينامية النظام، أي لعدم قدرة الرأسمالية على التوقف لتحويلها المستمر للإنتاج ولحياة من يعملون داخل النظام.

ولقد أكد البيان الشيوعى الذي كتبه ماركس وإنجلز في 1848 علي هذا الفهم:

“خلقت البرجوازية، خلال سنوات حكمها الأقل من مائة عام، قوى إنتاج هائلة وأكبر بكثير من كل الأجيال السابقة مجتمعة.”

فقد تم تكثيف التحول المستمر للصناعة في ظل الرأسمالية:

“لا يمكن للبرجوازية أن تستمر دون التثوير المنتظم لوسائل الإنتاج.. إن التثوير المنتظم للإنتاج يميز عصر البرجوازية عن كل العصور السابقة.”

وفي رأس المال يرى ماركس الاندفاع المستمر لبناء صناعة أكبر كطابع مميز في الرأسمالية:

“يجبر الرأسمالي بإصراره الهوسى على التوسع الذاتى للقيمة، بعناد، الجنس البشرى على الإنتاج من أجل الإنتاج… التراكم من أجل التراكم، والإنتاج من أجل الإنتاج.”

ويبين كتاب رأس المال كيف أن هذا الهوس الأًصيل بالتراكم ينتج عن الطبيعة الخاصة للسوق الرأسمالى. فالجزء الأول من الكتاب يبدأ بتحليل الإنتاج من أجل السوق (الإنتاج السلعى)، ثم يبحث فيما يحدث عندما يظهر العمل المأجور وعندما تتحول قوة العمل إلى سلعة، ويركز على توضيح كيف يؤدى الإنتاج باستخدام العمل المأجور إلى عملية التراكم الجبرى الذي يتجاهل الحاجات الإنسانية والرغبات الفردية.

ليس الخلاف بين ماركس وتونى بلير ومدعي”الحداثة” الآخرون، وهم في الواقع ينتمون إلي الطراز العتيق من المفكرين أنصار الرأسمالية، لأنه فشل في فهم ديناميكية الرأسمالية، بل لأنه يرى، ما لا يرونه هم، أن ديناميتها لا تنفصل عن عدم إنسانيتها وعبثيتها.

تقوم الرأسمالية على نمط من الإنتاج الاجتماعى، يضم اليوم حوالى 3 مليارات عامل على مستوى العالم. ومع ذلك، يقوم بتنظيم الإنتاج شركات منفصلة ومتصارعة (معظمها يملكها أفراد، وبعضها تملكها دول قومية متصارعة)، ومحركهم الرئيسي هو الحاجة إلى تجاوز بعضهم البعض في المنافسة. إن واقع كل شركة تنخرط في استغلال العمل المأجور يعنى عدم إمكانية القبول بالوضع الحالي للمنشأة، فمهما كانت الشركة ناجحة في الماضى، فستظل خائفة من أن تقوم شركة منافسة باستثمار أرباحها في مصانع وآلات جديدة أحدث. لذلك تهتم كل شركة منافسة باستمرار بالحفاظ على أرباحها أعلى من منافسيها. وهذا يعني أن كل شركة تحاول دفع عمالها إلى العمل  ساعات أطول بقدر الإمكان مقابل أجور منخفضة قدر الإمكان. ولا يجرؤ أى رأسمالى على التوقف لفترة من الزمن. فهذا لا يعنى سوي  التراجع خلف منافسيه ولا يقوده في النهاية سوي إلي الإفلاس.

إن هذا هو ما يفسر دينامية الرأسمالية، الضغط الواقع على كل رأسمالى لسباق أى منافس آخر، للتطوير المستمر للمصانع والآلات، والضغط المستمر على العمال لتوفير الأرباح التي تجعل هذا التطوير ممكنا، ولكن هذا أيضا هو ما يجعل النظام لا إنسانيا.

في عالم عقلانى يؤدى إدخال آلات جديدة، توفر الجهد أوتوماتيكيا، إلى رفع مستويات المعيشة وضمان وأسبوع عمل أقصر. ولكن هذا لا يحدث في ظل الرأسمالية، حيث تسعى كل شركة إلى تخفيض نفقاتها حتى تستمر في السوق ـ وهذا لا يعنى سوي محاولة تخفيض مستويات معيشة العمال.

إن عبثية وعدم إنسانية عملية صنع القرار في ظل الرأسمالية تصل حتى إلى درجة أن المديرين لا يكونوا أحراراً في أن يفعلوا ما يريدون. فهم يستطيعون الاختيار في أن يستغلوا العمال بطريقة ما بدلاً من الأخرى. ولكنهم لا يستطيعون اختيار عدم استغلال العمال مطلقاً، أو حتى استغلالهم بدرجة أقل مما يفعل رأسماليون آخرون ـإلا إذا أرادوا أن يفلسوا. فهم أنفسهم خاضعون لنظام له قوانينه الصارمة بغض النظر عن مشاعر الأفراد، فالرأسمالية حقا سباق للفئران. ولو لم يكن الرأسمالى فأرا، وحاول معاملة العمال بشكل أفضل، ووضع احتياجاتهم فوق الاندفاع إلى التنافس، فإنه لن يستمر طويلا.

أكثر من ذلك، تنتج المنافسة العمياء بين الرأسماليين حتى الظروف التي تهدد بدفع النظام ككل إلى الفوضى، فإنتاج الشركات المتنافسة يتعلق بالسوق. ولا يستطيع أى رأسمالى الاستمرار في الإنتاج إلا إذا باع بضائعه. ولكن القدرة على البيع تعتمد على إنفاق رأسماليين آخرين ـعلى إنفاقهم المباشر على البضائع ( مثل السلع الفاخرة والمصانع والآلات لشركاتهم) وعلى الأجور التي يدفعونها للعمال ( الذين ينفقونها في المقابل على وسائل معيشتهم) ولكن هؤلاء الرأسماليون لا يستطيعون الإنفاق إلا إذا باعوا منتجاتهم الخاصة.

إن السوق يجعل الإنتاج في أى موقع في النظام يعتمد على ما يدور في كل موقع آخر. فإذا انقطعت سلسلة الشراء والبيع عند أى نقطة، يمكن أن يبدأ النظام بالكامل في التفتت والتوقف. عند ذاك تحدث أزمة اقتصادية.

الفصل الثاني: تفسير الأزمة

1) رخاء وكساد

إن تاريخ الرأسمالية الصناعية هو تاريخ فترات من الرخاء وفترات من الركود، ـأي تاريخ ما يطلق عليه الاقتصاديون الرأسماليون الرسميون، “الدورة الاقتصادية”. فلأكثر من مائتى عام كانت هناك فترات من التوسع الشديد في الإنتاج تتخللها أزمات مفاجئة ـتتحطم فيها قطاعات كاملة من الصناعة وتتوقف.

لقد عانينا من ثلاث أزمات كهذه خلال العشرين عام الماضية، وكل منها فرضت عبئا اكبر على أولئك الذين يعملون، من الأزمة التي سبقتها، مع تزايد حياة الناس بؤسا حيث يفقدون مصادر معيشتهم وأحيانا بيوتهم أيضا. هذه الأزمات الدورية هى من صميم الطريقة التي يدور بها النظام.

فكل شركة تحاول تحقيق أقصى ربح وإذ بدا من السهل تحقيق الأرباح، تزيد كل الشركات على مستوى النظام من إنتاجها بأقصى سرعة ممكنة. فتفتح مصانع ومكاتب جديدة، وتشترى آلات جديدة وتضم عمال جدد، معتقدة أنها ستتمكن من بيع البضائع التي تنتجها. وحين تفعل الشركات ذلك، فهى توفر سوقاً جاهزا لشركات أخرى، التي يمكن أن تبيع لها بسهولة المصانع والآلات، أو بضائع استهلاكية للعمال التي استخدمتهم. فيدخل النظام ككل في فترة رخاء، ويتم إنتاج سلع أكثر، وتنخفض البطالة.

ولكن ذلك لا يمكن أن يستمر طويلا. فحرية السوق تعنى أنه لا يوجد تنسيق بين الشركات المتنافسة المختلفة. هكذا، مثلاً، من الممكن أن يقرر صانعو السيارات زيادة إنتاجهم، دون أن تقوم في نفس الوقت الشركات المنتجة للصلب بأى زيادة ضرورية في إنتاجها اللازم لهياكل السيارات أو تشهد مزارع ماليزيا أي زيادة لإنتاج المطاط اللازم للإطارات. وبنفس الطريقة يمكن أن تبدأ الشركات في توظيف عمالة ماهرة، دون تقبل أى شركة منها أن تتولى التدريب الضرورى لزيادة العدد الإجمالى من هؤلاء العمال.

فكل ما يعنى هذه الشركات هو تحقيق أقصى ربح ممكن في أسرع وقت. ولكن السباق الأعمى لتحقيق ذلك من الممكن أن يؤدى بسهولة إلى استنزاف الموارد الحالية من المواد الخام والمكونات والعمالة الماهرة والتمويل اللازم للصناعة.

وفي كل ازدهار مرت به الرأسمالية من قبل، تصل إلى حد معين يظهر فيها فجأة العجز في المواد الخام والمكونات والعمالة الماهرة والتمويل. وتبدأ الأسعار ومعدلات الفائدة في الارتفاع ويدفع ذلك العمال في المقابل إلى اتخاذ إجراءات لحماية مستويات معيشتهم.

يؤدى الرخاء بالضرورة إلى زيادة في التضخم. والأخطر من ذلك، بالنسبة للرأسماليين الأفراد، يؤدى ارتفاع التكلفة بسرعة إلى تأكل أرباح بعض الشركات ودفعها إلى حافة الإفلاس. وسيلتهم الوحيدة لحماية أنفسهم هى تخفيض الإنتاج، وطرد العمال وإغلاق المصانع. ولكنهم عندما يفعلون ذلك يدمرون أسواق البضائع التي تنتجها شركات أخرى، وبالتالي يمهد الرخاء الطريق إلى الأزمة. 

وفجأة يظهر “فائض الإنتاج”. تتراكم البضائع في المخازن لأن الناس لا يملكون القدرة على شرائها ويتم طرد العمال الذين أنتجوها لعدم إمكانية بيعها. هذا يعنى أن استهلاك العمال يقل وتتزايد أكثر فأكثر كمية “فائض الإنتاج” في النظام ككل.

فعلى سبيل المثال، لن تتمكن شركات صناعة السيارات من بيع نفس الكمية التي كانت تبيعها في الماضى، ولذلك تشترى كمية أقل من الصلب. وكنتيجة لذلك، تغلق مصانع الصلب أبوابها وتطرد العمال. ولكن عمال الصلب الذين طردوا لن يتمكنوا من شراء السيارات، وبالتالى سيقل إنتاج السيارات أكثر. ويأتى الدور على عمال السيارات فيطردون، ولكنهم حينذاك لن يتمكنوا من شراء سلع مثل الغسالات أو الثلاجات المصنوعة من الصلب، بالتالى سيقل الطلب على الصلب، وتغلق مصانع أكثر للصلب، ويطرد عدد أكبر من عمالها، ويقل الطلب أكثر فأكثر على السيارات وندخل في دائرة جهنمية تزعم فيها كل شركة أنه بإمكانها البقاء في المنافسة من خلال تخفيض الأجور وزيادة الإنتاجية وطرد العمال. ولكن في كل مرة تقوم بذلك، يزداد تقلص أسواق الشركات الأخرى، وإلى اللجوء إلى مزيد من  طرد العمال ومن تخفيض الأجور وأخيرا يتقلص سوق منتجاتها هى نفسها. 

إن التحول من الرخاء إلى الأزمة دائما يحدث بصورة مفاجئة للشركات الكبرى. فعلى مدى أواخر الثمانينات كان الزعماء الرسميون على كلا جانبى الأطلنطى يعلنون أن اقتصادهم يحقق المعجزات. وفي 1990 أعلن رئيس وزراء بريطانيا جون ميجور، ووزير المالية نورمان لامونت، مراراً أنه لن تحدث أزمة ركود، وأيدهم تقريبا كل المحللين الاقتصاديين المحترفين، وجاء في تقرير لبيتر نورمان في جريدة الفايننشال تايمز “..إن آخر بحث اقتصادى من منظمة التعاون التنمية الاقتصادية يشير إلى أن النشاط الاقتصادى في العالم الصناعى قد استقر على معدل نمو اقتصادى ثابت بنسبة 3%.”

ثم، وكما لو كان ذلك ضربا من الخيال، انفجرت الأزمة، والآن يعلن بيتر نورمان بنفسه مؤشرات الأخبار الاقتصادية السيئة. “عمليا أصبحت كل المؤشرات الواردة عن تدهور الناتج وانخفاض مبيعات التجزئة وزيادة البطالة أسوا من المتوقع”. وكانت جريدة الفايننشال تايمز نفسها عاجزة تماما عن فهم ما حدث. واعترف أحد المحررين بها قائلا ” لقد فقدنا الوضوح” وتحدث لامونت الآن عن أزمات الركود كما لو كانت ظاهرة طبيعية مثل المد والجذر. وأكد سلفه نايجل لوسون، والذي كان يتباهى “بالمعجزة الاقتصادية” في الثمانينات، أن “الدورة الاقتصادية حقيقة قائمة. لقد وجدت دائما وسوف تستمر إلى الأبد موجات الصعود والهبوط”.

وكما لاحظ ماركس، يعتقد رجال الأعمال دائما أن الأمور تسير كأحسن ما يكون حتى تحدث الأزمة فجأة: “يبدو النشاط التجارى دائما قويا وشاملا حتى تحدث الأزمة”. ولكن الأزمة دائما تحدث انقطاعا ودائما تؤدى إلى إهدار فظيع لحياة الناس وفقدان هائل للموارد. ومع ذلك يكون الرد الجاهز لأصحاب الأعمال والحكومات على الأزمة هو أن يخبروا الشعوب بأنه لا سبيل لتفاديها وأن “على الجميع أن يقوم بتضحيات” و “يشد الحزام”.

في أزمة أوائل التسعينات كان إنتاج الاقتصاد البريطانى السنوى أقل بنسبة 6% عما كان من الممكن أن ينتجه ـوأدى ذلك إلى إجمالى خسائر وصلت إلى 36 بليون جنيه إسترلينى من الناتج كل عام لمدة ثلاث سنوات تقريبا. وبمعنى آخر، بلغت الخسارة السنوية تقريبا نفس تكلفة الخدمات الصحية العامة. كانت الأزمة أقل خطورة في الولايات المتحدة بالمقارنة  ببريطانيا. وبرغم ذلك وصلت الخسائر في الناتج إلى أكثر من 50 بليون دولار سنويا. ولو كان نمو الناتج طبيعيا، لكان قد حقق فائضا يبلغ 150 بليون دولار سنويا، وهذا الرقم يعادل ما يحتاجه كل السكان السود في أفريقيا للحصول علي أسباب المعيشة.

وذلك لا يعد بأى شكل حسابا دقيقا لإجمالى الفاقد المتحقق، لأن هذه الأزمة لم تكن الأولى، ولكنها ثالث أزمة يمر بها الغرب خلال السنوات الستة عشر السابقة. وإذا كانت الاقتصاديات الغربية قادرة على النمو خلال هذه السنوات بنفس متوسط سرعتها منذ عشرين عاما، لكان إجمالى الناتج قد ازداد بأكثر من 40% مما كان عليه.

وليس خافيا علي أحد إن الفاقد الذي ينتج على مستوى العالم من الأزمات الاقتصادية أكبر بكثير من ذلك الذي ينتج من الكوارث الطبيعيةـجميع الزلازل، والانفجارات البركانية، والفيضانات والأوبئة مجتمعة، ولكن الأزمات الاقتصادية ليست كوارث طبيعية. ففي ظل تلك الأزمات تظل وسائل إنتاج الأشياء التي يحتاجها الناس في الوجود تماما بنفس القدر كما كانت من قبل ـفمن جانب، تكون المصانع والمناجم والمزارع قادرة على إنتاج السلع، ومن ناحية أخرى يكون العمال قادرون على العمل فيها. إنها آليات النظام الرأسمالي هي التي توقف الرجال والنساء والعاطلين عن العمل في الصناعات المغلقة، وليست الكوارث الطبيعية.

2) علم الاقتصاد الرأسمالى والأزمة الاقتصادية

برغم الفاقد وبؤس حياة الشعوب الذي تسببه الأزمة الرأسمالية، فقد حاول معظم الاقتصاديين التظاهر بأنها لا تحدث فعلا، واتبعوا قانونا طوره اقتصادى فرنسى عاش منذ قرنين هو ‘جان باتبيت ساى’. حيث يرى أن الأزمة مستحيلة، حيث أنه في كل مرة تباع سلعة ما فهى تشترى بواسطة شخص آخر. هذا القانون متضمن في المدرستين الاقتصاديتين اليوم “المدرسة الحدية” و”الكلاسيكية الجديدة”. ويزعم هؤلاء أن “اليد الخفية” للسوق تضمن أوتوماتيكيا إمكانية شراء أى سلعة تنتج، إن “العرض” يساوى “الطلب”. وتعتبر النظرية أن أسعار البضائع تعمل كمؤشرات لتوجيه الرأسماليين إلى ما ينتجونه. وهذه النظرية هى أساس موجة التهليل للسوق التي يتبعها السياسيون اليوم في كل أنحاء العالم. وهى أيضا مبررهم لإزالة كافة العقبات، وخصخصة الصناعات وإعلان أن الاشتراكية قد “عفا عليها الزمن”. 

نجد إن وهذه النظرية مليئة بالثغرات. فلا يمكن0 أن تحدد “مؤشرات الأسعار” العلاقة بين الناتج والطلب، بين البيع والشراء، أو بين الإنتاج والاستهلاك بشكل سلس. لأن الإنتاج دائما هو عملية تحدث في وقت معين. و”مؤشرات الأسعار” لا تخبرك عما سوف يطلب عندما ينتهى الإنتاج ولكن عما كان مطلوبا قبل بدايته.

ويسبب عامل الوقت هذا مشاكل هائلة، حتى في أبسط أشكال الإنتاج السلعى مثل إنتاج الحبوب بواسطة جمهور صغار الفلاحين. فإذا كان المناخ سيئا في سنة وأثر على المحصول، ترتفع الأسعار فعلا. وبرغم ذلك، لا يؤدى هذا إلى زيادة إنتاج الحبوب في تلك السنة. ففي العالم الحقيقى (على خلاف أصحاب نظرية السوق) على الفلاحين انتظار الموسم التالى لحصاد المحصول الجديد. وربما يستجيبون لمؤشرات الأسعار ويحصدون مساحة اكبر من السابقة. ولكن لو لم تتبع، بالصدفة، سنة أخرى يكون مناخها سيئا كالأولى، فإن النتيجة الوحيدة ستكون إنتاج محصول اكبر مما يطلب المستهلكون.

وأشهر مشكلة من هذا النوع معروفة بـ “دورة الخنزير” لأن أصحاب مزارع الخنازير يفاجئون بشكل متكرر بأنه إما أن يتعدى الطلب على لحم الخنزير عدد الخنازير التي يريدون بيعها، أو أن عدد الخنازير التي يمتلكونها أكبر بكثير من رغبة الناس في شراء اللحوم. ولكن موجات مماثلة من الصعود والهبوط دائما ما تحيط كل أنواع الإنتاج الزراعى. ولا تختفي الدورة عندما ننتقل من عالم صغار الفلاحين إلى الشركات الرأسمالية العملاقة وفي الواقع تزداد سوءا.

لا يبدأ الإنتاج الصناعى فقط بشهور قليلة قبل الاستهلاك النهائى. فهو يعتمد على القيام باستثمارات ضخمة في رأس المال الثابت، في بناء المصانع وتركيب الماكينات، على مدى سنوات عديدة. وحيث يوجد “السوق الحر” فلا يمكن التنسيق بين الشركات المتنافسة. وهكذا تكون التقلبات من “الإنتاج الزائد” و “الطلب الزائد” ومن الأزمة والرخاء، أكثر وضوحا منها في النظام الزراعى الصرف.

والطريق الوحيد أمام الأرثوذكسية لتخطى المشكلة هو تجاهلها. ولقد اعترف بذلك علنا أحد مؤسسى “المدرسة الحدية” هو ليون والراس. فقد كتب “‎”سوف نحل هذه المعضلة ببساطة بتجاهل عنصر الوقت في هذا الموضوع”. واضطر روى رادنر، وهو اقتصادى بدأ في أواخر الستينات إلي البرهنة حسابيا على أن اقتصاد السوق التنافسى سيؤدى إلى معادلة، لأن يفترض أن أولئك العاملين في النظام سيضطرون مقدما إلى تحديد كيف سيستجيبون لكل الاحتمالات التي تواجههم في أى وقت في المستقبل. إن نموذج التوازن التام، كما استنتج “ينهار تماما” في مواجهة استحالة أن يفعل الناس ذلك.

في الواقع، في العالم الحقيقى، إذا تعادل كل من الإنتاج والاستهلاك أخيرا، لا يكون ذلك من خلال التلاقى السلس والفعال والمريح بين العرض والطلب، ولكن من خلال التوتر العنيف ـأى الأزمة. لقد اعترفت مدارس الاقتصاديين المؤيدين للرأسمالية بذلك.

وفي الثلاثينات من هذا القرن دفعت الأزمة الكبرى ببعض الاقتصاديين، أشهرهم جون ماينرد كينز، إلى رفض الصياغة الفجة لقانون ساى. كان كينز مؤيدا للرأسمالية ـوحقق هو نفسه ثروة من خلال المضاربة في البورصة ـولكنه جادل بأنه إذا ترك النظام لنفسه، سوف تحدث أزمات يتقلص فيها كل من الإنتاج والسوق. وبالتالى يتساوى “‎”العرض” و”الطلب” فقط لأنهما يكونان في مستوى منخفض جدا. دفعه ذلك إلى رفض الاعتقاد السائد في عصرهـوفي عصرنا بعد مرور أكثر من 60 عاما ـ بأن الاقتصاد سوف يزدهر أوتوماتيكيا فقط إذا توقفت الحكومات عن “حشر أنوفهم” في الاقتصاد. وعلى العكس اعتقد كينز أن التدخل الحكومى فقط يمكنه إيقاف الأزمات.

وفي الأربعينات والخمسينات والستينات كانت هذه الآراء مضمنة داخل صياغة معدلة من “المدرسة الحدية” لتصبح العقيدة المقبولة لدى الحكومات من كل الأصناف، ويتم تدريسها لطلبة علم الاقتصاد. وتباهى جون صموئيلسن، الفائز بجائزة نوبل والذي كتب الكتاب الأكثر مبيعا في علم الاقتصاد في عصره، في أن الأزمات لن تحدث أبدا مرة ثانية : “لقد حدد المكتب القومى للبحث الاقتصادى واحدة من أهم وظائفه ـأى الدورة الاقتصادية”.

هذا الإيمان بالتدخل الحكومى في النظام لم يتحمل الكساد الكبير لسنوات 74 ـ1976، وفجأة في يوم وليلة تقريبا، بدل الاقتصاديون والسياسيون، الذين دعوا إلى النظرية الكينزية لمدة ثلاثين عاما، أفكارهم. وكما أوضح الاقتصاديان الأمريكيان مانكيف ورومر، أن الأفكار الكينزية حل محلها العودة إلى الفكرة القديمة بأن “السوق دائما واضح” وأن “اليد الخفية” دائما ما تقود الاقتصاد إلى التوزيع الأمثل للموارد.

وحاليا، يتبنى الاقتصاديون والسياسيون، بدرجات مختلفة، نظرية تسمى “النقدية”. وتتضمن هذه النظرية أنه، على العكس من كون التدخل الحكومى ضروريا، لا يجب على الحكومات التدخل في الاقتصاد إلا لمراقبة إجمالى كمية النقود ووقف “الاحتكار غير الطبيعى” وهو ما يدعون أن النقابات تمارسه عند دفاعها عن مستويات المعيشة.

إن انتصار العقيدة القديمة في أواخر السبعينات والثمانينات تميز بعودة الافتراض بأن السوق دائما يربط العرض بالطلب معا بإتقان. برز هذا الاعتقاد تماما لدى جناح تاتشر في حزب المحافظين في بريطانيا ولدى أولئك الذين تبنوا أفكار مماثلة في الكتلة الشرقية السابقة وفي العالم الثالث. ولكنه تردد أيضا لدى الكثير ممن كانوا يساريين.

ولكن كان هناك تناقضا يصعب ملاحظته ضمن أفكار التاتشريين أنفسهم، لأنهم كانوا إلى حد كبير متأثرين بمدرسة أخرى منشقة، وهى التي اشتهرت بـ “المدرسة النمساوية” والتي كان اشهر شخصياتها فريدريك هايك. وقد عارض دائما الكينزية وتدخل الدولة، على أساس أن ذلك يؤدى إلى “الاستبداد ” ويدمر “دينامية” السوق. ولكنه لم يقبل أبدا النظريات الحدية والنيوكلاسيك، بإنكارها للأزمة، واعترف بأن النظام معرض حتما إلى موجات صعود وهبوط مدمرة، وعلينا التعامل معها “كشرط ما سيئ” في المعادلة.

وتبنى هايك أيضا أن السوق ينتج دائما عكس ما يحتاجه الناس. وتكون المنافسة حقيقية فقط بقدر ما لا يمكن التنبؤ بنتائجها، وتختلف في كليتها عما استهدفه، أو كان من الممكن أن يستهدفه، عمدا أى شخص. إن النظام العشوائى الذي يحدثه السوق لا يضمن أن يلبي ما يعده الرأى العام الحاجات الأكثر أهمية، دائما قبل الحاجات الأقل أهمية.

وشدد هايك، بمنتهى الصراحة، أن السوق لا يؤدى إلى التوازن السلس بين العرض والطلب، ولكنه اتجه نحو ما أسماه نظيره النمساوى جوزيف شومبيتر “التدمير البناء” الذي لا يؤدى إلى معادلة اقتصادية بل إلى “نظام اقتصادى”.

على أى حال، ليست هذه نظرية اقتصادية مستساغة بالنسبة للسياسيين الذين يسعون إلى الأصوات الانتخابية أو للأيديولوجيين الساعين لتغيير الأفكار. ففي النهاية فإن هذا “التدمير البناء” يكون لوسائل المعيشة ـوأحيانا لحياة ـالملايين من البشر. لذلك فإن صياغة أفكار هايك التي عادة تمتدح اليوم هى صياغة مهجنة، وفيها تحل الفكرة “النيوكلاسيكية” عن التعادل السلس محل فكرة “التدمير البناء”.

إن الصورة التي تقدم إلينا هى أن الرخاء المنتظم سيأتى فقط لو آمن الناس بالسوق دون تحفظ. وهو ما وعد به أنصار السوق شعوب الكتلة الشرقية السابقة عقب دخول الاقتصاديات الستالينية القديمة في أزمة عميقة في أواخر الثمانينات. وبشروهم بأن السوق سيؤدى إلى “معجزات اقتصادية” كتلك التي أدعى أن ألمانيا الغربية شهدتها في الخمسينات والستينات ـوسوف يحدث ذلك في خلال “400 أو 500 يوما”.

وهي نفس الرسالة التي وجهها صندوق النقد الدولى إلى حوالى 60 أو70 من بلاد العالم الثالث مع “برنامج التكيف الهيكلى”. ولم يختلف خطاب حزب المحافظين البريطانى في الانتخابات العامة في 1992 عن ذلك، حيث وعد الشعب البريطاني بأن الانتعاش الاقتصادى سيبدأ في اللحظة التي يعود فيها للسلطة ببرنامجه لزيادة مساحة حرية السوق إلى مدى أوسع.

وفي كل من تلك الحالات، لم يحدث في الواقع ذلك التعادل المزعوم، ولكن حدث التدمير. ففي حالة بلاد أوروبا الشرقية تم تدمير من 20 ـ 40% من الصناعة عبر أسوأ أزمات عرفها التاريخ. وفي بلاد أفريقيا كان الانخفاض الهائل لمستويات المعيشة، وكقارة كانت قادرة على إطعام كل سكانها منذ 20 عاما مضت أصبحت موطنا لملايين الجوعى. وفي حالة بريطانيا، كان ذلك يعنى أسوأ أزمة عرفتها منذ الثلاثينات.

3) كيف تتفجر الأزمة

إن الحماس لقدرات السوق العجيبة والمزعومة عادة يصل إلى قمته أثناء فترات الرخاء. حيث تتزايد الأرباح، ويتسابق الرأسماليون فيما بينهم في الإسراع في زيادة إنتاج السلع أكثر وأكثر. وتنتقل بعض الثروات التي يسيطر عليها الأغنياء إلى أيدى أولئك الذين يتلونهم مباشرة في التراتب الاجتماعى. فيحقق المقاولون أرباحا من بناء مكاتب ومخازن ومصانع جديدة. وتجد الوكالات الإعلانية طلبا غير محدود ـظاهريا ـعلى خدماتهم. ويزدهر السماسرة حيث تنتقل الثروات بسرعة مطردة من يد إلى يد. وتشعر قطاعات كاملة من الطبقة الوسطى بأن عليهم فقط أن يبدأوا مشروعاتهم الخاصة وستنهمر الأموال فورا بين أيديهم.

وتشترى كل هذه المجموعات لنفسها عددا متزايدا من السلع، مما يزيد الطلب على السلع الفاخرة من الشمبانيا والكافيار إلى سيارات البورش والشقق الفاخرة. ويزداد أيضا الطلب على عمل جماهير العمال، حيث تزداد فرص العمل في مواقع البناء ومعارض السيارات، وفي تصميم الإعلانات وطباعة إعلانات بديلة. ويجد هؤلاء العمال الجدد أن بإمكانهم شراء سلع لم يكونوا قادرين على شرائها ـوهذا في المقابل يؤدى إلى زيادة الطلب على سلع ينتجها قطاع آخر كامل من العمال، وهكذا تنتشر حالة من الزواج بين أوساط عمال الصناعات المختلفة.

وتنخفض البطالة أخيرا ـ حتى ولو، كما في وقتنا الحالى، لم تكن لمستوياتها السابقة. ويتنافس أصحاب العمل، المتلهفين على عمال ذوى درجة معينة من المهارة، فيدفعون الأجور قليلا إلى أعلى. ويبدأ عمال آخرون، وقد أصبحوا أقل خوفا من تهديد البطالة، في المطالبة بنصيبهم من “الرخاء” الذي يسمعون عنه في وسائل الإعلام ويطالبون بزيادة الأجور والتي يشعر أصحاب العمل أحيانا أنهم مضطرون إلى تلبيتها.

ولكن على صعيد آخر، وفي قاع المجتمع تظل أعداد واسعة من الناس لا تشعر بأى تحسن في أوضاعهم. وكذلك العمال الذين تزداد أجورهم يجدون هذه الزيادات غير كافية بسبب ارتفاع الأسعار. ولكن لفترة قصيرة يبدو الإدعاء بأن السوق يعني الرخاء، بالنسبة لأى شخص لا ينظر فيما وراء الأفق، بأنه ينطبق مع الواقع.

غير أن الصورة لا تظل على ورديتها طويلا، فكل العوامل التي تحيل الرخاء إلى أزمة تتطور بالفعل عندما يصل الرخاء إلى قمته ـ أى ارتفاع الأسعار، العجز المتزايد في التمويل للاستثمارات الجديدة وتزايد أجور بعض العمال المهرة. ولكنها تختفي وراء الطبيعة الحادة للرخاء. وبالفعل، حتى عندما تبدأ (هذه العوامل) في تخفيض بعض الأرباح، فمن الممكن أن تؤدى إلى تزايد المضاربة، وإلى سباق محموم لجنى أرباح أكثر. ويحول الرأسماليون، الذين يعتقدون بأن فرص تحقيق الأرباح لن تنتهى أبدا، ثرواتهم من قطاع إلى آخر بسرعة أكبر ـ ويشترون المواد الخام معتقدين أنهم سيستطيعون بيعها بأسعار أعلى، ويمولون بناء المكاتب متوقعين ارتفاعا أكثر في الإيجارات، ويتأرجحون وراء أحدث مشروعات الإعلانات، ويدفعون بمبالغ ضخمة في البورصة بافتراض أن أسعار الأسهم لن تنخفض أبدا. وحتى العمال يمكن أن ينجذبوا إلى جنون المضاربة، ويغرقون في الديون لشراء المنازل اعتقادا منهم أن أسعارها سترتفع. وينتعش الغشاشون والمحتالون من كل صنف في هذا الجو من الإثراء السريع. وأى محتال صغير يقود مؤسسة تعد بالربح السريع مهما كان المشروع سيئ السمعة، يتوقع أن يجد بعض المشترين. وكل رأسمالى كبير يرغب في أن يصبح أكبر من خلال التلاعب في الدفاتر لتمويل مناقصة، يجد من السهل أن يفعل ذلك.

 

وفي هذا الجو البراق، حيث تبدو الأموال كأنها تتساقط كالمطر على الطبقات شاربة الشمبانيا، ولا يبدو هناك أي ارتباط بين النشاط الرائع في جنى الأرباح والنشاط الأسود للاستغلال في محل العمل. هكذا كان، على سبيل المثال، الوضع في بريطانيا في أواخر الثمانينات حيث تفوقت كل من شركة ميردوخ وماكسويل وهانسون ورايخمان برازرز. واعتقد أولئك الذين وهبوا حياتهم لنظام الربح أن زمنهم قد أتى.

وهكذا كانت قوة أخر فترات الرخاء الرأسمالى التي جذبت إليها بعض أولئك الذين عارضوا النظام في الماضى. وأدينت الماركسية من كل الجوانب كنظرية غير واقعية، بل أن مجلة أطلقت على نفسها “الماركسية اليوم” احتفت على طراز الطبقة المتوسطة العليا بالملابس غالية الثمن ومتعة الاختلاط بمجلس وزراء حزب المحافظين. لقد أصبحنا، كما ادعوا، في عالم ما بعد الماركسية ـ عالم ما بعد الثورة الصناعية وما بعد الإنتاج الكبير، ما بعد الأزمة، وما بعد الحداثة.

ثم، وتماما كما تنبأ أولئك الذين لم يكونوا “بعدـ ماركسيين”، انفجرت الأزمة، وأفلست الأسماء الكبيرة لعهد الثمانينات الواحدة بعد الأخرىـمثل بى آندس كالرار، وكانرى وورف، وهابتيات وماكسويل، وأخيرا أفلست الرؤية ما بعدـ الماركسية التي تبنتها مجلة “الماركسية اليوم”.

لقد تحولت فجأة نغمة وسائل الإعلام، وأعلن فجأة أولئك الذين استخدموا الصفحات الاقتصادية في الصحف الكبرى للاحتفال بالرخاء أن النظام “على حافة التحلل” وأنه يهوى ولا أحد يستطيع إدراك إلى أين.

وكان ذلك يحدث دائما عندما يتحول الرخاء إلى إفلاس. هكذا، مثلا، استطاع رائد الصلب الأمريكى آندرو كارنجى أن يكتب في ثمانينات القرن الماضى:

“يجد الصناعيون أن مدخرات سنوات عديدة تصبح أقل فأقل، دون أى أمل في تغير الموقف. إن التربة ممهدة لاستقبال أى شئ يعد بتخفيف الأزمة، بل أنه يقابل بمنتهى الترحيب. إن الصناعى في موقف المريض الذي يجرب عبثا كل الأطباء منذ سنوات”.

وسادت هذه النغمة نفسها مرة ثانية في الثلاثينات، حيث كان الإحباط شاملا تقريبا في ألمانيا والولايات المتحدة.

في هذه الأثناء يتبنى الاقتصاديون والصحفيون الذين قبلوا سابقا معجزات نظام السوق كافة أشكال التفسيرات الغريبة والأسطورية حول سبب حدوث الأزمات. ففي القرن التاسع عشر أرجع جيفون، أحد مؤسسى “علم الاقتصاد الحدى”، حدوث الأزمات إلى البقع الشمسية التي ادعى أنها تؤثر على المناخ. وأدت أزمة 73ـ1975 إلى موجة جديدة من النظريات التي ادعت أن البترول ينفذ من العالم وأن العالم يواجه عصرا جليديا جديدا. وأدت أزمة أوائل التسعينات إلى استنتاجات أشد غرابة، مثل نظرية وليام هوستين والذي، حسب رأى جريدة الفايننشال تايمز، هو “واحد من أكثر محللى الدورة الاقتصادية احتراما في العالم”، والذي يرى أن “الدورات الكونية” ـمثلا الموقع النسبى لكوكبى المشترى وعطارد في علاقتهما بالأرض ـيمكن مباشرة أن تسبب كوارث اقتصادية. في نفس الوقت، يعتقد روى كالن، أستاذ الجراحة في جامعة كمبريدج، ببساطة أن تزايد أعداد الناس في البلاد الصناعية المتقدمة يقف حائلاً أمام قدرة الحكومة “لتوفير التوظف الكامل” والحل الوحيد لذلك هو الحد من الإنجاب ليقتصر على من تخطوا 25 سنة والذين يمكنهم توفير وضمان “النضج الكافي والموارد المالية للقيام بالرعاية المناسبة للأطفال”.

وتمشيا مع تلك التفسيرات المخبولة لما هو الخطأ الذي يؤدى إلي حدوث الأزمة نجد بعضها يحتوى على الأقل على بعض عناصر الحقيقة. وأكثر التفسيرات شيوعا، من هذا النوع، هو ذلك الذي يرجع كل شئ إلى المضاربة والمضاربين. ويدعى أنه لو أن هذا الجانب من الرأسمالية فقط يمكن تجنبه، فلن تحدث الأزمات أبدا.

وبالطبع تلعب المضاربة دورا في الأزمة، فهى تسمح لبعض الرأسماليين أن يزيدوا ثرائهم بينما يتجاهلون العمليات الحقيقية لإنتاج الثروة. يحقق المضاربون ثروات هائلة مع كل رخاء عن طريق الاقتراض حتى ترتفع الأسعار ورفع الأسعار حتى يزيد الاقتراض. وتكون النتيجة زيادة المديونية. والتي تفاقم بشدة “تأثير المعاناة” عندما تأتى الأزمة في النهاية. تزيد المضاربة أيضا من الصعوبات التي تواجه الحكومات الرأسمالية التي تحاول الحفاظ على نوع ما من السيطرة على ما يحدث في الاقتصاد القومى عندما تهرب البلايين وحتى التريليونات من الدولارات والين يوميا من البلاد إلى بلد آخر.

وبرغم ذلك، ليست المضاربة ولا المضاربين هم سبب دورة الرخاء والأزمة، فتلك توجد في التنظيم الرأسمالى للإنتاج، في المنافسة بين الرأسماليين الصناعيين لتحقيق الأرباح. تساعد المضاربة والمضاربون على زيادة حدة الرخاء والأزمات التي سوف تحدث في أى حال. فليس المضاربين هم الطفيليين الأساسيين الذين يدفعون النظام إلى الأزمة، ولكنهم طفيليون يعيشون على حساب طفيليين آخرين هم الرأسماليين.

ويدعى بعض السياسيين وغالبية المعلقين أن الأمور ستصبح على ما يرام لو تم القضاء على المضاربين. كانت تلك في الأغلب رؤية أولئك الذين يسعون إلى صيغة محسنة جزئيا من النظام الرأسمالى الحالى. فمثلا في 1964، ادعى هارولد ويلسون، رئيس وزراء حكومة العمال في بريطانيا، أن الأثرياء الذين يعملون في الخفاء هم الذين دفعوه إلى التخلى عن وعوده الانتخابية في حين أنهم كانوا في الواقع يشكلون القطاعات الرئيسية من الشركات البريطانية الكبيرة. 

واليوم يلقى الكتاب الاقتصاديون أمثال ويل هوتون الكثير من اللوم بخصوص الأزمة على “قصر عمر” المؤسسات التمويلية” في مدينة لندن، متجاهلين تقريبا الدور الذي لعبه كبار الصناعيين. وعلى أقصى اليمين، كان يسهل دائما على الفاشيين والنازيين التحريض على ـ “التمويليين”ـمدعين أنهم “دخلاء” و”فاسدين” أو “يهود” ـ كطريقة لتحويل غضب الجماهير بعيدا عن كبار الرأسماليين الصناعيين. وفي الواقع، نادرا ما يكون الرأسماليون الصناعيون سيسعون إلى زيادة أرباحهم من خلال المضاربة عندما يبدو ذلك سهلا ومتاحاـمثلا المضاربة في أسواق البورصة العالميةـبينما يسعى الرأسماليون التمويليون إلى زيادة ثرواتهم الخاصة عبر شراء الشركات الصناعية.

وهناك نقطة أخرى أخيرة، فأحيانا ما يخلط البعض بين الأزمات وبين “انهيار” النظام الرأسمالى أو على الأقل يظنون أنه لا يمكن أبدا أن يحدث انتعاش بعد الأزمة. ولكن حتى في أشد الأزمات عمقا، لا يفلس كل الرأسماليين، سيظل هناك دائما البعض ممن يجدون طرقا لتحقيق الأرباح من خلال بؤس الآخرينـمن فتح مكاتب الرهن وتوزيع الأغذية التي انتهت صلاحيتها، إلى تأسيس شركات التصفية أو توفير حراس أمن لحماية الأغنياء من الفقراء. لذلك يمكن أن يتحمل النظام حتى أسوأ الأزمات لو لم يؤد نضال عمالى ناجح إلى تغييره إلى مجتمع أفضل.

وهذا يعنى أنه، برغم أن الأزمات لا تنتهى تلقائيا وبسلاسة كما يدعى مؤيدو النظام الرأسمالى، فإن النظام الرأسمالي يصل أخيرا إلى نقطة عندها يثق الرأسماليون بالقدر الكافي من إمكانية تحقيق الأرباح للبدء في الاستثمار من جديد. في الواقع، تمكن الأزمة نفسها بعض الرأسماليين من زيادة ربحيتهم وإنتاجهم من خلال شراء المواد الخام والآلات من الشركات التي أفلست بسعر رخيص. وعادة ما تمارس نوعا من الضغط على تكلفة العمل حيث يقبل العمال، خوفا من فقدان أعمالهم، أجورا وشروطا أسوأ. وبمجرد أن تستمر الأزمة لفترة، عادة ما يتبع ارتفاع أسعار الفائدة انخفاض أسعارها، الأمر الذي يمكن الرأسماليين من الاقتراض بشروط أسهل.

وهكذا يحدث انتعاش الإنتاج بعد عدة شهور أو أحيانا عدة سنواتـويتم توظيف عددا أكثر قليلا من العمال. ثم يتسع السوق بالتالى لشركات أخرى والتي تتمكن هى نفسها من زيادة الإنتاج، وتوظيف عمال أكثر وهكذا. ويمكن أن تفسح حلقة التدهور اللعينة في الأزمة المجال لصعود الدورة الحميدة من “الانتعاش” حتى تنتج فترة رخاء جديدة، ومعها مرحلة قصيرة جديدة من التفاؤل الزائد عن الحد لدى الطبقة الرأسمالية ومبرريها الأيديولوجيين، حيث يظهر الحديث مرة أخرى “المعجزات” تماما حتى تتجمع المكونات لأزمة أخرى أكثر تدميرا.

 

الفصل الثالث: الوضع يزداد سوءًا

1) الأزمات تزداد عنفا

من السهل أن نرى بوضوح دائرة الأزمة ـ الرخاء ـ الأزمة ـ الرخاء في الإحصائيات الاقتصادية في أغلب القرن التاسع عشر الذي كتب خلاله ماركس. كانت فترات من الزيادة السريعة في الإنتاج، مع انخفاض معدلات البطالة إلى حوالى 10%. وبدا أن التبدل بين (الرخاء والأزمة) يتبع إيقاعا منتظما وطبيعيا مثل القمر أو “سنوات الرخاء السبع والسنوات السبع العجائز” في الكتاب المقدس. ولكن يوجد أيضا اتجاه طويل المدى، على مدى دورات عديدة لتصبح الأزمات أطول وأشد عمقا وليصبح الرخاء أقصر وطفيفا.

هكذا كانت أواخر سبعينات وثمانينات القرن الماضى ـ الوقت الذي أتت منه تعليقات كارناجى ـ يشار إليها غالبا بسنوات “الكساد الكبير”، بمعنى أن الاقتصاد الرأسمالى العالمى بدا أنه يعانى من متاعب أسوأ مما عرفها من قبل. بعد ذلك بحوالى 50 عاما، كانت ثلاثينات القرن العشرين، مع مستويات بطالة أعلى بكثير، يشار إليها بالمثل بـ ” الكساد الكبير”.

كيف يمكن فهم هذا التفاقم في الأزمة الرأسمالية؟

لقد لاحظ بعض الاقتصاديين الأوائل المناصرين للرأسمالية مثل ديفيد ريكاردو أن معدلات الأرباح تتدهور بمرور الوقت، فقد كانت أقل كثيرا عندما كتب ريكاردو وآخرون مما كانت عليه قبل ذلك بعشرة أو عشرين أو ثلاثين عاما. هذا التدهور في معدلات الربح يمكن من تفسير تزايد عمق الأزمات، لأنه مع انخفاض معدلات الأرباح ستحتاج الصناعة إلى وقت أطول للانتعاش. ولكن كيف كان يفسر تدهور معدلات الأرباح نفسه؟

فسر ريكاردو ذلك بظاهرة توجد في الزراعة ـ أى “قانون تناقص الغلة”، فبعد حد معين، لا ينمو عائد المحاصيل من مزرعة معينة بنفس سرعة كمية البذور المزروعة أو الجهد الذي يبذل في ريها، بسبب الاقتراب من حدود خصوبة التربة. إن الخلل في هذه النظرية، التي لازالت تدرس في علم الاقتصاد بـ “النيوكلاسيك” اليوم، هو عدم وجود أى سبب واضح لوجوب انطباقها على المنتجات الصناعية. كما إن الإنتاج الصناعي غالبا ما يكون أرخص نسبيا في دورات الإنتاج الطويلة أكثر من دورات الإنتاج القصيرة. وبالتالي، فلا يوجد سبب يوجب انخفاض معدل الربح.

وبالتالى، فإن تزايد عمق الأزمات وارتفاع مستوى البطالة يعد لغز غامض بالنسبة للاقتصاديين الرأسماليين اليوم. وكما يقول أحدهم، أندرو أوسولد من كلية لندن للاقتصاد:

..يبدو أن ارتفاع البطالة على مستوى دول العالم الغربى لا يمكن إيقافه… والحقيقة إن الاقتصاديين لا يعرفون لماذا تتجه البطالة إلى التزايد..

وعلي صعيد آخر، فلقد قدم ماركس تفسيرا لاتجاه معدلات الربح نحو الانخفاض ـوبالتالى لتزايد عمق الأزمات على المدى الطويل وارتفاع مستويات البطالة. وأوضح أن ذلك كامن في الطبيعة الخاصة للتراكم الرأسمالى. فكل رأسمالى يدخل في منافسة مع كل الرأسماليين الآخرين. والطريقة الوحيدة للصمود في هذه المنافسة هى إدخال ميكنة جديدة باستمرار، والتي ستتضمن كميات أكبر من “العمل الميت”.

وكل رأسمالى يضطر إلى إدخال كمية اكبر من الآلات التي توفر العمل بقدر الإمكان. لذلك ينمو الاستثمار أسرع من قوة العمل.

ويمكن ملاحظة ذلك اليوم إذا نظرنا إلى استثمارات كل الشركات تقريبا، نجد أنها مصحوبة  بدرجات متفاوتة من سياسات “إعادة الهيكلة” ـ عبر تخفيض عدد العمال المطلوبين لكل مهمة. وهذا لا يعنى دائما انخفاض إجمالى قوة العمل. فأحيانا ما تسمح زيادة كبيرة في الناتج بتزايد قوة العمل الإجمالية. ولكنها نادرا ما تتواكب مع نمو الناتج الإجمالى أو توسع الاستثمارات الإجمالية. فيميل معدل الاستثمار بالنسبة للعمل (الذي عرفه ماركس بأنه “التركيب العضوى لرأس المال”) إلى التزايد.

وتوجد الكثير من الدراسات الامبيريقية التي تبين حدوث ذلك على مدى ربع القرن الأخير. فقد أشار الاقتصادى الأمريكي “بايلى” في جريدة بوكنج بيبر الشهيرة في1981 إلى أن معدل رأس المال بالنسبة للعمل في صناعة الولايات المتحدة كان 43ر1 في 1957ـ1968 و 24ر2 في 72ـ1975، بينما كشف الإحصائى كوللين كالارك عن زيادة في معدلات رأس المال بالنسبة للناتج في بريطانيا من 87ر1 في 59ـ1962 إلى 19ر2 في 72ـ1975. ولاحظ أحد محررى الفايننشال تايمز ” صموئيل بريتان” متخبطا في 1977:

يوجد اتجاه ضمنى طويل المدى للتدهور في كمية الناتج عن كل وحدة من رأس المال في الصناعة… في البلاد الصناعية… ومن الممكن تكوين صياغة معقولة إلى حد ما بالنسبة لأى بلد بمفردها، ولكن ليس للعالم الصناعى ككل..

ويشير مقال في مجلة “ايكونوميك رفيو” لبنك لويدز ( يونيو 1989) كيف أنه : وفي المملكة المتحدة، كما هو الحال في الكثير من البلاد الصناعية الحديثة، يميل عدد السكان العاملين إلى الثبات، بينما يتزايد حجم رأس المال.

إن نمو معدل الاستثمار بالنسبة للعمل لا يشكل مشكلة بالنسبة للشركة الواحدة، فكل ما تهتم به شركة معينة هو الحصول على الماكينات الموفرة للعمل أسرع من منافسيها حتى تتمكن من الإنتاج أرخص منهم لدفعهم نحو الإفلاس. لذا ستميل كل شركة دائما للبحث عن أحدث الماكينات التي تحتاج أقل كمية من العمل، معتقدة أن ذلك سيمكنها من الاستحواذ على الأسواق من منافسيها ويزيد من أرباحها على حسابهم.

ولكن ذلك يمكن أن يشكل مشكلة للرأسمالية ككل. لأنه لو كل شركة أدخلت آلات موفرة للعمل، إذن سيزداد معدل الاستثمار بالنسبة للعمل على مستوى النظام ككل بصورة أكبر.

وكما رأينا، أن العملـ وليس الآلاتـهو الذي يخلق القيمة. وعندما تزداد الآلات أسرع من العمل، ينمو الاستثمار أسرع من القيمة. وإذا كانت حصة أصحاب العمل من القيمة التي يحصلون عليها كفائض قيمة، ثابتة، إذن سينمو الاستثمار أسرع كثيرا من الأرباح.

ولكن إذا كان الأمر كذلك، فسيتدهور حتما معدل الربح ـأى معدل الربح بالنسبة للاستثمار.

بكلمات أخرى، بقدر ما ينجح الرأسماليون في تحقيق التراكم، بقدر ما يزداد الضغط على مستوى النظام الرأسمالى، نحو انخفاض معدل الربح.

ومن الهام ملاحظة أن هذه الرؤية بكاملها تقوم على فهم أن ما هو جيد بالنسبة للرأسمالى الفرد، سيئ بالنسبة للنظام الرأسمالى ككل. يستثمر الرأسمالى الفرد لأنه يستطيع التفوق على منافسيه والاستحواذ على بعض الأرباح التي حصلوا عليها من قبل بزيادة التكنولوجيا المتقدمة والتي توفر العمل. ولكن لو فعل كل الرأسماليين ذلك، ينخفض إجمالى معدل الربح حتى يصيبهم جميعا. وهذا بدوره يزيد من الضغط التنافسى على كل منهم ويدفعهم إلى زيادة الاستثمار في التكنولوجيا التي توفر العمل وإلى انخفاض أكثر لمعدلات الربح على مستوى النظام.

ويدعى بعض الاقتصاديين أن ماركس لابد أن يكون مخطئا حول ميل معدل الربح للانخفاض، لان أي رأسمالي لن يقوم بالاستثمار إذا كان ذلك سيخفض أرباحه. كانت هذه هى الرؤية التي قدمها الاقتصادى اليابانى “أوكيشيو” وتبناها الكثيرون ممن كان ممكنا أن يشكلوا الجناح اليسارى من ناقدى الماركسية، مثل “جان ستيدمان”، في السبعينات والثمانينات. ولكن هذه الرؤية محض هراء، لأنها لا تفهم أن الرأسمالى الفرد يمكن أن يفعل أشياء لزيادة أرباحه الخاصة بينما يقوم في نفس الوقت، عن غير عمد، بتخفيض ربحية النظام ككل.

إن الاشتراكيين الذين تبنوا آراء “أوكيشيو” و”ستيدمان” انتهى بهم الأمر إلى موقف غريب في السبعينات والثمانينات بالإدعاء بعدم وجود ضغط يدفع معدلات الربح نحو الانخفاض، وعدم وجود سبب لأن تصبح الأزمة أشد صعوبة في تجاوزها. ومع ذلك في هذه السنوات انخفضت معدلات الأرباح بشكل أقل من تلك التي شهدتها عقود سابقة، وهزت فيها ثلاث أزمات النظام عالميا.

2) تزايد الاستغلال

 إن ميل معدلات الربح نحو الانخفاض، لا يعنى أن ذلك يحدث دائما، كما أن قانون الجاذبية لا يمنع بعض الأجسام (مثل الصواريخ والطائرات) من الصعود لأعلى، بل إن هذا الميل يعمل كضاغط على الأرباح نحو الانخفاض بينما يبحث الرأسماليون عن وسائل لتعويقه.

إن أكثر الوسائل وضوحا بالنسبة لهم للرد على هذا الضغط على الأرباح هو جعل العمال يعملون أشد ولمدة أطول مقابل أجور أقل. وصف ماركس ذلك بأن الرأسماليين يحاولون “زيادة معدل الاستغلال”. وقال أنهم يحاولون ذلك بثلاث طرق: 

أ) فائض القيمة المطلق

أولا، يمكن أن يجبر الرأسمالى العمال على الكد لمدة أطول دون زيادة أجورهم بنفس النسبة. فتكون النتيجة أن عدد الساعات “الزائدة” التي يقدمها العامل للرأسماليين يزداد “بشكل مطلق” ـلهذا السبب سمى ذلك ماركس بزيادة فائض القيمة المطلق.

هذه الطريقة لدفع الأرباح إلى أعلى كانت منتشرة جداً في الأيام الأولى للرأسمالية الصناعية، ويقدم كتاب رأس المال لماركس أمثلة كثيرة على ذلك. على أي حال، فلحقبة طويلة من القرن الحالي، بدا أن ذلك قد عفي عليه الزمن. ففي البلاد الصناعية المتقدمة على الأقل أجبرت مقاومة العمال الرأسماليين على قبول أسبوع عمل أقل وإجازات مدفوعة الأجر. وأصبح أسبوع العمل المكون من 72 ساعة في العصر الفيكتوري أسبوعا من 48 ساعة ثم تحول إلى 44 ساعة. وخلال الأزمة الاقتصادية في أوائل الثلاثينات ذهب الكونجرس الأمريكى أبعد من ذلك بالتصويت على مشروع كان مقدرا أن يؤدى إلى تخفيض أسبوع العمل إلى 30 ساعة. وبرغم أن ذلك المشروع رفض أخيرا بعد معارضة الشركات الكبيرة، كانت الفكرة الرائجة هى أن المستقبل سيشهد عمالا يتمتعون بكميات اكبر من وقت الفراغ.

وكما يقول هونيكت في دراسة عن ساعات العمل في الولايات المتحدة، كانت هناك تنبؤات واثقة أن:

ساعات العمل سوف تستمر في الانخفاض كما حدث لأكثر من مائة عام، وأنه قبل أن ينتهى هذا القرن، سيكون مطلوبا من العامل المتوسط أقل من 660 ساعة سنويا ـأى أقل من 14 ساعة أسبوعيا”.

ولكن “في الواقع وصلت حركة القرن طويلة المدى (لتخفيض عدد ساعات العمل) إلى نقطة تحولها في عام 1933، وانعكست العملية فجأة، مع تزايد عدد ساعات العمل لعشر سنوات”.

ففي مرحلة الأربعينات، استقرت ساعات العمل في أمريكا على مستوى جديد أعلى. ولكن بعد ذلك ومع مرحلة جديدة من الأزمة الاقتصادية بعد 1973 ازدادت مرة أخرى، كما يقول هونيكوت أيضا: 

قامت منظمة لويس هاريس بسلسلة من البحوث على مدى الـ 15 سنة الماضية حول متوسط أسبوع العمل في الولايات المتحدة. ووجدت أن متوسط أسبوع العمل قد زاد بنسبة 20% من 6ر40 ساعة في 1973 إلى 4ر48 ساعة في 1985.

وفي بريطانيا ازداد متوسط أسبوع العمل عنه في 1983، حيث يعمل العامل المتوسط من الذكور لمدة 1ر45 ساعة أسبوعيا شاملة الوقت الإضافي. وفي اليابان انخفض متوسط ساعات العمل في السنة حتى منتصف السبعينات، ولكنها استقرت بعد ذلك. وفي وسط أوروبا الغربية استمر اتجاه ساعات العمل للانخفاض حتى بداية الركود في التسعينات. ولكن منذ ذلك الوقت يمارس أصحاب العمل ضغطا متزايدا لعكس هذا الاتجاه، ويدعون أن هذه الساعات تجعل الشركات الأوروبية أقل قدرة على المنافسة بالمقارنة مع اليابان والولايات المتحدة. وتطلب ذلك إضراب نقابة عمال المعادن في ألمانيا لمنع أصحاب العمل من التراجع عن وعودهم في تطبيق أسبوع العمل المكون من 35 ساعة.

ب) “فائض القيمة النسبى”

ثانيا، يمكن أن يضغط الرأسماليون على العمال لزيادة كثافة العمل. أوضح ماركس أنه بمجرد أن يجد الرأسماليون أنهم لن يستطيعوا زيادة أسبوع العمل أكثر من ذلك في منتصف القرن التاسع عشر، سيتحولون لإجبار العمال على “زيادة إنفاق العمل في وقت محدد، وزيادة توتر قوة العمل وإحكام شغل الفراغات في يوم العمل..”.

وأصبح السباق نحو زيادة الإنتاجية وسواساً بالنسبة للشركات الكبيرة، كما اتضح من التوجه نحو”الإدارة العلمية” التي أسسها الأمريكى تايلور في تسعينات القرن التاسع عشر. كان تايلور يعتقد أن كل وظيفة تؤدى في الصناعة يمكن تقسيمها إلى مكونات جزئية وتوقيتها، حتى يتم تعيين الحد الأقصى لما يستطيع العامل إنجازه. بهذه الطريقة، اصبح ممكنا تقليل أى انقطاع في إيقاع العمل، بإدعاء تايلور أنه يمكن زيادة كمية العمل المبذول يوميا زيادة مقدارها 200%.

وجدت التايلورية التعبير الكامل عنها مع إدخال خط التجميع في مصانع سيارات هنرى فورد. إن السرعة التي يعمل بها الناس الآن اعتمدت على السرعة التي يتحرك بها الخط، بدلا من مبادرتهم الفردية. في صناعات أخرى، تحقق نفس الضغط على الناس للعمل بأقصى سرعة عبر زيادة خضوعهم للرؤساء، مثلا بتركيب آلات العد الميكانيكية على الآلات لتعلن معدلات العمل المنجزة. واليوم، يتم تجريب نفس المنهج في مختلف وظائف عمال الياقات البيضاء مع زيادة استخدام الحساب، ومحاولات ربط الأجر بالناتج، واستخدام عداد الضربات على مفاتيح الكمبيوتر، وهكذا.

إن زيادة شدة العمل لها ثلاث ميزات بالنسبة للرأسماليين:

الأول، أن من يزيد شدة العمل لعماله يكون قادرا على الإنتاج أكثر في نفس الوقت من منافسيه وهكذا يغرقهم في السوق. ولكنه يفقد هذه الميزة بمجرد أن ينسخ الرأسماليون الآخرون طريقته ويزيدون من إنتاجية عمالهم. لهذا السبب فإن السباق نحو زيادة الإنتاجية لا ينتهي، فكل ما يفعله هو إيقاع العمال في مختلف الشركات في فخ معركة عبثية لا تنتهى من العمل الشاق أكثر من بعضهم البعض.

ولكن المكسب الثانى للرأسماليين أكثر دواما، فزيادة الإنتاجية تعنى أن العمال ينتجون ما يعادل وسائل معيشتهم في وقت أقل من ذى قبل. هكذا فبدلا من قضاء، مثلا، أربع ساعات لإنتاج السلع الضرورية لتجديد قدرتهم على العمل (أى قوة عملهم)، فيمكنهم أن يفعلوا ذلك في ثلاث ساعات أو حتى ساعتين. وإذا استمر يوم العمل بنفس الطول، فسوف يزداد الجزء الذي يذهب إلى الرأسمالى كفائض قيمة. وبالتالي يزداد فائض القيمة بالنسبة لقوة العمل، برغم أن يوم العمل الكلى يظل ثابتاً. لهذا السبب، أطلق ماركس على هذه الظاهرة “زيادة فائض القيمة النسبى”.

إن زيادة كثافة الإنتاج لها ميزة ثالثة بالنسبة للرأسماليين، خاصة في أوقات التغير التكنولوجى السريع، فهى تمكنهم من الحصول على عمل أكثر من آلاتهم قبل أن تصبح قديمة. ويكون ذلك مفيدا بشكل خاص بالنسبة  لهم إذا ربطوا بين زيادة كثافة العمل ونظام الوردية ومرونة العمل الذي يمكنهم من إدارة الماكينات طوال ساعات اليوم وكل أيام الأسبوع.

وقد وصلت أهمية زيادة كثافة العمل لدرجة أن الرأسماليين، أحيانا، يكونون على استعداد للمساومة والقبول بتقصير يوم العمل في مقابل زيادة الإنتاجية. لاحظ ماركس:

أينما نجد عملا، لا يجرى بشكل منتظم، ولكنه يتكرر يوما بعد يوم بانتظام لا يتوقف، سنتوصل حتما إلى نقطة حيث ينفي كل من طول يوم العمل وكثافة العمل بعضهم البعض، بطريقة تجعل تطويل يوم العمل ملائما فقط مع كثافة أقل، وتتلائم درجة أعلى من الكثافة فقط مع يوم عمل أقصر.

ومن جانب الرأسماليين أدرك تايلور ذلك بوضوح. وطبق أحد نظرياته لزيادة كثافة العمل على مجموعة من عاملات الفحص. وكن يعملن لمدة عشر ساعات ونصف، ولكنه لاحظ أنهن يقضين بعض الوقت في الحديث مع بعضهن البعض. فخفض يوم العمل ساعتين وأبعد المقاعد فيما بينهن بحيث لا يستطعن الحديث. وأدى ذلك إلى زيادة هائلة في إنتاجيتهن، برغم أن ذلك أرهقهن كثيرا لدرجة أن انتباههن للعمل قد انخفض. فما كان من تايلور إلا أنه منحهن أربع راحات لمدة عشر دقائق في كل مرة أتاحت لهن الفرصة للتمشية والحديث إلى بعضهن، فاستعدن انتباههن للعمل.

وبطريقة مماثلة بمعنى ما، حاول هنرى فورد، علاوة على العمل بأقصى حد، التمسك بأن يكون لعماله فترات محددة من “وقت الفراغ” ـوحاول الإشراف عليها حتى لا يقضيها العمال في أشياء مثل شرب الخمور التي تضعف قدرتهم على العمل.

ومازال نفس هذا الاتجاه يسيطر في بعض الشركات اليوم. ووفقا لما جاء في تقرير عن اليابان نُشرته جريدة الفايننشال تايمز: “إن كثير من الشركات منعت الساعات الإضافية… أعلنت شركة اوكى الكهربائية لصناعة الآلات أنه سوف يتم تقييم باحثيها على أساس نتائج البحث بدلا من عدد ساعات العمل”. وتستطرد فتشير أنه في بريطانيا أيضا، يوجد “قلق حول العمل الزائد” حيث “أدرك الكثير من المديرين، مثلا، أنه ما لم يسمح للموظفين بالإجازات وممارسة الحياة خارج العمل سيعجزون عن العمل بكفاءة”.

في الواقع، هذا الحديث عن أسبوع عمل اقصر في مقابل زيادة كثافة العمل نادرا ما يترجم إلى واقع في هذه الأيام. ففي اليابان استمرت ساعات العمل في السنة 2100 ساعة لأكثر من عشر سنوات، حيث يعمل واحد من كل ستة عمال ذكور لمدة تزيد عن 3100 ساعة سنويا. وفي بريطانيا لا زال المديرون يفضلون الضغط على العمال للعمل ساعات أطول عوضا عن استخدام عمال جدد.هكذا يعمل العامل اليدوى المتوسط وقتا إضافيا لمدة 9 ساعات أسبوعيا، بينما يبذل المديرون في قطاعات مثل التعليم العالى قصارى جهدهم لتطبيق أسبوع عمل أطول وإجازات أقل على الموظفين. وفي ألمانيا يبذل أصحاب العمل، بعد فشل محاولاتهم لتحطيم اتفاقية أسبوع العمل المكون من 35 ساعة، الآن قصارى جهدهم لإجبار العمال على قبول العمل يوم الأحد. وكما ذكر راينر هوفمان، من اتحاد النقابات الأوروبى، لجريدة الفايننشال تايمز “إن الهم الأساسى لأصحاب العمل الأوروبيين هو تخفيض تكلفة وحدة العمل إلى الحد الأدنى لصالح القدرة التنافسية”. ويعنى ذلك محاولة إجبار العمال على قبول أنماط عمل أكثر “مرونة”، مع زيادة عمل الوردية، والعمل أكثر في الإجازات الأسبوعية، وقبول أنظمة ساعات العمل السنوية، والذي يجبر العمال على أسبوع عمل أطول من المعتاد.

غير أن هناك سبب بسيط يفسر لنا لماذا يكون الاتجاه اليوم مرة أخرى نحو زيادة وليس تخفيض ساعات العمل؟ فقد أشار ماركس في رأس المال إلي أن هناك حدود للمدى الذي يمكن لزيادة كثافة العمل أن تعوض الضغط على معدلات الربح، خاصة إن هذه الضغوط تنشأ لأن الكمية الكلية من قوة العمل الموظفة على مستوى النظام لا تزداد بنفس سرعة الاستثمارـبل إن، من الممكن فعليا أن تبدأ في الانخفاض بشكل مطلق، فمهما تم إجبار العمال على عمل أشد، فإن مجموعة صغيرة من العمال لا يمكنها أن تنتج فائض قيمة بالقدر الذي تنتجه مجموعة كبيرة.

ويبين ذلك مثال بسيط، نفترض، أن هناك مليون عامل يعمل كل منهم 8 ساعات يوميا، تكفي أربع ساعات منها لتعويض صاحب العمل عن تكلفة أجورهم. سوف تحصل الطبقة الرأسمالية منهم على ما يعادل 4 مليون ساعة من فائض القيمة يوميا.

ولكن ماذا سيحدث لو تم تخفيض قوة العمل إلى 000ر100 عامل كنتيجة لإدخال تكنولوجيا  حديثة تزيد الإنتاجية عشر مرات؟

يستطيع العمال الآن تغطية تكلفة أجورهم في عُشر الأربع ساعاتـأى 24 دقيقة. ويحصل أصحاب العمل على 7 ساعات و36 دقيقة فائض قيمة من كل عامل. ولكن إجمالى فائض القيمة من قوة العمل ككل لا يزداد. وفي الواقع، ينخفض من 4× 000ر1000 = 4 مليون ساعة، إلى 000ر100 ×7 ساعات و36 دقيقة = 760000 ساعة. وحتى لو ازداد الضغط أكثر على العمال بزيادة شدة العمل إلى الضعف، ستزاد كمية العمل الزائد التي يقدمها كل عامل فقط بـ 12 دقيقة إضافية لكل عاملـأو فقط 12 دقيقة × 000ر100= 20000 ساعة لهم جميعا.

بهذه الطريقة، يدرك الرأسماليون أخيرا أن هناك حدود لقدرتهم على تعويض انخفاض معدل الربح عبر زيادة إنتاجية عمالهم. وعندما يحدث ذلك، سوف يزداد لديهم إغراء محاولة زيادة ساعات العمل. وفي مثالنا، فإن كل ساعة إضافية يمكن إجبار العامل على تقديمها دون زيادة في الأجر تضيف 000ر100 ساعة إلى فائض القيمة ـأى خمسة أضعاف ما يقدموه من مضاعفة شدة العمل.

بالطبع، في الممارسة نادرا ما يستطيع الرأسماليون إجبار العمال على العمل لساعات أطول دون تقديم أى شيء في المقابل. وعادة ما يدفعون مقابلا للوقت الإضافي. ولكن غالبا ما يعتبرونها في صالحهم، لأن كثير من العمال سوف يتأقلمون مع أسعار الساعات، ما دام هناك وقتا إضافيا كافيا يمكنهم من معادلة النتيجة.

جـ) “الإفقار” (تزايد البؤس)

الوسيلة الثالثة بالنسبة للرأسماليين لمحاولة رفع مستويات الأرباح هى التخفيض المباشر للأجورـأو كما وضعها ماركس “الإفقار المطلق للعمال”. ولأن ماركس استخدم هذه العبارة فقد ظهرت الكثير من الهجمات المباشرة على تحليلاته الاقتصادية منطلقة من الادعاء بأن ماركس أكد أن العمال دائما سيزدادون فقرا في ظل الرأسمالية. وهذا هو السبب، مثلا، الذي يطرحه وليام كيجن، المحلل الاقتصادى في صحيفة الاوبزيرفر، لنبذ أفكار ماركس في كتابه “شبح الرأسمالية”.

ولكن ماركس لا يدعى أن الأجور تنخفض دائما في ظل الرأسمالية. لقد كان يعيش في إنجلترا في الربع الثالث من القرن التاسع عشر حيث رأى أن ذلك قطعا لا يحدث. وقد رفض بوضوح نظرية “القانون الحديدى للأجور” للقائد الاشتراكى الألمانى لاسال، الذي اعتبر أن الأجور لا يمكن أن ترتفع أبدا. ولكنه رأي أن الرأسماليين سيحاولون تعويض الضغط على معدلات الربح نحو الانخفاض بتخفيض الجزء من الناتج الذي يذهب للأجور.

عندما كان الناتج الإجمالى في تزايد، كان ذلك مناسبا تماما لزيادة محدودة في مستوى معيشة العمال. ومن الممكن أن يحدث “بؤس نسبى” عندما ينخفض نصيب العمال من الناتج، دون أن تسوء أحوال العمال أنفسهم.

وفي الممارسة، يحاول الرأسماليون دائما دفع عمالهم إلى زيادة الإنتاج في مقابل تحسينات محدودة في الأجور. لذا شهد العمال في البلاد الأوروبية الرئيسية في السبعينات والثمانينات تحسنا طفيفا في مستويات معيشتهم حتى خلال فترة من الأزمات. ولكنهم دفعوا ثمن هذا التحسن عبر زيادة العمل في الوردية، وزيادة التوتر.

وعلى سبيل المثال، ذكرت دراسة أجريت في 1978 عن الرجال ممن بلغوا 26 سنة في بريطانيا أن 38% منهم يشعرون أنهم تحت ضغط عصبى حاد في العمل، وأعلنت دراسة في 1982 أن 19% من الرجال و 23% من النساء في الأعمال غير الماهرة ومتوسطة المهارة “يعانون من التوتر العاطفي” وكشفت دراسة في الثمانينات أن “عمال الآلات” “يفرزون معدلات عالية من مادة الأدرينالين أثناء ساعات الراحة.. ويشكو العمال من عدم قدرتهم على الهدوء بعد عمل طوال اليوم”. بالإضافة إلى أنهم أشاروا إلي “التعب الشديد الذي يجعلهم عاجزين عن التفاعل مع زوجاتهم وأطفالهم بعد العمل طول اليوم”. 

ويبدو أن الصورة تزداد سوءا، فتبين الأبحاث التي قامت بها النقابات السويدية أن نسبة العمال الذين يشعرون أن أعمالهم تتضمن “درجة عالية من التوتر أو الضغط الذهني” ازدادت من 9% في 1970 إلى 15% في 1980، بينما الأعداد التي تشكو من “التوتر إلى حد ما” ارتفعت من 22% إلى 37%، ومعظمهم يلقون باللوم على “تسارع إيقاع العمل”. وقد كشف المعهد السويدى للدراسات الاجتماعية عن “الزيادة المستمرة في نسبة السكان الذين يعانون من شروط عمل شاقة”. وبينت دراسات يابانية أنه بدلا من تخفيض أعباء العمل، أدت الزيادة في استخدام الآلات وتكنولوجيا الإلكترونيات إلى زيادة الوقت الإضافي، ومنح إجازات أقل، وتوتر ذهنى اكبر في المصانع وفي مواقع الإنتاج. وفي بريطانيا بيّن أحدث الأبحاث [أجريَ عن الملايين]، قام به العالم النفسى ديفيد لويس، أن “عمال المكاتب يعملون في ظل إجهاد شديد ويقتربون من نموذج أسبوع العمل اليابانى المكون من 12 ساعة يوميا والعمل المسائى، حيث “يعمل عمال المكاتب أشد من ذى قبل مع انخفاض وقت الراحة إلى 20 دقيقة”.

عند نقطة معينة يمكن أن ييأس الرأسماليون من زيادة أرباحهم بالقدر الكافي فقط من خلال تخفيض القسم من الناتج الذي يخص العمال ويبدأون في اتباع سياسة محاولة تخفيض الأجور بشكل مطلق. ويحدث ذلك في الولايات المتحدة على مدى الـ 20 عاما الماضية. فقد انخفض متوسط الأجور، حيث فرض أصحاب العمل على النقابات “تنازلات” تضمنت تخفيضا للأجور واتبعوا استراتيجية “الهروب” بنقل المصانع من مناطق النقابات القوية إلى مناطق تضعف فيها النقابات، وتخفيض الأجور إلى حوالى النصف في هذه العملية.

وتتم الآن محاولات لتكرار هذه العملية في بريطانيا، مع استخدام “مقاولات الباطن” لإجبار العمال على قبول أجور أقل للحفاظ على وظائفهم في مجالات مثل النظافة، والخدمة، وقطاعات من الخدمة المدنية.. الخ. وعندما تفشل هذه الوسائل، تهدد الشركات بنقل الإنتاج عبر البحار، إلى بلاد يكون فيها العمال أقل تنظيما وأقل أجورا.

إن الميول نحو “زيادة فائض القيمة المطلق” و “فائض القيمة النسبى” و”زيادة البؤس” ليست قوانين للاقتصاد الرأسمالى، حيث إنها ليست اتجاهات هيكلية لا يمكن مقاومتها. ولكنها وسائل يلجأ إليها الرأسماليون عندما تتعرض معدلات الربح للضغط. وهى أيضا وسائل تثير المقاومة العمالية بدرجات متفاوتة، مؤدية إلى تأكيد العداء في المجتمع وتزيد من احتمالات الصراعات الطبقية الواسعة.

3) بشاعة لا توصف

يحاول الرأسماليون زيادة معدل الاستغلال لتعويض الانخفاض في معدل الربح ولحماية أنفسهم من الأزمة.

وتنطلق أحد المبادئ الأساسية لنموذج النقديين من مدرسة النيوكلاسيك الاقتصادية من أنه من الممكن تجنب الأزمة لو نجح الرأسماليون في عمل ذلك. وتتمسك بأنه، إذا انخفضت الأجور بما يكفي، سيؤدى ذلك إلى نقطة فيها تنخفض “التكاليف الحدية للإنتاج عن الأسعار وسوف تحافظ على الربحية”. وعندئذ سيبدأ الرأسماليون الاستثمار من جديد وسيزداد سوق السلع حتى يحدث التوظف الكامل. إن مفتاح حل الأزمة، كما تصر هذه المدرسة، هو كسر “الاحتكارات النقابية” للعمل والتي تمنع انخفاض الأجور.

ولكن مجمل تاريخ الرأسمالية يبين أن زيادة معدل الاستغلال بهذه الطريقة لا يخفف من الأزمات. فقد حدثت نفس الأزمات بنفس الحجم تماما في بلاد فيها نقابات ضعيفة أو لا توجد بها على الإطلاق، كما حدثت في البلاد التي توجد بها نقابات قوية، ففي أوائل الثلاثينات علي سبيل المثال لم يحقق ضعف النقابات الأمريكية والبريطانية والانعدام الفعلى للنقابات في إيطاليا الفاشية هجوم الأزمة. ولم يمنع إضعاف النقابات في بريطانيا والولايات المتحدة في ظل تاتشر وريجان في الثمانينات والتسعينات أن تصبح الأزمة أشد عمقا منها في الأربعينات والخمسينات والستينات عندما كانت النقابات أقوى بكثير.

ولقد كانت أحد النقاط القوية لدى الاقتصاديين الكينزيين في الثلاثينات والأربعينات ضد الأفكار القديمة هى أن تخفيض الأجور من الممكن فعلا أن يزيد عمق الأزمة، وليس أن ينهيها. وليس خافيا على أحد أن البطالة تزداد مع هجوم الأزمة لأن الشركات لا تستطيع بيع السلع التي تنتجها. وتخفيض الأجور يقلل إجمالى سوق السلع الاستهلاكية، ويعنى بالتالى أن عددا أقل من البضائع يمكن بيعه. إذن فالأثر المباشر لتخفيض الأجورـأو لزيادة الإنتاجية دون زيادة الأجورـهو اتساع الفجوة بين ما يتم إنتاجه وما يمكن أن يشترى. إنه تعميق للأزمة.

وطبعا، لا يهم ذلك لو ازداد الاستثمار أوتوماتيكيا للتعويض عن أى انخفاض في الاستهلاك نتيجة لتخفيض الأجور. وبالتالي سوف يعوض الطلب على المبانى الصناعية الجديدة والآلات، الانخفاض في الطلب على السلع الاستهلاكية. ولكن لا يوجد ميكانيزم يؤكد أن الانخفاض في الاستهلاك يعوض تلقائيا بزيادة في الاستثمار. وبالفعل، إذا توقعت الشركات انخفاض الاستهلاك، فمن المحتمل أن يخافوا من انكماش سوق منتجاتهم فيخفضون استثماراتهم لتجنب التوصل في النهاية إلى امتلاك مصانع قادرة على إنتاج بضائع أكثر بكثير مما يستطيعون بيعه.

ولم يستطع الكلاسيكيون الجدد، الأرثوذكس، أبدا الرد على انتقادات الكينزيين العنيفة لموقفهم. وكل ما فعلوه حتى الآن هو التأكيد على أن، الأزمات لو لم تحل نفسها، فإن السبب في ذلك هو أن مقاومة العمال لانخفاض الأجور لم يتم تحطيمها بالقدر الكافي.

ولكن دائما ما نجد أوجه قصور أيضا في الرؤية الكينزية ـذلك القصور الذي يعتري أيضا رؤية بعض الماركسيين المتأثرين بالكينزية، أمثال الأمريكيين بول باران وبول سويزى، وذلك لأنهم لم يستطيعوا تفسير لماذا يجب أن يظل الاستثمار منخفضا للدرجة التي يؤدى فيها إلى أزمات أعمق وفترات رخاء أقل. ويرجع هذا إلى قبول الكينزيين للكثير من أفكار النيوكلاسيك العقائديين ولذا لم يتمكنوا من إدراك الوجود الحتمى للضغط طويل المدى على الأرباح نحو الانخفاض والذي لا يمكن إيقافه عبر تخفيض الأجور لذلك تحدث كينز نفسه عن انخفاض فيما اسماه ” الكفاءة الحدية لرأس المال” وتوقع أن يستمر ذلك في المستقبل. غير أن معظم اتباعه تخلوا عن هذه الفكرة وبنوا أفكارهم على فقرات من كتاباته التي ترجع الأزمة إلى الحالة النفسية لرجال الأعمال بدلا من وجود اتجاه هيكلى ما في النظام الرأسمالى. تدعى هذه الفقرات أنه، لو أن الشركات قامت باستثمارات، يكون ذلك بسبب ” الروح الحيوانية ـبسبب الحافز العفوى للفعل بدلا من الخمول”. ولكن، لو خمدت الروح الحيوانية وتراجع التفاؤل العشوائى… ستضعف المؤسسة وتموت، لدرجة أن “تتفاقم درجة الأزمات والانتكاسات”.

هكذا ادعى الكينزيون أن الميل نحو الأزمات يمكن إيقافه عبر التدخل الحكومى المحدود في الاقتصاد بهدف خلق شعور بالتفاؤل حول احتمالات المستقبل بين أولئك الذين يديرون الشركات الكبيرة. وجادلوا بأنه في ظل الأزمة، يجب أن تنفق الحكومة الأموال لتحبط عمليات تخفيض الأجور. بهذه الطريقة، سوف تخلق سوقا للسلع، وتسمح للشركات بزيادة إنتاجها ويتم تشجيع الاستثمار عبر جعل الأمور تبدو وكأن الأسواق ستنمو أكثر فأكثر. وهو ما سيسمح حسب رأيهم، بزيادة الثروة الناتجة عن انتعاش الاقتصاد من الأزمة بزيادة في كل من دخول الطبقة العاملة والأرباح.

سيطرت الأفكار الكينزية على الفكر الاقتصادى السائد خلال الربع القرن الذي تلي أزمة الثلاثينات كما رأينا. ولكنها فقدت تأثيرها مع أزمة منتصف السبعينات، فقد فشلت الدرجة العالية من التدخل الحكومى في الاقتصاديات الرئيسية في إيقاف الأزمة وبدا أن النتيجة الوحيدة هى تفضيل مستوى عالى من التضخم على زيادة معدلات البطالة. وتراجعت الحكومات ورجال الأعمال في كل مكان تقريبا إلى الأفكار القديمة التي تؤكد علي أن حل الأزمة يكمن في الربط بين القوانين المعادية للنقابات وتزايد البطالة لتخفيض الأجور.

بيد أن الاقتصاديين المتأثرين بالكينزية، مثل جالبريث في الولايات المتحدة وويليام كيجان وويل هوتون وبول آورميرود في بريطانيا، استطاعوا الكشف عن ثغرات هائلة في هذه العقيدة الجديدة. ومع ذلك، فهم يستطيعوا الإِشارة إلى أى طريق أكيد للتخلص من تزايد حدة الأزمة. والعلاج الذي يقدمونه لانخفاض الاستثمار يتمثل في حث بريطانيا وأمريكا على نسخ وسائل الاقتصاد الألمانى واليابانىـبرغم أن نفس هذه الاقتصاديات تمر بأزمات حادة، وتريدها بديلا عن ترك الأمور ببساطة إلى السوق لتزيد من بؤس العمال.

لكن كينز كان محقا في مسألة واحدة، فتخفيض الاستهلاك من المحتمل أن يزيد من تأثير أى أزمة. لأنه يعنى زيادة عدم التوازن بين القدرة الإنتاجية للاقتصاد وبين مستويات استهلاك الجماهير. وسيتطلب ذلك أن يسد الاستثمار فجوة هائلة إذا كان لكل البضائع التي يتم إنتاجها أن تباع. وفي حالة عدم القدرة على بيعها، فإن احتمال وجود “فائض في الإنتاج” سيتعاظم.

وإذا لم تكن معدلات الأرباح مرتفعة بما يكفي لتشجيع ذلك الاستثمار، ستحدث إذن أزمة عميقة. سيجد الرأسماليون أنفسهم في معضلة كبيرة. فلو زادوا استغلالهم للعمال لزيادة الاستغلال لتوسيع سوق السلع الاستهلاكية، ستنخفض معدلات الأرباح ولن يزداد الاستثمار بما يكفي لإيقاف تطور الأزمة على الرغم من ذلك.

وينشأ هذا التخبط بسبب تقدم التراكم إلى ذلك المستوى حيث يوجد تناقض هائل بين حجم الإنتاج وحجم قوة العمل. ويعبر ذلك عن نفسه من خلال عدم قدرة قوة العمل على إنتاج أرباح كافية لتتناسب مع مستوى الاستثمار المطلوب، بما يؤدى إلى رفض الرأسماليين للاستثمار وعجز الشركات عن بيع منتجاتها.

في مجتمع عقلانى لن تكون هناك مشكلة من هذا النوع، وذلك لوجود حاجة مطلقة للسلع التي يتم إنتاجها، حيث أن أولويات المجتمع هى تلبية حاجات الجماهير. ولكن القوة الدافعة للنظام الحالى ليست تلبية حاجات الجماهير. فأولئك الذين يسيطرون على رأس المال يتصرفون بطريقتهم هذه من أجل زيادة أرباحهم، وزيادة ما يمتلكونه من رأس المال.

4) كيف يستمر النظام في الحياة

يفترض علم الاقتصاد التقليدى أن الرأسمالية ستبقى إلى الأبد، ويعتبر الأزمات حادثة تقع في بعض الأحيان. وعلى النقيض، يبين تحليل ماركس أن الأزمات الحادة مرض مزمن في النظام. ولكن هذا لا يعنى أن الرأسمالية تنهار ببساطة من تلقاء ذاتها، أو أن الأزمات تستمر للأبد. شهد النظام في 125 سنة منذ انهى ماركس كتابه رأس المال، فترات رخاء ـبعضها  استمر لفترة طويلة جداً  من الوقتـكما شهد الأزمات، ووجدت فترات تحسنت  فيها مستويات معيشة العمال، كما وجدت فترات تحولت إلى الأسوأ.

والأكثر من ذلك، توسع النظام بشكل هائل على المدى الطويل، عندما بدأ ماركس أبحاثه في أربعينات القرن التاسع عشر، كانت الرأسمالية الصناعية تميز فقط شمال إنجلترا، وأجزاء من بلجيكا والساحل الشمالى الشرقى في الولايات المتحدة، مع مواقع صغيرة في فرنسا وألمانيا. وبحلول يوم وفاته في ثمانينات القرن التاسع عشر، كانت الرأسمالية سائدة في أوروبا الغربية تماما وفي عموم أمريكا الشمالية، وكانت تتقدم بخطواتها الأولى في اليابان. واليوم، تسيطر الرأسمالية على كل بلاد العالم. اليوم، يعادل إجمالى الناتج الاقتصادى العالمى أربعة أو خمسة أضعاف ما كان عليه في 1945، و20 أو 30 ضعف ما كان عليه في أربعينات القرن التاسع عشر.

لو تحدث تحليل ماركس للرأسمالية ببساطة عن ركود النظام الرأسمالى أو تدهوره، لكان من الممكن بوضوح أن يكون مخطئا تماما مثل تلك المدارس الاقتصادية الأرثوذكسية التي تحدثت فقط عن التوسع في النظام.

ولكن في الواقع، أكد ماركس على أنه مع اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض توجد أيضا “عوامل تعويق” معينة.

فماذا كانت عوامل التعويق هذه؟ بعض هذه العوامل، بحثناها بالفعل، أي الإجراءات المختلفة التي يأخذها الرأسماليون لزيادة معدل الاستغلال وبالتالى يرفعون معدلات الربح. ولكن هذه الإجراءات في حد ذاتها لا يمكنها إيقاف الأزمة. ولا يمكنها أيضا إيقاف الاتجاه طويل المدى لتدهور معدلات الربح، لأنه، كما رأينا أيضا، الاستغلال الكثيف لعدد قليل من العمال لا يمكن أن ينتج فائض قيمة بنفس الحجم الذي تنتجه مجموعة اكبر من العمال تستغل بكثافة أقل.

هناك عامل آخر ساعد على زيادة معدلات الأرباح في عصر ماركس هو التجارة الخارجية. في ذلك الوقت كانت الاقتصاديات الرأسمالية الكاملة محاطة بمجتمعات ما قبل رأسمالية اكبر منها كثيرا في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. واستطاع الرأسماليون استخدام أبشع الوسائل (نهب الهند، نقل الملايين من العبيد من أفريقيا إلى الأمريكتين، إجبار الصينيين  على شراء الأفيون، احتلال مصر) لإحكام القبضة على ثروات هذه المجتمعات وبالتالي  زيادة أرباحهم الخاصة.

غير أن هذه الطريقة لا تصلح لوقت طويل اليوم. الآن والعالم بكامله رأسمالي يستطيع رأسماليو بلد معين تحسين موقفهم عبر إجبار حكام بلاد أخرى على بيع بضائعهم بأثمان رخيصة ـ مثل بترول الشرق الأوسط في الستينات وأوائل السبعينات، ولكن ذلك يؤدي إلى إعادة توزيع الأرباح بين البلدان الرأسمالية، وليس زيادة الأرباح على مستوى العالم الرأسمالي ككل.

عامل التعويق الثالث كان بالنسبة لماركس ذا أهمية حيوية، ويظل هكذا اليوم، وذلك هي الطريقة التي يكون بها لكل أزمة منفردة أثراً على الاتجاهات طويلة المدى داخل النظام. 

إن الأزمات مؤذية جداً بالنسبة للرأسمالية. فهى تخلق ذعرا واسعا في أوساط الطبقة الحاكمة والبؤس الشديد بين جماهير الناس. ولكنها أيضا لها ميزات بالنسبة للرأسماليين الأفراد الذين يستطيعون تجنب الإفلاس. لأنهم يجدون بإمكانهم شراء أصول الرأسماليين الآخرين بسعر  رخيص ويستطيعون استغلال ارتفاع مستويات البطالة لتخفيض الأجور.

هكذا أثناء أزمة وول ستريت الكبرى في 1929 استطاع بعض الرأسماليين التراجع والانتظار حتى انخفضت أسعار الأسهم وبعد ذلك اندفعوا لشراء شركات بكاملها بسعر رخيص. وفي الأزمة الأحدث في أوائل السبعينات انخفضت قيمة مبنى كاناري وورف للتنمية في أقصى شرق لندن، والذي تكلف بناؤه بليون جنيه إسترلينى إلى 60 مليون. كان ذلك مميتاً بالنسبة لملاكه الأصليين، أخوان رايخمان الذين أزيحوا من السوق. ولكنه كان هبة من الله للشركات التي اشترته بسعر المزاد.

تتغلب الشركات الرأسمالية على الأزمة بواسطة الكانيبالية، أي أن يأكل بعضها البعض الأخر، ويستطيع الأحياء أن يستحوذوا على وسائل الإنتاج بسعر أقل بكثير من قيمتها الأولى ويجدون بإمكانهم البدء في توسيع الإنتاج مستخدمين أحدث المصانع والآلات بدون دفع السعر الكامل لها. ويمنع ذلك تزايد تكلفة الاستثمار أسرع كثيراً من إجمالي قوة العمل وتخفيف الضغط على معدلات الربح.

تفرض  الأزمة “إعادة هيكلة” الرأسمالية،  حيث تتنحى جانبا الكثير من الشركات المنفردة وتسمح للباقين بزيادة أرباحها على حساب الأخرى. وبسبب “تدمير” جزء كبير من رأس المال خلال الأزمة، فالأزمة لها ذلك الأثر المتناقض الذي يستعيد معدلات الأرباح والتوسع في الصناعة.

وكما يلاحظ أحد المؤرخين للأزمة الاقتصادية الحديثة، عندما اندفعت الولايات المتحدة بسرعة في الركود في 1884 تأتي الأزمات بتتابع سريع، ارتفعت البطالة وانخفضت الأجور من 25 إلى 30% في النسيج ومن 15 إلى 22% في صناعة الحديد والصلب، ولكن مجموعة شركات كارناجي استطاعت توفير أرباح هائلة خلال فترة الازدهار السابقة ولهذا استطاعت أثناء الكساد شراء المصانع المنافسة لها بسعر رخيص. وكان هناك تحسنا عاماً في المناخ الاقتصادي في أوائل 1886.

وبطريقة مماثلة، واكب الانتعاش من الأزمة في بريطانيا في أوائل تسعينات القرن التاسع عشر موجة من التسابق من خمسة بنوك كبيرة على شراء الشركات (باركليز، لويدز، ميدلاند، ناشيونال بروفيشنال، ويست منيستر) والتي مكنتهم من الاحتكار شبه التام. وتوازنا مع ذلك، تركزت الملكية في صناعة النسيج والتعدين، وتم ترشيد شامل للصناعة، وإدخال تكنولوجيا جديدة في صناعة الأحذية والطباعة، وإغلاق العديد من المصانع الأمر الذي أجبر العمال على قبول أجوراً أقل وشروط عمل أسوأ.

أعاقت الأزمات ميل الاستثمار للارتفاع بمعدلات أسرع كثيرا من قوة العمل خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولكنها لم تقض على هذا الاتجاه تماماً. وحسب أحد التقديرات تضاعف معدل الاستثمار بالنسبة للعمل فيما بين 1880و1912 وحسب تقدير أخر ارتفع بنسبة 25% فيما بين 1900و1918، بينما يرد في تقدير ثالث أن معدلات الاستثمار بالنسبة للناتج ارتفعت من 2.ر2% في 1864 إلى  16ر2% في أعوام 75ـ 1883. 

وحسب ما أوضحت دراسة هامة لجلمان، أن معدل الاستثمار بالنسبة للعمل في الولايات المتحدة “يكشف عن اتجاه ثابت إلى حد ما للارتفاع” في تلك الفترة برغم “أنه كان بطيئاً إلى حد ما بالمقارنة مع المثال الافتراضي الذي قدمه  ماركس” كانت النتيجة أنه مع نهاية القرن، كما لاحظ المؤرخ إريك هوبسباوم:

“كل من الاقتصاديات الصناعية الجديدة والقديمة عانت من مشكلات التسويق وهامش الربح ومع تدهور الأرباح الهائلة للصناعيين الأوائل سعى رجال الأعمال بلهفة إلى مخرج من الأزمة”.

شهدت بريطانيا حالة مشابهة في الثمانينات. أدت أزمة 80ـ 1982 إلى ما يشبه إغلاق ثلث القدرة الصناعية، برغم أن الشركات كانت تنتج حوالي نفس الكمية كما كانت من قبل بحلول 1987. غير أن ذلك أبطأ  بقدر كبير من نمو الاستثمار بالمقارنة مع العمل. وكما أوضح المقال الوارد في نشرة لويد بنك والمذكور أنفاً:

“كانت كثافة رأس المال ترتفع، ولكن بمعدلات متدهورة فقد كانت ترتفع بمعدل 4% في 1970، ثم تباطأت إلى 2% بحلول عام 1982”.

في شروط كهذه، يمكن للزيادة في استغلال العمال فعلاً ـ بقبولهم لتخفيضات طفيفة في الأجور مع شروط عمل أسوأ خوفا من البطالةـأن تزيد معدل الربح قليلاً. ولكن مرة أخرى، كما حدث منذ قرن مضى، فإن انتعاش معدلات الربح كان فقط انتعاشا جزئياً، يزيد عن مستوى أوائل الثمانينات، ولكن لا يزال أقل من مستوى الخمسينات والستينات وأوائل السبعينات بكثير. اتضح ذلك بصورة مرعبة عندما تحول الرخاء فجأة إلى أزمة، بدأت في بريطانيا والولايات المتحدة، ثم في فرنسا وألمانيا واليابان في أوائل التسعينات.

 

الفصل الرابع: تركيز وتمركز رأس المال

1) تركيز رأس المال

إن الطريقة التي يمكن للأزمة من خلالها تخفيف بعض مشكلات الرأسمالية دفعت بعض مؤيدي النظام إلى الإدعاء بعدم وجود تلك المشكلات على المدى الطويل. فقد صرح شخص مثل نايجل لوسون وزير المالية السابق لحزب المحافظين في بريطانيا أن الأزمات المتكررة لا تدعو للقلق، حيث أن جميع الأزمات يتبعها فترات ازدهار. بل أن أتباع مدرسة الاقتصاديين النمساوية وبينهم هايك يرحبون بإيجابية “بالتدمير الذي تسببه الأزمة”، لأنه كما يدعون، تدمير بناء يمهد الطريق لإنتاج كميات أكبر من الثروة.

وتوجد رؤية من  نفس النوع لدى بعض الناس الذين يتأثرون بالماركسية، فيدعون أن إعادة هيكلة النظام وتخفيض قيمة رأس المال الذي يحدث في الأزمة يسمح للنظام بتطهير نفسه من كل الضغوط التي قد تؤدي إلي انخفاض معدل الربح. ونتيجة لذلك لا توجد حاجة للاتجاه طويل المدى نحو تزايد حدة الأزمات وقصر وهامشية فترات الرخاء، ويتضمن ذلك أنه ربما يكون للتبدل بين الازدهار والأزمة آثاراً فظيعة على العمال، ولكن لا يوجد سبب يجعل النظام عاجزاً عن الاستمرار كما هو قائم إلى الأبد. وأحياناً ما يضيفون أنه لا يوجد سبب أيضا للاعتقاد بأن الحكومات الإصلاحية ستعجز عن تحسين أحوال العمال داخل النظام.

ولكن أي رؤية من هذا النوع تتجاهل شيئاً آخر يحدث للرأسمالية كلما تقدمت في العمر، هو أن عدد الشركات المتنافسة يميل إلى التناقص، بينما تسعى حفنة من الشركات الكبرى إلى السيطرة على صناعات بكاملها واقتصاديات بكاملها وهذه العملية أطلق عليها ماركس “تركيز وتمركز رأس المال”.

فإذا أفلست أي شركة من هذه الشركات العملاقة، تسبب خسائر هائلة في بقية الاقتصاد فتتأثر البنوك التي أقرضتها تأثرا بالغاً، وكذلك أيضا بالنسبة للشركات الصناعية الأخرى التي توقعت أن تبيع لها الخامات والآلات أو أن تبيع بضائع استهلاكية لعمالها. وفجأة تتحول أرباحهم إلى خسائر ويصل حجم الدمار إلى الدرجة التي تعجز قدرة الشركات الأخرى عن تعويضها بشراء الآلات والمواد الخام بسعر رخيص تقريباً. ولابد من أن يفيد تدمير أحد الشركات شركات أخرى، غير أن ذلك يهدد بحدوث ثقب اقتصادي أسود يبتلع الشركات الرابحة والخاسرة على حد سواء.

والنتيجة أنه بمجرد أن يسيطر على النظام حفنة من الشركات العملاقة فإن الأزمات لا تحل نفسها أوتوماتيكيا بل تصبح أسوأ لأن كل شركة عملاقة تنهار تجر وراءها الآخرين مثل قطع الدومينو.

غير أن الكثير من مبرري الرأسمالية ينكرون وجود أي اتجاه لسيطرة حفنة من الشركات الكبرى على النظام بهذه الطريقة. هكذا، يتحدث التاتشريون في بريطانيا والجمهوريون في الولايات المتحدة وحتى الإسلاميون في الجزائر عن أهمية الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، مدعين أنها المحرك الرئيسي للاقتصاد. ولكن ذلك يتجاهل أن كل أزمة تؤدي إلى ابتلاع بعض الشركات لشركات أخرى، وتركيز رأس المال في أيدي القلة. وبالطبع تظهر شركات جديدة حيث يجد أفراد بالصدفة ـ محترمون أو نصابونـأنفسهم في موقف يمكنهم من التحول إلى رأسماليين. وكما لاحظ ماركس أن هذه الشركات الجديدة في سعيها المحموم لاقتحام العصر الذهبى أحيانا ما يكشفون عن قدرات إبداعية وتنافسية أعلى من منافسيهم من ذوي الإمكانيات الكبيرة هكذا مثلا في السبعينات والثمانينات، أحرزت التقدم في مجال الكمبيوتر ـخاصة بالنسبة للبرامجـشركات صغيرة ومتوسطة الحجم. لكن الغالبية العظمى من هذه الشركات لم تستمر طويلا وأسرعت شركات عملاقة بشرائها سواء كانت شركات موجودة سلفا أو شركات جديدة. وبحلول التسعينات سيطرت ثلاث أو أربع شركات عملاقة على هذا المجال على مستوى العالم. وبشكل عام وكما جاء في تقرير لجريدة الفايننشال تايمز البريطانية في خريف 1992 أن “جيلا جديدا من رجال الأعمال ازدهر في رخاء الثمانينات يعاني من الانقراض المنظم” 

كانت نتيجة انقراض مثل هذه الشركات الصغيرة في أزمة تلو الأخرى على مدى قرن ونصف هو زيادة سيطرة الشركات العملاقة، وكما قال هوبسباوم فعلا منذ مائة عام:

“كان تأسيس الاحتكارات والكارتلات يميز ألمانيا والولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي وبحلول  عام 1897 كان يوجد 82 شركة صناعية ضخمة برأس مال يزيد على 1000 مليون دولار، وفي الثلاث سنوات بين 1898 و 1900 تأسست 11 شركة عملاقة برأس مال 1140 مليون دولار، وظهرت أكبرهم جميعا شركة الصلب الأمريكية في 1901 برأس مال 1400 مليون دولار.”

تزايدت سرعة هذه  العملية خلال سنوات ما بين الحربين، عندما بدأت في كل بلد حفنة من الشركات في السيطرة على صناعة ما مثلا فورد وجنرال موتورز وكريسلر في صناعة السيارات في الولايات المتحدة، وشركة أي سي أي في صناعة الكيماويات في بريطانيا، أو شركة كروبس وتايسن في الصناعات الثقيلة بألمانيا، وبحلول السبعينات وصلت درجة التركيز الاقتصادي إلى أنه في الولايات المتحدة امتلكت أكبر مائة شركة 4ر48% من الأصول الصناعية، وفي معظم الصناعات كان يوجد اثنين أ و على الأقل ثلاثة شركات متنافسة. وفي بريطانيا في نفس الفترة كانت أكبر مائة شركة تنتج 49% من الناتج الإجمالي وفي كثير من الصناعات مثل الكيماويات والصناعات الغذائية والمنظفات والحاسبات الكبيرة وقطع غيار السيارات كان يوجد على الأكثر شركتين متنافستين.

وقد نتج عن أزمات العشرين عاما الأخيرة زيادة أكبر في تركيز رأس المال، وذلك مع سلسلة من عمليات الشراء والاندماج التي تمت بين الشركات عابرة الحدود الوطنية، وهكذا فمن الممكن أن تكون إحدى الشركات التي تعمل تحت أسم الولايات المتحدة مملوكة لأشخاص أو شركات في فرنسا أو بريطانيا، وأخرى تعمل تحت أسم بريطاني مملوكة في اليابان. ويكون ذلك صحيحا بصفة خاصة بالنسبة للتمويل والصناعات الرئيسية مثل الاتصالات والحاسبات والطائرات والسيارات والكيماويات والمنتجات الغذائية وهو أيضا صحيح بالنسبة للبنوك وجزءا واسعا من الصناعات “الخدمية” بدءاً من أعمال الحراسة نهاية بصناعة السينما.

وتشير التقديرات اليوم أن أكبر 500 شركة من الشركات عابرة القومية تسيطر على ثلثي التجارة العالمية وأن أكبر 15 شركة منها جنرال موتورز وإكس وآي بي إم ورويال داتش شل يزيد مجموع دخلهم عن دخل 120 دولة.

ولو أفلست أي واحدة من هذه الشركات العملاقة، فبدلا من أن يساعد ذلك على “تنقية” النظام، سيزيد من عمق مشكلاته. والنتيجة هى أنه برغم ما تعلنه الحكومات عن معجزات “السوق الحر” فهى ترتعد عندما يهدد السوق مستقبل أي واحدة من هذه الشركات، وتفعل كل ما في وسعها لتحافظ على استمرار هذه الشركات. 

فقد اتضح ذلك فعلا منذ قرن، عندما أسرعت السلطات البريطانية التي تتمسك بالسوق وحرية التجارة إلى مساندة بنك بارنيجز عندما كان على حافة الانهيار في المرة الأولى. واتضح بدرجة أعلى في سنوات ما بين الحربين، عندما تدخلت الحكومات اليمينية في بلد تلو الأخرى، وأممت الشركات عند الضرورة لوقف انهيار البنوك الكبرى والصناعات الرئيسية. واتضح مرة أخرى في الثمانينات عندما تدخلت حكومة بوش في الولايات المتحدة لتدعيم مؤسسات التسليف والادخار وعندما نظمت حكومة تاتشر عمليات “قارب النجاة” لإنقاذ بنك جونسون ماثي.

وكان عدد الإفلاسات الكاملة في أوائل التسعينات أكبر مما كان في أزمات منتصف السبعينات أو أوائل الثمانينات ـ على الأقل في الولايات المتحدة وبريطانياـوربما تم إنقاذ شركة إس آند إل، ولكن عدد من الشركات الكبرى على جانبي الأطلنطى  أزيحت عن السوق مثل شركة الطيران العملاقة بان أم، وكذا البنك الدولي الضخم بنك الاعتماد والتجارة، والشركة العملاقة بولي بيك وشركة العقارات أولمبيا آنديورك وأكبر شركة طباعة في العالم شركة ماكسويل للاتصالات.

وبرغم ذلك، ليست هذه هى نهاية المسألة. فحتى الإفلاس الكامل لم يكن له الأثر الإيجابي على بقية النظام كما كان في الماضي لأن معظم رأس مال هذه الشركات العملاقة لا يملكه مساهمون أفراد يتحملون خسائر تلك الانهيارات ويتركون المكاسب لشركات كبيرة أخرى. فالمساهمون الأساسيون في هذه الشركات هم البنوك ومؤسسات مالية أخرى ولابد أن تحاول تعويض خسائرها من بقية القطاعات الرابحة في النظام. لذا كان على البنوك أن تتحمل الكثير من تكلفة انهيار ماكسويل وأولمبيا ويورك وبان أم وبولي بيك وهكذا. وفي بداية الأمر حاولت البنوك تعويض هذه الخسائر من خلال زيادة معدلات الفائدة على القروض الأخرى بما فيها الممنوحة للشركات الكبيرة الأخرى.

وعندما يعاني المساهمون الأفراد (في حالة ماكسويل، أصحاب المعاشات) يكون ذلك ميزة للنظام ككل، حيث يمكنه من الرخاء  بسبب استهلاك المساهمين ورأس مالهم. ولكن عندما تعاني المؤسسات المالية العملاقة، يختلف الموقف تماماً. فلابد أن تتحمل هذه المؤسسات الخسائر الناتجة ولذا تسهم في تخفيض الربحية على مستوى بقية النظام. وهذا يزيد من حدة الاتجاه نحو الأزمة بدلا من تخفيضه.

وأوضح الدلائل على ذلك كان استمرار ارتفاع معدلات الفائدة على المدى الطويل طوال فترة الأزمة في السبعينات وضعف ارتفاعها في الستينات وفي تناقض واضح بالنسبة لما حدث في أزمة أوائل الثمانينات عندما كانت المعدلات الحقيقية للفائدة سلبية.

وبدلا من إفساح المجال أمام بقية النظام للاستمرار في النمو المربح، تمثل عمليات إفلاس الشركات متعددة الجنسية الحديثة عبئاً أكبر على النظام الرأسمالي.

2) الإمبريالية والحرب

كانت مشكلات الرأسمالية طويلة المدى، أثناء “الكساد الكبير” في الثمانينات، واضحة فعلاً أكثر مما كانت منذ قرن، عندما تحدث كارناجى عن صعوبة الأزمات. وكانت واضحة مرة أخرى خلال الثلاثينات، عندما تحدث بعض المعلقين عن “الأزمة النهائية” للرأسمالية. وفي كلتا الحالتين وجد الرأسماليون وكذلك العمال أنفسهم في انتظار انتعاش بدا وكأنه لن يأتى أبدا.

ومع ذلك فلم تنتعش الرأسمالية فقط في كلتا الحالتين ولكن كانت سنوات ما بعد الأزمة من أكثر السنوات حيوية في تاريخ النظام. كان ذلك صحيحا بشكل خاص بالنسبة للتوسع الذي حدث منذ الأربعينات حتى أوائل السبعينات. وقد شهدت هذه الفترة “ازدهاراً طويلاً” تضمنت أكبر وأطول فترة توسع في تاريخ النظام.

دفع هذا الازدهار والتوسع الناس في كل من نهاية القرن ومرة أخرى في الستينات للإدعاء بأن الرأسمالية تتلاشى تدريجياً إلى شكل أفضل من المجتمع، والذي لم يكن على حافة الانهيار، ولا يحتاج إلى المرور بأزمات دورية، كما لن يؤد إلى مواجهات طبقية حادة بعد ذلك.

في الواقع، في كلتا الحالتين اكتشفت الرأسمالية آليات جديدة لتعويق الاتجاه نحو تزايد عمق الأزمات، ولكنها كانت وسائل مؤقتة وعندما انتهت آثارها عادت الأزمات بشكل أقوى. كانت الآلية الرئيسية في نهاية القرن الماضى أن تمتد الرأسمالية إلى ما وراء بلادها الأصلية في أوربا الغربية وشمال أمريكا ـ هي العملية التي اشتهرت تاريخياً بالإمبريالية.

ففي سبعينات وثمانينات القرن الماضى بدأت القوى الرأسمالية الرئيسية في توسيع وإحكام قبضتها على معظم بقية العالم. وسعت الحكومات البريطانية الإمبراطورية البريطانية القديمة لتستولى على حاولى ثلث مساحة الكرة الأرضية شاملة نصف أفريقيا وشبه القارة الهندية ومعظم منطقة الشرق الأوسط واستولت الحكومات الفرنسية على الهند الصينية ومعظم ما تبقى من أفريقيا، وبدأت في السيطرة على لبنان (رغم إنها كانت أسمياً تحت سيطرة الأتراك). واستولت الولايات المتحدة على الفليبين من أسبانيا، وحازت السيطرة على الدول الساعية للاستقلال مثل كوبا ووسط أمريكا. وتوسعت هولندا من قاعدتها في جافا لتسيطر على ما يسمى الآن بإندونيسيا. واحتلت بلجيكا الكونغو (الآن زائير)، واحتلت إيطاليا تريبولى (الآن ليبيا) والصومال. وبدأت ألمانيا تحلم بإمبراطورية استعمارية خاصة بها واستعمرت طنجانيكا (الآن تنزانيا) وجنوب غرب أفريقيا (الآن نامبيا) وحاولت بناء قاعدة في شمال أفريقيا. وأقامت كل القوى الأوروبية الرئيسية مناطق  نفوذ في الصين، وقسمت البلاد بسرعة فيما بينها وبحلول عام 1914  كانت أثيوبيا هى البلد الوحيدة التي ظلت مستقلة في أفريقيا بينما في آسيا فقد رزحت الدول، فيما عدا الصين المنقسمة وأفغانستان وتايلاند، تحت حكم أوروبا مباشرة.

وقد أسست القوى الأوروبية هذه الإمبراطوريات لأن رجال المال والصناعة بها اعتقدوا أنهم سيحققون أرباحاً هائلة من عملهم بهذه الإمبراطوريات. ورأوا أن سيطرتهم على هذه المناطق يضمن لهم الحصول على مواد خام رخيصة وبذلك يكسبوا ميزة على بقية الدول الرأسمالية الأخرى.

في هذا السياق ظهرت الدبلوماسية الدولية لتوازن الصراعات بين القوى العظمى لإقامة مستعمرات في أفريقيا وآسيا وتمارس نفوذها على الحكومات المستقلة أسمياً في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. فمن ناحية سعت تلك القوى صاحبة الإمبراطوريات إلى الاهتمام بتدعيم قوتها العسكرية. بينما سعت تلك التي لم تكن لديها إمبراطوريات إلى حيازة مستعمرات ومناطق نفوذ من الأولى، وعندما جاءت اللحظة الحاسمة خاضوا لإعادة تقسيم المستعمرات حرباً عالمية ضد بعضهم البعض حيث كانت بريطانيا وفرنسا وروسيا في جانب وألمانيا والنمسا والمجر في الجانب الآخر.

ويدعى بعض المؤرخين الرسميين أن الاتجاه نحو إقامة الإمبراطوريات كان مدفوعاً بعوامل غير اقتصادية، ولكن ذلك يتجاهل واقع أنه منذ ثمانينات القرن الماضى وما بعدها كان التمويليون والصناعيون بين أشد المؤيدين تحمساً للاستعمار والذين كانوا متشككين في جدواه قبل ذلك. وبحلول التسعينات كان نصف إجمالى الاستثمارات البريطانية ينتقل إلى الخارج، وبدأت الشركات التي اعتمدت أعمالها على الإمبراطورية في السيطرة على اقتصاد بريطانيا (ببنوك مثل بارينجز،وشركات صناعية مثل يونيليفر وأكثر شركات البترول مثل آنجلو ايرانيان ـ الآن بى بىـوشل)، وفرنسا (شركة قناة السويس) وبلجيكا (يونيون فاينير العملاقة). وفي ألمانيا مارست الصناعة الثقيلة ضغوطا متزايدة على الحكومة لتقتطع “منطقة نفوذ” لها في البلقان وبقايا الإمبراطورية.التركية.

وكما لاحظ إيريك هوبسباوم تماماً:

لم يعترف المؤرخون السياسيون بوجود أسباب اقتصادية وراء التقسيم الفعلى للعالم بين حفنة من قوى أوروبا الغربية (بالإضافة للولايات المتحدة) في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وليس لدى المؤرخين الاقتصاديين أدني مشكلة في ذلك.

وقد حدث ذلك الاستثمار وراء البحار لأن الصناعيين والتمويليين سعوا إلى ضمان أرباحهم وإلى المواد الخام الرخيصة، وهو ما كان له أثر هام غير مباشر على النظام الرأسمالي ككل. فلو أن نصف الاستثمارات انتقلت إلى الخارج لانخفضت الأرصدة المتاحة للاستثمار محلياً بنسبة 50%. وأصبحت الشركات أقل انزعاجاً من أنها إذا لم تدخل استثمارات موفرة للعمل فان منافسيها المحليين سوف يفعلون. ولذا لم يعد الاستثمار الكلى يرتفع أسرع من قوة العمل الموظفة: وبالفعل انخفض معدل الاستثمار بالنسبة للناتج في بريطانيا من 16ر2 في الفترة 1875ـ 1883 إلى 82ر1 في  الفترة 1891ـ 1901 واستطاعت معدلات الربح أن تزداد وأفسح التشاؤم الرأسمالى الطويل الأمد في ثمانينات القرن التاسع عشر المجال أمام مرحلة جديدة من التفاؤل والازدهار، فالبطالة التي كانت قد ارتفعت إلى أكثر من 13أو 14% ثلاث مرات في سنوات “الكساد الكبير” أصبحت أقل من 10% من 1895 إلى 1912.

وبالتالي لا عجب في كون الأفكار السائدة في حزب العمال “الجديد” في بريطانيا هى “التدريجية”، ولا عجب أيضا أن الأفكار “التراجعية” و”التدريجية” قد تزايد تأثيرها لدى الحزب “الماركسى” المزعوم الحزب الاشتراكى الديمقراطى الألمانى. ولفترة بدا للملاحظين السطحيين أن الرأسمالية يمكن أن توفر الأمان ومستويات معيشة أفضل للعمال.

ولكن فترة “الرخاء” الرأسمالى لم تستمر طويلاً، استطاعت الإمبريالية فقط تعويق انخفاض الربحية لمدة عشرين عاما، وبدأت فرص الاستثمار في الخارج أخيراً في النضوب، وبدأت الأرباح التي تحققت من الاستثمارات القائمة في العودة إلى البلاد الرأسمالية المتقدمة، وبحلول نهاية العقد الأول من القرن الحالى كانت الأرصدة الساعية للأرباح تتزايد في بريطانيا إلى المستوى الذي كانت عليه منذ عشرين عاما، وارتفع معدل الاستثمار بالنسبة للعمل في الصناعة حسب إحدى التقديرات من 92ر1 إلى 19ر2 في 1908ـ 1913  هكذا، إلى مستوى أعلى قليلاً مما في بداية “الكساد الكبير” في أواخر سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر، وليس غريباً أن ظهرت علامات جديدة من الضغوط نحو انخفاض معدلات الربح وأن الأزمة أصبحت أكثر خطورة مع ارتفاع البطالة مرة أخرى إلى حوالى 15% بحلول 1913ـ 1914. وفي نفس الوقت، أدت ضغوط الدول الرأسمالية ذات الإمبراطوريات الأصغر لاقتسام جزء من النفوذ إلى صدامات متكررة مع الإمبرياليات القائمة. كانت النتيجة هى الحرب بين أسبانيا والولايات المتحدة على الفليبين وكوبا، والحرب بين اليابان وروسيا من أجل السيطرة على شمال الصين وكوريا في 1904ـ 1905، والصدام بين فرنسا وألمانيا على النفوذ في المغرب، والسباق بين ألمانيا وبريطانيا لبناء أسطول أكبر، وأخيراً الصدام بين روسيا والنمسا حول النفوذ في جنوب شرق أوروبا ـ وهو الصدام الذي عجل باندلاع الحرب العالمية الأولى.

وبالرغم من أن الإمبريالية خففت من ميل النظام إلى أزمات اقتصادية أكبر، ولكن كان ذلك لفترة محدودة، وكان الثمن هو دفعها إلى فظائع وخسائر الحرب العالمية. وفي أعقاب الحرب عادت الأزمة الاقتصادية أكبر وأشد تدميراً مما كانت عليه في تاريخ النظام.

3) العسكرة ورأسمالية الدولة

كانت الأزمة التي بدأت في 1929 إلى حد بعيد أسوأ الأزمات التي عرفها النظام من قبل، حيث ارتفعت البطالة في أكبر قوتين صناعيتين ـ الولايات المتحدة وألمانياـإلى حوالى ثلث قوة العمل. والأكثر من ذلك، لم تظهر أي بشائر عن إمكانية انتهاء الأزمة من تلقاء نفسها.

وقد تطلب تدخل الدولة لتبدأ في استحضار انتعاش اقتصادى محدود في كلتا البلدين في 1933ـ 1934 عبر سياسات “العقد الجديد” لروزفلت في الولايات المتحدة وبرامج الأشغال العامة التي تبنتها الحكومة النازية الجديدة في ألمانيا. ولكنها لم تفعل شيئاً أكثر من إحداث خدش سطحى في جسم الأزمة. ففي 1934 لم يكن الإنتاج الصناعي في ألمانيا يتخطى أربعة أخماس حجمه 1929، بينما في الولايات المتحدة كان واحد من كل سبعة من السكان لا يزال عاطلاً عن العمل “في 1937 عندما بدأت مرحلة جديدة من التدهور الاقتصادى ـ التي وصفها أحد المؤرخين أنه “التدهور الاقتصادى الأكثر انتظاماً في تاريخ الولايات المتحدة.

لم يبدأ الانتعاش الحقيقى من الأزمة حتى بدأت الحكومات في الاستعدادات الهائلة للحرب. في ألمانيا حدث ذلك في 1935 بتأسيس اقتصاد “التأهب” القائم على التسليح الضخم، ولم يحدث  ذلك في الولايات المتحدة حتى 1941 عندما دخلت البلاد الحرب العالمية الثانية، وكما أوضح جالبريت: “أن كساد الثلاثينات الكبير لم ينته أبداً، لقد اختفي فقط في التحريك الضخم في الأربعينات.

كان لاستعدادات الحرب بعض الفوائد المماثلة للإمبريالية بالنسبة للرأسمالية، والتي كانت امتداداً منطقياً لها. فقد منحت الشركات العملاقة الفرصة للاستيلاء على المواد الخام والمصانع من منافسيها في بلاد أخرى ـ مثلما حدث عندما استولت الشركات الألمانية الكبيرة على اقتصاديات تشيكوسلوفاكيا وبولندا وبدأت في تحدى الشركات الكبرى البريطانية من أجل السيطرة على بترول الشرق الأوسط و شنت “حرب الصحراء” في شمال أفريقيا، أو عندما اغتصبت الشركات اليابانية الكبيرة المزارع التي كانت تديرها شركات بريطانية وفرنسية وألمانيا في فيتنام وإندونيسيا والمالايا.

بالإضافة إلى ذلك وفرت استعدادات الحرب للشركات أسواق مضمونة من الدولة لبضائعهم لا تتأثر بالتذبذبات في بقية الاقتصاد. كان الطلب على الغذاء والبضائع الاستهلاكية يرتفع وينخفض مع الرخاء والأزمة، كذلك كان الطلب على المصانع التي تنتج هذه السلع والسفن واللوارى التي تنقلها، غير أن الطلب على الدبابات والسفن الحربية والطائرات المقاتلة بات مضموناً طالما استمرت الحكومات في تسليح نفسها.

في الواقع، لم تطلب الدولة الأسلحة فقط من القطاع الخاص، فقد تزايد تخطيطها للاقتصاد بالكامل ـ وعند الضرورة أممت الشركات الخاصةـحتى تطمئن إلى إنتاج الأسلحة في الوقت المناسب وبالكميات المناسبة.

وفي ألمانيا النازية منذ 1935 وما بعدها سيطرت الدولة على الكثير من النظام المصرفي حتى تتأكد من أن ودائعها تستخدم لتمويل  التسليح. وكانت الشركات الصناعية مجبرة قانونا على إيداع كل أرباحها فوق حد معين لدى الدولة لنفس الغرض وأثناء خطة السنوات الأربع لعام 1936 عين جورينج “ديكتاتوراً اقتصادياً”وكان يهدف إلى تنفيذ برنامجا استثماريا من 6 إلى 8 مليارات مارك، سواء كان مربحاً أم لا مستخدما كافة الوسائل ـ مثل دعم الاستثمار، الإعفاءات الضريبية،ضمانات للأسعار،والطلبيات والأرباح. وعندما رفض رئيس أحد الشركات العملاقة، تايسن، أن ينفذ أوامره، صادر جورينج ملكيته وأجبره على الهرب إلى الخارج.

وبنفس الطريقة، بمجرد ما أن دخلت الولايات المتحدة الحرب، لم تسيطر الدولة فقط على قطاع الأسلحة في الاقتصاد ـ والذي مثل نصف إجمالى الناتج القومى بل حددت أيضا ما يجب أن ينتج من السلع الاستهلاكية. وتولت مسئولية 90% من إجمالى الاستثمارات وأنفقت مبالغ طائلة في بناء مصانع سلاح جديدة والتي سلمتها بعد ذلك للشركات الخاصة لإدارتها.

وبسرعة، دفعت استعدادات الحرب الدولة إلى تجاهل آليات السوق القديمة ـ وإلى تحدي أى معارضة لممارساتها تبديها الشركات الكبيرة. فلم يعد التطور الاقتصادى داخل ألمانيا النازية وأمريكا فترة الحرب  يعتمد على التدفق الحر للأرصدة إلى الأجزاء الأكثر ربحية من الاقتصاد. وبدلاً من ذلك،حددت الدولة ما يجب إنتاجه ثم تسببت في تدفق الأرصدة إلى القطاعات المناسبة ـ سواء من خلال توجيه أوامر مباشرة للشركات أو من خلال توجيه السوق حتى تجعل تلك القطاعات مربحة. 

ولم يكن تجاوز الدولة لآليات السوق فقط هو الذي جعل اقتصاد الحرب ناجحاً، فقد لعب كل من صافي الفاقد من إنتاج الأسلحة والدمار البربرى الناتج عن الحرب دورهما وكان  لهما نفس الأثر على النظام مثل تدمير رأس المال الذي يحدث أثناء الأزمات. فقد قللا الثروات المتاحة للاستثمار في الصناعات الإنتاجية ـ ومعها اتجاه الاستثمار نحو النمو أسرع  من قوة العمل.

كان الماركسى الألمانى جروسمان هو أول من لاحظ ذلك عندما كتب في العشرينات:

“إن التدمير والفاقد الناتج عن الحرب يعدان وسيلة للتخفيف من الانهيار القائم (للرأسمالية)، لخلق مساحة تنفس من أجل تراكم رأس المال…إن الحرب وتدمير قيمة رأس المال المرتبط بها يضعف انهيار (الرأسمالية) ويوفر بالضرورة حافزاً جديداً لتراكم رأس المال”.

وقد أوضح أنه برغم أن الحرب تسمح لبعض كبار الرأسماليين الأفراد بزيادة ممتلكاتهم بصورة هائلة، فإن أثرها على النظام ككل هو “تدمير القيمة” و “إبطاء التراكم”، وبالتالى لا يزداد الاستثمار أسرع من قوة العمل. وذلك في المقابل يوقف انخفاض معدل الربح.

وقد تم تطوير وتعميق نفس الرؤية في الأربعينات والخمسينات والستينات من قبل الاقتصادى الأمريكى الذي استخدم أسم أوكس دوفانس ومن قبل الماركسى مايك كيدرون. وأوضحوا أنه برغم أن إنتاج السلاح يبطئ من المعدل الذي يحدث به تراكم رأس المال، فهو يتيح له الفرصة أيضا للاستمرار بسلاسة، دون الانتهاء إلى الركود في أزمات متكررة.

إن اقتصاد الحرب بالمقارنة مع اقتصاد السلم يشبه السلحفاة بالمقارنة مع الأرنب البرى في القصة الشهيرة (معضلة إيسوب). في البداية يسير التراكم في اقتصاد الحرب أبطأ منه في اقتصاد السلم، لأن ثروات كثيرة كان من الممكن أن تستثمر بصورة إنتاجية يتم تضييعها على الأسلحة بدلاً من ذلك. ولكن لهذا السبب بالذات لا يتحتم على اقتصاد الحرب أن يتوقف “لالتقاط أنفاسه” عبر الأزمة، وبالتالى يلحق باقتصاد السلم.

واتضح هذا تماماً أثناء الحرب العالمية الثانية، فتقريباً نصف ناتج الاقتصاد الأمريكى في 1943 انفق على برامج الحرب. ومع ذلك، مع كل هذا الفاقد، كان إنتاج البضائع الاستهلاكية أكبر مما كان عليه خلال أزمة اقتصاد السلم في أواخر الثلاثينات. وحتى بعد خصم الضرائب لتمويل بعض هذه الأسلحة، كانت أرباح الشركات الأمريكية في سنوات الحرب تزيد على ضعف ما كانت عليه في 1938.

واتضح ذلك مرة أخرى في سنوات الحرب الباردة بين أواخر الأربعينات ومنتصف السبعينات، فقد توقع غالبية المراقبين الاقتصاديين أن يشهد عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية تكرار لأزمة سنوات ما بين الحربين ولم يحدث ذلك لآن الإنفاق على السلاح استمر بمعدلات أعلى كثيراً عما سبق في “وقت السلم”، فارتفع من أقل 1% من الناتج الأمريكى في الثلاثينات إلى حوالى 15% في أوائل الخمسينات وحتى خلال الستينات عندما انخفض إلى حوالى 8  أو 9% كان لا يزال مساوياً لإجمالى الاستثمار في الصناعة المدنية.

لقد شهدت الرأسمالية ما أطلق عليه البعض “عصرها الذهبى ” بين الأربعينات والسبعينات وشهدت بلد بعد أخرى فعلياً نموا اقتصاديا غير مسبوق، فتضاعف حجم الاقتصاد الأمريكى ثلاث مرات والألمانى خمس مرات والاقتصاد الفرنسى أربعة مرات وحتى الاقتصاد البريطانى البائس الذي عانى تدهوراً طويل المدى كان ينتج بحلول السبعينات ضعف إنتاجه في الأربعينات.

ازدهرت الرأسمالية بصورة لم يسبق لها مثيل وتحسنت ظروف حياة معظم العمال واختفت البطالة تقريبا في معظم البلاد الصناعية المتقدمة ولم تتجاوز حوالى 1% في بريطانيا وألمانيا واسكندنافيا. ولم يتم فقط إعادة بناء المدن الكبرى بعد دمار الحرب، ولكن حلت العقارات السكنية الجديدة محل الأكواخ التي تعود إلى ثلاثينات وأربعينات القرن الماضى، وساعدت الخدمات الصحية المجانية الناس على الحياة لمدة أطول ومكنت التحسينات في المعاشات الكثيرين لأول مرة من التطلع إلى حياة الشيخوخة.

ولكن لم يختف الفقر فقد استمر في “المناطق البائسة” القائمة على الصناعات القديمة التي تلاشت في فترة الرخاء، وقد عانى منه أيضا ذوى الأمراض المزمنة والأسر التي فقدت عائلها وبعض العجائز. ولكن في البلاد المتقدمة كان ذلك عادة فقراً متواريا فلم يعد العاطلون يتسكعون في الشوارع كما في الثلاثينات كما لم يسمع أحد عن المتسولين.

كان الرخاء بالأساس رخاء البلاد الصناعية المتقدمة ولكنه لم يدع بقية العالم دون تأثير، فقد بدأت بلاد مثل إيطاليا وأسبانيا والبرتغال وكوريا الجنوبية وسنغافورة في اللحاق، وحتى في حالات قليلة في السباق بالبلاد الصناعية القائمة القديمة مثل بريطانيا. وفي مكان أخر في بلاد العالم الثالث الكبيرة مثل الهند والصين والبرازيل والمكسيك حدث نمو سريع للجيوب الصناعية، حتى وإن استمر غالبية السكان يعيشون تحت البؤس الشديد في الريف أو في أكواخ المدينة المترامية. لقد جعل النمو حتى الفقراء يعتقدون أنها فقط مسألة وقت وسوف تتحسن الأمور.

ومرة أخرى أعطت سنوات الرخاء الطويل تلك دفعة قوية لأفكار مماثلة لتلك التي تطورت في تسعينات القرن التاسع عشر وبدا للمفكرين السطحيين أن الرأسمالية قد تغلبت على كل مشكلاتها. وبالفعل وصل الأمر ببعض الكتاب إلى تأكيد أنها لم تعد رأسمالية ولكنها شكل ما أعلى من التنظيم الاقتصادى.

ومع ذلك فما كان من الممكن أن يحدث هذا التوسع للنظام دون فظائع الحرب العالمية الثانية، والفاقد الهائل لاقتصاد السلاح الذي تلا الحرب، والأخطار الجمة على البشرية كلها من سباق السلاح النووى، لقد اعتمدت “أمجاد” العصر الذهبى على بربرية القنبلة النووية.

4) رأسمالية الدولة، الستالينية والعالم الثالث

لم تكن رأسمالية الدولة العسكرية أمر اً مقصوراً على الدول الغربية المتقدمة، فلمدة حوالى 40 عاما كانت إلى حد كبير نموذج التطور الرأسمالى في العالم ككل، وحقا كان أول الاقتصاديات التي تحولت إلى رأسمالية الدولة وأكثرها شمولا هى  روسيا الستالينية المتخلفة نسبيا في أواخر العشرينات وقد أطلقت على نفسها أسم الاشتراكية. ولكن مع أواخر العشرينات كانت روسيا فعلياً بعيدة كل البعد عن الاشتراكية الحقيقية التي ألهمت ثورة 1917. كانت الثورة تهدف إلى بناء مجتمع يحدد فيه العمال ما يحدث بشكل واعى، ولكن إشعال الطبقات الحاكمة القديمة للحرب الأهلية والتدخل العسكرى من قبل كل القوى الغربية تسبب في عرقلة الثورة، فأصبح هناك بؤس اقتصادى منقطع النظير، وتوقفت كل الصناعات الروسية تقريبا، ودمرت الطبقة العاملة التي قامت بالثورة، وبدون الطبقة العاملة لا يمكن أن تتحقق الديمقراطية العمالية.

استمر الثوريون الذين قادوا الثورة في السلطة في أوائل العشرينات ولكن تزايد اعتماد حكمهم على بيروقراطية مكونة من العديد من موظفي الإمبراطورية القيصرية القديمة إلى جانب شريحة جديدة من موظفي الحزب المتفرغين يتزعمهم جوزيف ستالين. احتفظ هؤلاء البيروقراطيون بجزء من لغة الثورة ولكنهم حكموا باستمرار لمصلحتهم الخاصة، وطردوا العناصر الثورية التي قامت على أكتافها ثورة 1917 من الحزب الحاكم. إن وجه الميت مخنوقا ربما يشبه وجه الأحياء، وبنفس الطريقة كانت روسيا في 1927 تشبه روسيا 1917 في الظاهر فقط ولكن في الواقع كانت مختلفة في جوهرها.

ولبعض الوقت كان حكام روسيا من مصلحتهم ترك الأرض وبعض القطاعات الصناعية والتجارية في أيدى القطاع الخاص، ومعتمدين على تأييد الملاك المتميزين (المعروفين برجال النيب) لطرد أولئك الذين تمسكوا بمبادئ ثورة 1917 من أمثال تروتسكي. ولكن هذه السياسة أدت إلى أزمة اقتصادية كبيرة في 1927ـ 1928 إلى جانب تجدد التهديدات من التدخل الغربى. عند ذاك تحول الحكام الجدد مائة وثمانين درجة  وتبنوا نموذجهم الخاص من رأسمالية الدولة العسكرية.

لقد كانوا في أمس الحاجة لبعض الوسائل لحماية سيطرتهم على روسيا من التهديد الأجنبى، فرأوا أن الحل يكمن في بناء الصناعة بأقصى سرعة. فبهذا فقط يتمكنون من إنتاج الدبابات والسفن الحربية والطائرات والبنادق الآلية على نفس  مستوى الدول الغربية وكما قال ستالين” إن إبطاء خطوات التصنيع سيعنى أن نتخلف، وأولئك الذين يتخلفون يهزمون..ونحن متخلفون عن الدول المتقدمة بحوالى خمسين أو مائة عام، ويجب أن نقطع هذه المسافة في عشر سنوات وإلا سيدمرونا”.

كان منطق ستالين هو نفس منطق آى رأسمالى صغير يواجه ضغوط تنافسية من رأسمالى أكبر ـ أن يخبر عماله بأن “يضحوا” بقدر ما يمكنهم حتى يلحق بمنافسه.

كان سبيل “اللحاق بالغرب” بالنسبة لستالين هو نسخ كل وسائل “التراكم البدائى” التي استخدمت في أماكن أخرى خارج روسيا. فمثلا اعتمدت الثورة الصناعية في بريطانيا على طرد الفلاحين من الأراضى من خلال التسييج والنزح، ودمر ستالين بدوره سيطرة الفلاحين على الأرض من خلال “التجميع” والذي أجبر الملايين على الهجرة إلى المدن. وكما راكمت الرأسمالية البريطانية ثرواتها عن طريق العبودية من منطقة الكاريبى وأمريكا الشمالية، قام ستالين بتجميع الملايين في معسكرات الجولاج العبودية. وكما نهبت بريطانيا ايرلندا والهند وأفريقيا، جرد ستالين الجمهوريات غير الروسية في الاتحاد السوفيتى من حقوقها وأبعد شعوبا بكاملها آلاف الأميال عن أوطانها. وأخيرا وكما تضمنت الثورة الصناعية في بريطانيا إنكار أبسط حقوق العمال ودفع الرجال والنساء والأطفال للعمل حتى 16 ساعة يوميا، أتبع ستالين نفس الشىء، فدمر استقلال النقابات وأطلق النار على المضربين وخفض الأجور الحقيقية بحوالى 50%.

كان الاختلاف الجوهرى الوحيد بين ستالين وإجراءات الرأسمالية الغربية في طفولتها أنه بينما استغرقت الرأسمالية الغربية مئات السنيين لاستكمال التراكم البدائى، سعى ستالين إلى إنجاز ذلك في عشرين عاماً. لذلك كانت الوحشية والبربرية أشد تركيزاً.

لم تستطع البيروقراطية الستالينية “اللحاق بالغرب” عبر نسخ رأسمالية “السوق” صغيرة الحجم في بريطانيا أثناء الثورة الصناعية. كان بوسع روسيا أن تنجح عسكريا فقط إذا كانت صناعاتها مماثلة في حجمها للصناعات الغربية. ولكن لم تكن هناك وقت للانتظار حتى تنمو الشركات الخاصة، بأن يأكل بعضها بعضاً. وكان على الدولة أن تتدخل لتحقيق الحجم الضرورى من الإنتاج.

كان على احتكارات رأسمالية الدولة وليس الشركات الخاصة تحقيق التراكم، وكان على الدولة تنظيم الاقتصاد ككل وتخضع إنتاج آى شئ آخر لمصلحة هذا التراكم.

رأى الكثيرون أن هذه هى الاشتراكية ـ ومازال الكثيرون يعتقدون ذلكـلآن الستالينية فعلاً قضت على الرأسمالية الخاصة في روسيا وبعدها في أوروبا الشرقية والصين….الخ، ولكن وسائلها كانت مشابهة جداً لوسائل اقتصاديات الحرب الغربية. فقد قامت بالتخطيط كما فعلوا من أجل تخفيض استهلاك الجماهير لصالح بناء الصناعات الثقيلة وإنتاج السلاح.

وكما يلاحظ مايكل كازر أحد الكتاب الغربيين المتخصصين في شئون اقتصاديات أوروبا الشرقية: 

كان  “المخططين الاشتراكيين الجدد في المنطقة بعد 1945 غالباً ما قلدوا ببساطة الوسائل التي ابتدعت أثناء الاحتلال الألمانى في وقت الحرب فكثير من علاقات السوق التي تم تحجيمها عن طريق تحديد الأسعار والكميات في 39ـ 1945 لم تعاود الظهور أبدا.

ولاحظ أيضا أحد أشهر المخططين البولنديين أوسكار لانج: “إن إجراءات التخطيط الإدارى والإدارة شديدة المركزية التي تستخدم القهر الواسع ليست الطابع المميز للاشتراكية ولكنها آليات خاصة باقتصاد الحرب”.

كان لهذا الشكل من تدخل الدولة و”التخطيط” جاذبية لدى حكام الكثير من رأسماليات العالم الأضعف في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات والستينات. فاستجابت إيطاليا موسولينى لأزمة الثلاثينات بتأسيس شركتين ضخمتين تحت إدارة الدولة، هما (آى آر آى) و (إى إن آى)، لإقامة صناعات جديدة. وفي البرازيل والأرجنتين وضعت الحكومات المستبدة الصناعات التي تديرها الدولة في مقدمة الاقتصاد وتطلع حكام المستعمرات السابقة مثل الهند ومصر وسوريا والعراق والجزائر إلى مستويات عالية من ملكية الدولة وخطط الخمس سنوات لإنجاز التصنيع، هكذا أيضا حكم الكومينتانج تايوان والديكتاتوريات العسكرية في كوريا الجنوبية. وتبنت الحكومات اليمينية الفرنسية اتجاها يدعى “التخطيط الموجه”، وهكذا حتى في بريطانيا جهزت  الدولة خطة طويلة المدى في 1966.

كانت الدوافع في كل مكان هى نفس دوافع ستالين، احتياج حكام البلاد الرأسمالية ذات القدرات التنافسية الأضعف إلى الدولة لزيادة ثرواتهم وحمايتهم من الآثار المباشرة للتذبذبات في السوق العالمى. وإلا لن تتمكن أبداً من البقاء في مواجهة صناعات منافسيها الأكبر والأكثر تنافسية.

وكنتيجة لذلك كان علم الاقتصاد الرأسمالى الأرثوذكسى لمدة نصف قرن تقريباً يقوم على ضرورة تدخل الدولة وأن “التخطيط” أمر مرغوب فيه.

كان جون ماينارد كينز قد بنى هذه الرؤية في الغرب، وجوزيف ستالين في روسيا  لقد كانا شخصين مختلفين ـأحدهم ليبرالى وموظف  حكومة أصبح مليونيراً من المضاربة في البورصة، و الآخر ديكتاتور سفاح. اتجه مؤيدو الأول لأن يكونوا أعضاء في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. أما مؤيدو الثاني، كانوا من أشد أعداء الاتجاه الأول، شكلوا الأحزاب الستالينية. ومع ذلك فقد اشتراكا في فكرة هامة: فكل منهما اعتقد أن الاستيلاء على الدولة القائمة واستخدامها لتوجيه الاقتصاد القومى يمكن أن يمنع الأزمات ويضمن استمرار التقدم الصناعى.

5) تبدد الوهم 

لقد حدثت كما رأينا تغيرات هائلة في ثروات النظام الرأسمالى خلال الفترة من 1932و1962.

ففي عام 1932 بدا أن كل تنبؤات ماركس حول النظام تتحقق، فقد حدثت أزمة كارثية أسوأ مما عرف النظام من قبل، فكان ثلث السكان عاطلين عن العمل في أكبر اقتصادين صناعيين في العالم ـ ألمانيا والولايات المتحدة ـووجد الملايين من جماهير الطبقة الوسطى أنفسهم في نفس الوضع البائس الذي تعاني منه جماهير العمال حتى في البلاد المتقدمة، وفي البلاد المستعمرة أدى انهيار أسعار المواد الخام إلى إغراق أعداد هائلة من السكان في بؤس فظيع، وكان عمق الأزمة ينمى أبشع الديكتاتوريات التي عرفها التاريخ، فشهدت ألمانيا صعود هتلر في مدة الحكم، وبدا أنه لا يوجد أمل في أى مكان في العالم سوى التخلص الكامل من الرأسمالية.

وكما كتب أنتونى كروسلاند القيادى اليميني في حزب العمال في 1956 عن خبرة شبابه “إن السيطرة الشاملة للأفكار الماركسية في الثلاثينات كانت انعكاسا لحالة من الازدهار الثقافي منقطعة النظير في تاريخ الحركة العمالية البريطانية….بدأ كثير من الناس يشعرون بضرورة وجود تحليل شامل لتفسير الكارثة التي بدا أنها تكتسح الرأسمالية العالمية.

ولكن الأمور بدت مختلفة تماما بعد ذلك بربع قرن فكان هناك التوظيف الكامل في كل البلاد الصناعية المتقدمة. وبدا أن الإنتاج يتوسع باستمرار مع أطول رواج عرفه النظام من قبل. وارتفعت الأجور الحقيقية سنة بعد أخرى، وحتى الحكومات اليمينية شكلت دولة الرفاه لرعاية الفقراء والمرضى والعجائز. وبدت النازية كأنها كابوس  من الماضى مع استقرار الديمقراطية البرلمانية في البلاد المتقدمة وزحفها إلي دول أوروبا الجنوبية الأقل تطوراً.

كانت هذه الأوضاع هي خلفية إصرار العديد من المثقفين الذين أعلنوا قديما تبنيهم للماركسية أنها الآن لم تعد تصلح. فقد قبلوا الفكرة التي سادت حينذاك بأن الأزمات كانت أمراً من أمور الماضى وأن الصراع الطبقى يتلاشى. وأكدوا أن الرأسمالية كانت تتحول ببطء إلى مجتمع “رفاهية” ما بعد الرأسمالية والجدل الوحيد فيه كان حول كيفية انتشار مزايا الثروة غير المحدودة ووقت الفراغ الهائل.

ووضع كروسلاند هذه الرؤية في كتاب واسع الانتشار وهو “مستقبل الاشتراكية “إن الاعتقاد بأن “التناقضات الداخلية” في الرأسمالية ستؤدى تدريجيا إلى إفقار الجماهير وإلى انهيار النظام بكامله في النهاية واضح أنه الآن لم يعد له مبرر…فقد حل التوظيف الكامل محل الكساد، وتناقص عدم الاستقرار بشكل واسع وارتفع معدل النمو بشكل ملحوظ…إن معدلات النمو الحالية ستستمر ومن المحتمل أن يتميز المستقبل بالتضخم وبدلاً من البطالة…إن كل الملامح الأساسية للرأسمالية التقليدية ما قبل 1914 تقريبا إما أعيد تشكيلها أو تحولت تماما”.

وزعم كروسلاند أن ذلك قد حدث لأن الدولة نجحت في الاستحواذ على القرارات الاقتصادية الهامة من أيدى الرأسماليين التقليديين الذين يهتمون فقط بالربح “لقد فقدت طبقة رجال الأعمال الرأسمالية موقعها القيادى وانتقلت مصادر وروافع القوة الاقتصادية من أيدى الأفراد إلى أيادى الدولة…إن الحكومة تستطيع بالتأثير أساسا من خلال الموازنة، برغم وجود آليات أخرى مساعدة، أن تمارس آى تأثير تريده على توزيع الدخل ويمكنها أيضا تحديد توزيع الناتج الكلى داخل أطر واسعة بين الاستهلاك والاستثمار والصادرات والإنفاق الاجتماعى….إن القوة الاقتصادية لسوق رأس المال وبيوت التمويل، وبالتالى سيطرة رأس المال التمويلى على الصناعة أصبحت أضعف كثيراً وهذا التغير يجعل من السخف الحديث عن طبقة حاكمة رأسمالية”.

كانت هذه هى الأفكار التي دفعت قيادة حزب العمال البريطانى إلى القيام بأول جهد منسق له في 1959 لينفصل عن 40 عاما من التزامه القديم بـ”الملكية العامة لوسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل” وبرغم أن القيادة أخيرا تراجعت عن هذا التحول فقد أثرت أفكارها على كثير من العمال الذين ما عادوا يرون أولوية التحرك السياسي لتحدى النظام.

وبعد ذلك بعشرين عاما تحولت الأمور مرة أخرى تحولاً دائرياً فقد وصل رخاء ما بعد الحرب الكبير إلى نهايته مع ركود 1974ـ 1976، وفجأة لم تعد الإجراءات الكينزية التي وثق بها أناس مثل كروسلاند مؤثرة.

واعترف كروسلاند نفسه الآن أن أفكاره الأولى كانت مبالغة جداً، برغم أنه لا يزال يحاول الدفاع عن مرتكزاتها “مازلت توجد عدم المساواة القصوى بين الطبقات، والفقر تزايد بدلاً من القضاء عليه، والاقتصاد في حالة من الأزمة شبه الدائمة والتضخم واسع الانتشار”، وكتب في 1974: “.. برهن المجتمع البريطانى ـ الراكد، المتحجرـأنه صعب الاستجابة للتغييرات عما كان مفترض….إن الكتابات التراجعية الأولى كانت شديدة الغرور في لهجتها”.

وخلال العامين التاليين، عندما اتضح عجز الوسائل الكينزية في التعامل مع الأزمة، تحول المئات من الاقتصاديين والمحررين الاقتصاديين الذين كانوا يتعصبون للكينزية فجأة إلى النظريات “النقدوية” في نظريات ما قبل الثلاثينات. وأسرع السياسيون في اللحاق بالركب وفي بريطانيا تبنى رئيس وزراء حزب العمال جيمس كالاجان النظرية الجديدة علنا في مؤتمر الحزب عام 1976: “.. إننا عادة نعتقد أنه بالإمكان تخطى الأزمة من خلال تخفيض الضرائب وتنشيط الاقتراض الحكومى… هذا الخيار لم يعد موجوداً”، وبقدر ما كان متاحاً من قبل كان يعمل على حقن الاقتصاد بالتضخم. وفي كل مرة حدث ذلك يرتفع متوسط معدل البطالة، وكان البديل الذي تبنته حكومته للكينزية هو أنها سمحت للبطالة أن تزيد عن الضعف بينما طبقت برنامج صندوق النقد الدولى لتخفيض موازنة الرعاية الاجتماعية بقيمة 8 مليار جنيه إسترلينى (ما يعادل 20 مليار اليوم).

حتى في الجناح اليميني لحزب العمال كان يوجد زعماء بارزين قلائل يرتجفون لما يحدث. والآن أخبر كروسلاند ـ الرجل الذي أصر في 1956 أن بريطانيا لم تعد رأسماليةـمسئولى وزارة الخارجية المرتبكين أن صندوق النقد الدولى مؤسسة رأسمالية، وما لا يطاق هو أن تضطر، حكومة “اشتراكية” إلى فرض فلسفته عليها.

ومع ذلك رأى أمثال كروسلاند أنه مستحيل تغيير بقية حكومة العمال والبديل الوحيد الذي أمكنهم طرحه لبرنامج صندوق النقد الدولى هو فرض ضوابط على الواردات، كما فعلت الحكومات في العالم كله خلال الثلاثينات. ولكن زملائهم ومستشاريهم أصروا أنها لن تنجح وانتهى بهم الأمر للانحصار في سياسات البطالة وتخفيض الرعاية الاجتماعية الذي أعلن الكنزيون ذات مرة أنها لن تعد ضرورية.

وتجربة حكومة العمال البريطانية لم تكن الوحيدة من نوعها، فقد تكررت في فرنسا في الثمانينات عندما تخلت حكومة الحزب الاشتراكى بزعامة ميتران عن المحاولات الكنزية “لإنعاش” سياسات نتج عنها ما يقرب من  4 مليون عاطل، وفي السويد حيث  اتبعت حكومة الاشتراكيين الديمقراطيين سياسات جعلت أرض الأحلام النموذجية للاشتراكيين الديمقراطيين تعانى من نسبة بطالة بلغت 14%.

أن الواقع الأليم يشير إلى أن الكينزية لم تعد ناجحة. ولبعض الوقت في أوائل الثمانينات تمت محاولة لإنعاش السياسات الكينزية في بريطانيا من قبل يسار حزب العمال، فقد أعدوا “استراتيجية اقتصادية جديدة والتي أطلقوا عليها “اشتراكية”. في الواقع تمركزت هذه الاستراتيجية على الفكرة القديمة لكينز وكروسلاند بأن الدرجة العالية من سيطرة الدولة شاملة ضوابط الواردات، يمكنها أن تخرج بالقطاع الرأسمالى الخاص في الاقتصاد من الأزمة. وعلى آي حال فمع أواخر الثمانينات تخلى العديد من أشهر أنصار هذه السياسة عن فكرتهم. وتوجب على القيادات اليسارية السابقة مثل روبين كوك وديفيد بلانكيت وكليرشورت أن يدخلوا المادة الرابعة الجديدة (التي تتخلى عن مبدأ الملكية العامة لوسائل الإنتاج) بالرغم من ترافقها مع”تقلبات السوق الحادة”.

6) عيوب قاتلة

إن فشل تدخل الدولة “الكينزية” لإيقاف الأزمة الرأسمالية في الغرب كان يماثله انزلاق الاقتصاديات الستالينية في الشرق نحو الأزمة.أدى ذلك إلى زيادة تخبط أولئك الذين تطلعوا إلى الدولة في الغرب وفي “العالم الثالث” للتغلب على فوضى الرأسمالية. وبقدر ما تزايدت الاقتصاديات الشرقية قوة بعد قوة، كان يستخدم نموذجهم لتبرير سياسات ترمي لزيادة الاستثمار والقدرة التنافسية من خلال سيطرة الدولة في الغرب. وكان لسان حال كثير من اليساريين يقول لو فقط أمكن بشكل ما تطعيم الستالينية بالديمقراطية البرلمانية، فسيكون هناك سبيل للخروج من الأزمة من خلال برنامج إصلاح.

ولكن هذا الرأى لم يستطع الصمود أمام أحداث الثمانينات عندما اتضح أن الدول الشرقية بدأت في الانهيار الاقتصادى. فقد مرت بولندا بدورة الرخاء ـالأزمة (المتميزة) في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ـ وخلالها، شهدت صعود الحركة الجماهيرية للعمال، حركة تضامن، وتدميرها من خلال الحكم  ومنذ 1986 وما بعدها أعلن ميخائيل جورباتشوف زعيم الاتحاد السوفيتى أن اقتصاده يعانى من “الركود” ـحتى أزيح هو نفسه عن السلطة مع تطور الركود إلى أزمة بنفس حدة أزمة الغرب في سنوات ما بين الحربين.

ومع سقوط حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفيتى، ادعى، كثير من أولئك الذين فهموا الاشتراكية باعتبارها خليطا من سياسات ستالين وكينز، أن الرأسمالية برهنت على تفوقها على الاشتراكية.

وفي الواقع، ليست الاشتراكية هى التي سقطت، ولكن استراتيجية التغلب على الأزمات القديمة لرأسمالية السوق عن طريق رأسمالية الدولة هى التي سقطت. جعل ذلك السقوط الفائزين والمغلوبين سواء بسواء عاجزين عن مواجهة أزمات جديدة ـكما اتضح في الغرب مع الأزمة العالمية التي بدأت في 1990 وفي الشرق مع فشل الخصخصة والسوق في إنهاء الأزمة المتفاقمة.

لقد جاءت مرحلة في تاريخ الرأسمالية استطاعت خلالها وسائل رأسمالية الدولة العسكرية تخفيف الأزمات. ولكن هذه المرحلة انتهت ثم لم تستطع كل محاولات الحكومات إصلاح الأمور مرة ثانية.

وقد تنبأت بذلك الدراسات الماركسية الأولى عن رأسمالية الدولة العسكرية التي أعدت في قمة رخاء ما بعد الحرب من قبل أناس مثل فانس وكيدرون. لقد أوضحوا في الخمسينات والستينات أن رأسمالية الدولة العسكرية تحتوى على عيوب هيكلية كانت يتجاهلها الكينزيون ومبررى الستالينية معا.

أولاً، أن المنافسة بين القوى العظمى دفعتها إلى القيام بأشكال من الإنتاج العسكرى الذي تضمن استثمار كميات أكبر كثيراً من رأس المال وبالضبط تم استبدال إنتاج البنادق بإنتاج الصواريخ وبإنتاج السفن الحربية وإنتاج الأسطول النووى بشكل متزايد وأصبحت مصانع مثل بوينج في ستيل والتي كانت ذات يوم تستخدم 120 آلف شخص تستخدم الآن أقل من نصف هذا الرقم. ونتيجة لذلك، فإن حجم الإنفاق العسكرى الذي أمكنه تحقيق التوظف الكامل للاقتصاد ككل في أوائل الخمسينات لم يكن قادراً على تحقيق ذلك مع أوائل السبعينات.

ثانياً، وفر الإنفاق العسكرى للقوى العظمى سوقاً لعديد من البلاد الأصغر التي لم تنفق هى نفسها الكثير على السلاح. هكذا كانت الولايات المتحدة ـ التي تنفق أكثر من 8% من إنتاجها القومى على السلاحـتستورد التليفزيونات والسيارات والصلب من اليابان التي تنفق أقل من 5ر0% على الأسلحة والتي استطاعت توظيف ثروات هائلة لتطوير صناعاتها المدنية.

وتطورت صناعات البلاد ذات الإنتاج العسكرى المنخفض أسرع كثيراً من منافسيها ذوى الإنتاج العسكرى المرتفع، وأصبحت تمثل جزءاً أكبر بكثير من النظام العالمى مما كانت عليه قبل ذلك بعشرين أو ثلاثين عاماً. في نفس الفترة كانت الدول ذات الإنتاج العسكري الكبير تحت ضغط المنافسة في الصناعات المدنية تقوم بتحويل الثروات إليها من صناعة السلاح ففي الولايات المتحدة انخفضت النسبة المخصصة لإنتاج السلاح من الناتج القومى من حوالى 12% في أوائل الخمسينات إلى حوالى 7% في السبعينات.

ولكن تدهور النسبة الكلية من الموارد القابلة للاستثمار في النظام العالمى التي يتم تخصصيها لإنتاج السلاح كان كافيا ليعيد إلى الظهور كل العوامل القديمة التي تخلق عدم الاستقرار الاقتصادى على مستوى النظام. لذا فقد شهدت السبعينات أولى الأزمات منذ الثلاثينات التي تؤثر على كل الاقتصاديات الغربية الرئيسية في نفس الوقت. شهدت هذه السنوات أيضا عودة الاتجاهات القديمة، التي بينها ماركس، إلى الظهور على مستوى واسع ـ وذلك لأن عملية تزايد الاستثمار على مستوى النظام تكون أسرع كثيراً من قوة العمل الموظفة وبالنسبة لاتجاه معدل الربح نحو الانخفاض.

وأخيراً، كان الاتجاه الثالث الذي تطور خلال فترة الرخاء الطويل وأعاق بشدة قدرة الحكومات القومية على التعامل مع الأزمات.

فقد كان التوسع الكبير للنظام مصحوبا بالنمو السريع للتجارة العالمية، بحوالى ضعف سرعة الناتج الاقتصادى العالمى. والمبالغ المتدفقة بين البنوك في بلاد مختلفة في يوم معين قللت من أهمية احتياطى النقد الأجنبى لدى الحكومات القومية. وقد فاقم ذلك من صعوبة أن تقوم هذه الحكومات بالرقابة على ما يفعله الرأسماليون بأموالهم. فمثلاً، كانت معظم الحكومات في الخمسينات تعتقد أنها تستطيع تحديد سعر صرف معين لعملاتهم، ومع أواخر الثمانينات شعرت الكثير منها بعجزها عن القيام بذلك.

كان نمو التجارة مصحوبا بتدويل التمويل والإنتاج، حيث لم يكن هناك غير الشركات التي تعمل عبر الحدود القومية تستطيع أن تقوم بالاستثمار في أكثر أشكال التكنولوجيا تقدماً. وأصبحت حفنة من الشركات المتعددة الجنسية العملاقة تسيطر على صناعة الطائرات والكومبيوتر وبرامج الكومبيوتر وصناعة السيارات والاتصالات وصناعة السفن. وتعرضت الحكومات الرأسمالية التي أوقفت صناعاتها الوطنية الخاصة عن التعاون مع هذه الشركات لخطر أن تفقد وسيلة الحصول على أكثر التقنيات تقدماً. ولكن تلك الحكومات التي اختارت التعاون سلمت السيطرة على القطاعات الرئيسية من الصناعة للرأسمالية المتعددة الجنسية التي اهتمت بالأرباح العالمية وليس استقرار رأس المال القومى.

وجدت الحكومات نفسها تزداد عجزا بمجرد تفجر الأزمات بدرجة لم تشهدها منذ نصف قرن. وأصيبت الحكومة البريطانية في 1976ـ 1977 والحكومة الفرنسية في 1981ـ 1982 بالشلل بسبب “تصدير العملة” في نفس اللحظة التي أتبعوا فيها حتى الحد الأدنى من “الوسائل الكينزية”.

وتعلم القادة السياسيون في بلاد “العالم الثالث” المضيفة والبلاد “حديثة التصنيع” نفس الدرس في الطريق العصيب خلال الثمانينات. ومع بداية ظهور علامات الأزمة في اقتصادياتهم أسرعوا إلى تبنى السوق و”برامج التكيف الهيكلى” التي يعدها صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، على آمل كاذب بأن رأسمالية “السوق الحر” ستلقى نجاحاً أينما تسقط رأسمالية الدولة.

لم تكن الأمور مختلفة عن ذلك في الدول الشرقية. فقد وجدت أن معدلات نموها تتدهور ويتزايد تخلف اقتصادياتها في محاولاتها للمنافسة من داخل حدودها الوطنية الضيقة مع الاقتصاديات الغربية الأكبر. حتى أكبر الاقتصاديات الشرقية ـ الاتحاد السوفيتىـكان أقل من نصف حجم اقتصاد الولايات المتحدة والتي كان يحاول أن يواكب إنتاجها من السلاح. وعندما بدأت الولايات المتحدة جولة جديدة من الإنفاق العسكرى مع “الحرب الباردة الثانية” في الثمانينات وجد حكام الاتحاد السوفيتى فجأة أنهم لم يستطيعوا الصمود.

وبدا أن المخرج الوحيد من ذلك هو التخلى عن اقتصاد رأسمالية الدولة العسكرية الذي يدار مركزياً لصالح الحركة الحرة للسوق العالمى الخارج عن سيطرتها، مع موجات صعودها وهبوطها التي لا يمكن التنبؤ بها.

من هنا كان “الاكتشاف” المفاجئ لحكام بلاد الكتلة الشرقية، من المجر وبولندا إلى الصين وفيتنام أن “الاشتراكية” قد فشلت ـ الاكتشاف الذي دمر ثقة كل المعجبين في الغرب و”العالم الثالث” برأسمالية الدولة القديمة. ومن هنا أيضا كان التطلع الملحوظ، لدى كثير ممن ظلوا طوال حياتهم اشتراكيين في الغرب والعالم الثالث، لتبنى مزايا اقتصاد السوق في 1989ـ 1990، بالضبط عندما كانت الرأسمالية على وشك الدخول في أزمة جديدة طاحنة برهنت إنها كنظام لم تتغير بأدنى درجة، من ناحية الأسس، منذ مزق ماركس مظاهرها إرباً قبل أعوام طويلة.

الفصل الخامس: السقوط في الهاوية 

1) مرحلة جديدة 

 قد تبدو الرأسمالية في منتصف التسعينات مختلفة عن الرأسمالية في منتصف الخمسينات كما اختلفت هذه الرأسمالية في أوائل الثلاثينات. فمرة أخرى تواجهنا المستويات العالية من البطالة والأزمات المتتالية ومساحات ضخمة من البؤس. ويتواكب فائض الإنتاج مع تخفيض ميزانية الرعاية الاجتماعية والضغوط نحو تخفيض الأجور الذي يزيد من تقلص السوق بالنسبة للمنتجات ومرة أخرى يظهر الإحباط حتى بين مؤيدى النظام القائم حول مستقبله، فيعبر ويل هاتون عن حالة منتشرة عندما يكتب عن بريطانيا: 

يوجد إحساس متزايد وصحيح تماماً بأزمة تشمل كل الطبقات عن طبيعة وإمكانية العمل وآثاره على كل جوانب المجتمع ـ من العناية بأطفالنا إلى التدهور المتزايد في مدننا…وينتشر عدم الاطمئنان وانخفاض الأجور والقدرات المهدرة وتصل المشكلة إلى المهن والوظائف التي ساد الظن ذات مرة أنها لن تمس…واحد من كل أربعة من الرجال في سن العمل في البلاد عاطل عن العمل…وتزايدت أعداد من يعانون من الفقر الشديد إلى نسب مقلقة، وتتوالى مظاهر التوتر الاجتماعي ـ من تفكك الأسرة إلى نمو الجريمةـكل يوم تقريباً…ويربى واحد من كل ثلاثة أطفال في فقر شديد…ويتزايد انقسام البلاد على نفسها، مع وضوح عدم اكتراث طبقة الضباط المتعجرفين بالرتب الأخرى التي تقودها. فهذه الطبقة المتميزة تتمتع بالتعليم والوظائف والسكن والمعاشات. وعلى الجانب الآخر يوجد عدد أكبر فأكبر من الناس أنهم من العمال الفقراء الجدد، أو ممن يعيشون على حساب الدولة في حالة شبه بائسة….وبينهما يوجد عدد متزايد من الناس في حالة من القلق خوفاً على وظائفهم في عصر من “التحجيم” الدائم و”تخفيض التكلفة” و”التضحية” ويزداد قلقهم حول قدرتهم على الحفاظ على مستوى معيشة لائق.

ويحاول هاتون أن يرجع ما يحدث ليس إلى مشاكل الرأسمالية عموماً ولكن إلى خصائص النموذج البريطانى الذي يدعى أنه مشوه بسبب دور المؤسسات التمويلية في مدينة لندن، ولكنه اضطر أن يعترف “إن ما يحدث في بريطانيا ليس إلا شكلا أكثر حدة مما يحدث في أماكن أخرى…فنادراً ما توجد دولة غربية لا تشكو على الأقل من إحدى المشكلات المماثلة لبريطانيا. ففي الولايات المتحدة يعد القلق في العمل مرضاً مزمناً، وكما أن أجور أدنى 10% من إجمالي قوة العمل منخفضة بحوالى 25% عن أجور نفس الشريحة في بريطانيا….وتقريبا واحد من كل خمسة وظائف في الولايات المتحدة لا يدر دخلاً كافياً لرعاية أربعة أشخاص.

كان جالبريث أحد المنظرين البارزين لـ “مجتمع الرفاهية” في الخمسينات والستينات. قد قدم وصفاً مرعباً للولايات المتحدة اليوم تقريبا بنفس درجة وصف هاتون لبريطانيا “في 1988 كان دخل 1% من الأسر في القمة يصل إلى حوالى 617 ألف دولار (حوالى 8 آلاف إسترليني أسبوعياً) ويسيطرون على 5ر13% من الدخل قبل الضريبة …ويعيش أغنى 20% في رخاء بدخل يصل إلى 50 ألف دولار سنويا (حوالى 700 إسترليني أسبوعيا) فأكثر.. ويحصلون على 51% من إجمالى الدخل قبل الضرائب. إن رفاهيتهم ومستواهم الاقتصادى المرتفع يدعمه ويقويه وجود طبقة أساسية ضخمة وذات أهمية كبيرة في الاقتصاد المعاصر لا تحظى بالقبول في الوجود في المجتمع الراقى…إن هذه الطبقة جزء لا ينفصل عن عملية اقتصادية أوسع وتخدم مستويات معيشة ورفاهية المجتمع الراقى. إن المتضررين اقتصاديا يعتمدون على وجودها…فالفقراء في اقتصادنا مطلوبون للقيام بالعمل الذي لا يقوم به الأثرياء، ويجدونه مقززاً جداً وحتى مرهقاً.

يتحدث جالبرث ببلبلة عن “غالبية راضية” من ثلثى الجماهير ـ ولكنه يقصد ثلثى أولئك الذين يهتمون بالتصويت (نصف الناخبين)، وليس ثلثى السكان البالغين. في الواقع، يلاحظ أن الغالبية العظمى من السكان الأمريكيين تسوء أحوالهم على مدى الخمسة عشر عاما الماضية، كما إن أربعة أخماس الأسر تعانى من انخفاض دخلها وانخفاض متوسط الأجور للعمال بحوالى 50%.

وهو أيضا يصر في كتاباته على  “الميل الداخلي للرأسمالية يتجه نحو عدم الاستقرار والركود والانكماش وعلى اتجاه النظام الاقتصادى بقوة للتحول إلى التدمير ـ ليس فقط على المستهلكين والعمال والجماهير بصفة عامةـبل وبعنف إلى الداخل على نفسه”. ويكتب عن تزايد حدة الانكماش والأزمة بسبب الركود الاقتصادى طويل المدى، عن الخطر المتضمن في القوة العسكرية المستقلة، وتزايد عدم الاستقرار في الأحياء الفقيرة في المدن الناتجة عن تزايد الحرمان والإحباط، بل إنه يقارن بين الولايات المتحدة اليوم والاتحاد السوفيتى قبل انهياره “.. أمور قليلة كان ممكنا أن تكون للأحداث المتفجرة في أوروبا الشرقية ما يضاهيها في الولايات المتحدة أو ربما في بريطانيا. إن الشيوعية قد فشلت والرأسمالية منتصرة، هل من الممكن أن يكون المرء متشائماً جداً ليرى عيوباً قاتلة كامنة في النظام الناجح وخفية بنفس الدرجة؟ للأسف توجد هذه العيوب.

بالطبع، لا نسمع مثل هذه الإدانات القاسية لما يحدث من اقتصاديى اليمين المحافظ. فما زالوا يحاولون الاحتفال بانهيار الاقتصاديات التي تديرها الدولة في الاتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية. ولكنهم يضطرون للاعتراف بأن النظام يسير بطريقة أكثر تدميراً بكثير مما كان يتردد في الخمسينات بل وفي منتصف الثمانينات.

لقد تمكن رئيس وزراء حكومة المحافظين السابق نايجل لوسون من الهجوم على خليفته كليرك لعجزه عن فهم حتمية “الدورة الاقتصادية” للرخاء والأزمة. ولاحظ صموئيل بريتان الذي تحمس “للنقدوية” في الماضى والمحرر في جريدة الفايننشال تايمز ببلبلة “العوامل الكامنة مثل التراجع عن ضمان العمل مدى الحياة الذي تعانيه كل البلاد والتي تنتج عدم استقرار العمل. وتعكس صحف المحافظين زيادة التوتر في حياة العاملين في عناوين رئيسية مثل العمل الزائد مرض الطبقة الوسطى المزمن، وحتى وهم مستمرون في الضغط لزيادة أعباء العمل بالدعوة إلى توفير العمل والنقد العنيف للممارسات الأسبانية القديمة في نفس الوقت يعترف اليمين الجديد بعجز النظام عن بث الأمل في الكثيرين الذين يعيشون داخله مع الدعوة إلى تخفيض ميزانية الرعاية الاجتماعية ـ حتى في حالة نيوت جينجريتش في الولايات المتحدة، وامتداح ورش القرن التاسع عشر كطريقة للتعامل مع الطبقة الدنيا.

إن هذه الدعوة كانت مفارقة بالنسبة لدعوة الخمسينات عندما وعد ـ حتى اليساريون المحافظون مثل ايزنهاور في الولايات المتحدة وماكميلان في بريطانياـالجميع بحياة أفضل، وعندما كان الحلم الأمريكى يعنى ليس فقط الازدهار للطبقة العليا ولكن أيضا الأمان للطبقات الدنيا، وعندما فازت حكومة المحافظين في بريطانيا بالانتخابات حول شعارات “نحن جميعا طبقة عاملة اليوم” و “أنتم لم تشهدوا رخاء كهذا أبداً”. إنها أيضاً مفارقة بالنسبة للثمانينات، وعندما وعد كل من ريجان في الولايات المتحدة وتاتشر في بريطانيا “بالرأسمالية الشعبية” حيث تنهمر الثروة من الأغنياء على الفقراء.

وبطريقتهم الخاصة، يعترف كل من يسار الوسط واليمين بأن النظام دخل مرحلة جديدة في الربع الأخير من القرن العشرين مرحلة تتشابه بوضوح ولكن بدرجة أعلى بكثير مع تلك التي شهدها في الربع الأول من القرن.

توضح الإحصائيات المجردة ذلك حيث كانت معدلات النمو الاقتصادى في كل البلاد المتقدمة وتقريبا في كل بلاد العالم الثالث وكذلك البلاد “حديثة التصنيع” غير الآسيوية منخفضة منذ منتصف السبعينات عما كانت عليه منذ 25 سنة مضت.

وقد ارتفع متوسط معدل البطالة خلال هذه الفترة أيضا ففي البلاد المتقدمة تنتشر معدلات البطالة بنسبة 8% أو حتى في حالة أسبانيا وايرلندا تصل إلى 20% وفي العالم ككل  تقدر الأمم المتحدة عدد العاطلين بألف مليون شخص. وحتى الجزء الذي ينمو أسرع من الاقتصاد العالمى والشهير “بالمجال الاقتصادى الصينى” (الصين وهونج كونج وتايوان وسنغافورة) يتركز النمو حول مناطق معينة، بينما في عمق الصين الواسع يتوق مئات الملايين إلى الهرب من البؤس الريفي، ولكن لا يمكن توفير فرص عمل لهم في المدن.

الدولة متوسط معدلات النمو 60ـ 1968 إجمالي الناتج القومي لكل فرد79ـ 1988
الولايات المتحدة 6ر2 9ر0
اليابان 8ر8 1ر3
ألمانيا الغربية 2ر4 9ر1
فرنسا 9ر4 4ر2
المملكة المتحدة 7ر2 6ر2
إيطاليا 3ر6 6ر1

 

إن تباطؤ معدلات النمو يعكس انخفاض متوسط معدلات الربح. ورغم كل الضغوط لزيادة سرعة العمل وتخفيض الأجور. كان متوسط معدلات الربح في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى في أواخر الثمانينات فقط حوالى 60% من مستواها في الخمسينات والستينات.

ردت الشركات على انخفاض الأرباح كما كانت تفعل دائما في الماضى بمحاولة كل منها لتعزيز موقفها بتخفيض قوة العمل أكثر وزيادة الاستثمارات “كثيفة رأس المال”. 

لقد تزايد معدل رأس المال بالنسبة للعمل على مستوى العالم، فازداد بنسبة 4ر2% سنوياً في الصناعات الإنتاجية في الولايات المتحدة بين 1977 و 1978 وازداد بنسبة 2% سنويا بالنسبة للاقتصاد البريطانى ككل في الثمانينات، وتضاعف في الصناعة الصينية فيما بين 1985و1990 وفي أمريكا اللاتينية تزايد الاستثمار بالنسبة للعامل بمقدار 2000 دولار في فترة الثمانينات. ولكن ذلك يعنى أن الاستثمارات الجديدة توفر فرص عمل جديدة أقل فأقل. فينجرف الناس خارج القطاعات الصناعية القديمة “غير القادرة على المنافسة” دون توفير فرص عمل لهم في قطاعات جديدة متقدمة تكنولوجياً.

إن توسع الإنتاج باستخدام عمل أقل، من الممكن أن يؤدى إلى تحقيق الأحلام الطوباوية للبشرية كلها في الخمسة آلاف سنة الماضية ـ إلى عالم خالى من الندرة القاتلة والى التحرر من ضغط العمل وإلى وقت فراغ للإبداع الحقيقىـولكنه في ظل النظام الحالى بدلا من ذلك ينتج ببساطة مفارقتين لعينتين. فهناك عدم التوازن المتزايد بين مستوى الاستثمار ومستوى الربح المطلوب لدعم ذلك الاستثمار، وهناك الفجوة المتزايدة بين الناتج الممكن للاقتصاد وبين القدرة الشرائية لدى الناس لتوفير “الطلب الفعال”.

إن تراكم رأس المال الإنتاجي يحدث بطريقة عشوائية، فجأة يتقدم إلى الأمام ويقضى على الوظائف القديمة ثم خوفا من عدم تحقيق أرباح يتوقف فجأة ويمنع إيجاد فرص عمل جديدة، وتخفض الشركات قوة العمل حتى تسبق منافسيها وتطلب من بقية العمال الموجودين أن يعملوا أكثر وأشد. ومع تزايد حدة المنافسة تخصص الشركات موارد أكثر في أشكال من المنافسة غير الإنتاجية في الإنفاق على التسويق والإعلان والتطوير والتغليف. ومع انخفاض متوسط معدلات الربح، هكذا يتزايد السعى المحموم وراء  تحقيق أرباح طائلة من المضاربة في البورصات العالمية وفي تنمية المكاتب وقيم الأراضى وفي أسواق السلع والعملات الأجنبية وتنصب تريليونات من الدولارات في تمويل عالمى كامل من الأسهم والسندات والأوراق المالية المنفصلة تماماً عن الإنتاج الحقيقى للثروة من خلال العمل والآلات.

ربما يكون النظام قد دخل مرحلة جديدة ولكن الطريقة التي يعمل بها ليست جديدة إنها في جوهرها تماماً الطريقة التي وصفها ماركس.

إن المعنى الوحيد “لتجاوز” ماركس ليس أن النظام أصبح أكثر عقلانية مما كان يعتقد، بل لأن الصورة التي قدمها تقلل من درجة تدميرية النظام. فالرأسماليون لا يحاربون فقط بعضهم البعض على الأسواق، بل أيضا يستخدمون الدولة لإجبار  الرأسماليين المنافسين على الإذعان لطلباتهم، مستبدلين المنافسة الاقتصادية بمظاهر الجبروت العسكرى.

فتحاول الرأسمالية الأمريكية أن تقنع الرأسمالية الأوروبية واليابانية للإذعان لأوامرها بالبرهنة على أنها الوحيدة التي لديها القدرة على إشعال الحرب في مناطق البترول الغنية الهامة في الشرق الأوسط. ويعتمد الرأسماليون الإيرانيون والأتراك على مساعدة دولهم في المنافسة فيما بينهما على النفوذ والتعاقدات في الحزام الجنوبى من الاتحاد السوفيتى السابق. ويشجع الرأسماليون الأتراك واليونانيون سباق تسلح على مستوى صغير حيث يسعى كل منهم لأن يلعب دوراً مسيطراً في بلاد البلقان التي سيطرت عليها روسيا ذات يوم. وألمانيا تدعم كرواتيا والولايات المتحدة تدعم مسلمى البوسنة واليونان تدعم الصرب في الحروب البشعة في يوغوسلافيا السابقة.وتشن العسكرية الروسية حرباً فظيعة للسيطرة على أنابيب البترول الهامة عبر الشيشان ومن أجل النفوذ على جمهورية طاجيكستان على حدود أفغانستان. وتصطدم كل من الصين والفليبين وماليزيا من أجل السيطرة على احتياطات البترول المفترض أنها تقع بالقرب من الجزر الغير مأهولة في بحر الصين. وتحاول إسرائيل أن تنزع من مصر السيطرة الاقتصادية في الجزيرة العربية.

ولكن النتيجة أنه في أى نقطة من الزمن توجد نصف دستة حروب أو حروب أهلية باستخدام أكثر أشكال الأسلحة التقليدية بشاعة في جزء أو آخر من العالم.

وإلى جانب المذابح والمجاعات التي تصيب قطاعات أوسع من البشر   فإن هناك شيء آخر يتهددنا لم يكن واضحا في عصر ماركس ـ هو خطر تدمير البيئة التي نعتمد عليها في البقاء. كان ماركس وإنجلز مدركين تماماً أن السعى المجنون لتراكم رأس المال يؤدي إلى التلوث ـ تسمم الأرض والهواء وسوء الأغذية وانتشار الأوبئة القاتلةـوكتب إنجلز عن ذلك بوضوح في كتابه ضد دوهرنج. ولكنهما كانا يعيشان في عصر كانت الرأسمالية فيه محصورة في مناطق صغيرة نسبيا من العالم، وتأثيرها لا يقع على البيئة في العالم بأسره ـ كما اتضح من الطريقة التي انتشرت بها السحب المشعة من تشرنوبيل في أوروبا بكاملها. وكما اتضح من الطريقة التي خلت بها البحار من الأسماك. ومن تدمير طبقة الأوزون بسبب الغازات المستخدمة في الإيرسول والثلاجات. والأهم من ذلك هناك خطر ظاهرة الاحتباس الحراري التي أدت إلى عدم استقرار المناخ في العالم ككل فأغرقت البلاد المنخفضة وحولت مناطق خصبة إلى صحراء.

هذه هى الأوضاع التي يتوقع المدافعون عن السوق الرأسمالى أن ندافع عنها.

2) لا إجابات جديدة 

تبدو التوقعات بائسة بالنسبة للنظام الحالى وبالنسبة لخمسة مليارات إنسان يعيشون في ظله. وأكثر المؤمنين بإصلاح النظام سعة في الأفق يرون ذلك. فيحذر وليام هوتون قائلا “لو لم تعترف الرأسمالية الغربية عموما والرأسمالية البريطانية على وجه الخصوص بأن عليها مسئوليات اجتماعية وسياسية نحو العالم الذي نعيش فيه فسوف ننقاد إلى الدمار الشامل”.

ومع ذلك فإن محاولات إصلاح النظام أقل نجاحاً بصورة مطلقة مما بدت عليه في الخمسينات أو حتى في تسعينات القرن التاسع عشر.

ويلاحظ هوتون نفسه أنه في السويد ـ التي كانت تصور على أنها أرقى مثال على التنظيم الاشتراكى الديمقراطى للرأسمالية ـجاءت الهجمات الأولى على دولة الرفاه منذ الثلاثينات من حكومة اشتراكية ديمقراطية “لتلجيم الزيادة في الاقتراض الحكومى”، بينما في فرنسا تبنت حكومة الحزب الاشتراكى في أواخر الثمانينات سياسة الانكماش التنافسى والتقشف الاقتصادى التي أدت إلى البطالة بين الشباب أعلى من مستواها في بريطانيا، ولم يكن الاشتراكيون الأسبان وحزب العمال في نيوزلندا أقل حماسا حول تخفيض الموازنة والخصخصة وإعادة هيكلة دولة الرفاه مما يدعى المحافظون الكنديون. وفي كل مكان هدأت الحدة الأيديولوجية للمنافسة السياسية فالأحزاب السياسية المختلفة عندما تتولى السلطة تقدم برامج متماثلة.

في بريطانيا، استغل جوردون براون المتحدث الاقتصادى لحزب العمال مؤتمراً حول التغيرات الاقتصادية العالمية في 1994 لانتقاد محاولات الإصلاح السابقة بقوله “لقد حاول حزب العمال في الماضى تعويض فشل وجور قوى السوق الحرة من خلال استبدال السوق بالحكومة وغالبا ما اعتبر سياسات الضرائب والاقتراض والإنفاق إصلاحا سريعاً انفصاليا للتدهور القومى”  ولخصت صحيفة الاندبندانت ـ التي تتفق مع الكثير من أفكار براونـكلمته تحت عنوان براون “يتخلى عن كينز”.

برر براون موقفه بالقول أن “عولمة” الرأسمالية ـ أي انتشار الإنتاج متعدد الجنسية والتمويل وكذلك التسويقـينفي المحاولات الكينزية القديمة من قبل الدولة القومية لحماية نفسها من تقلبات الاقتصاد العالمى. تم توضيح هذه الرؤية بصورة أكثر اكتمالا ودقة من قبل أحد المستشارين السابقين لبراون فيجادل الاستاذ ميجناد ديساى من كلية لندن للاقتصاد في سلسلة من الأعمدة في صحيفة تريبيون “لم يعد ممكنا إتباع سياسات كينزية يسارية في مجال بلد واحد…نحن نشهد الآن في التسعينات عودة لنوع من الاشتراكيين الأمميين في القرن التاسع عشر أدركوا مع الحركة العالمية لرأس المال، والدولة عاجزة عن ممارسة سيطرة كبيرة على الاقتصاد.”

ويؤكد “أن عدم نجاح الحكومات الاشتراكية والإصلاحية لا ينتج عن فشل الإدارة أو جبن القيادة، إن المشكلة هى إعادة إحياء الرأسمالية…ولمدة قرن بعد ماركس وإنجلز تظل الرأسمالية تعيد إنتاج نفسها باستمرار، وهذا يعنى أنه حتى الملكية العامة للاقتصاد ليست ضمانا للسيطرة على السوق”.

دفعت هذه الرؤية قيادة حزب العمال إلى نبذ الصياغة القديمة للفقرة الرابعة من وثيقة الحزب، والتخلي عن تبنيه “للملكية العامة لوسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل”، وحجتهم مثل أولئك المفكرين “التراجعيين” في تسعينات القرن الماضى وفي خمسينات القرن الحالى، إن هذه الصياغات أصبحت “قديمة” تتجاهل “التغيرات الجوهرية” في الرأسمالية. ويؤيدهم في ذلك اقتصاديون يمكن تسميتهم “يسار الوسط” مثل هوتون وديساى.

ومع ذلك يوجد فارق هام بين أفكار قيادة حزب العمال اليوم وتلك التي استخدمها “التراجعيين” برنشتاين في تسعينات القرن الماضى وكروسلاند في خمسينات القرن الحالى. فقد رأى برنشتاين وكروسلاند أن النظام لا يتطلب التغيير الثورى الجذرى لأنه كان يتغير من تلقاء نفسه إلى شكل ما إنسانى وعقلانى هكذا أصر برنشتاين “في كل البلاد المتقدمة نرى مزايا البرجوازية الرأسمالية تميل خطوة خطوة إلى التنظيمات الديمقراطية…وتكتسب المصلحة العامة سلطة إلى مدى يتزايد في مواجهة المصلحة الخاصة ويتوقف التأرجح البدائى للقوى الاقتصادية….هكذا يخلص أفراد وأمم بكاملها جزءاً أكبر من حياتهم من سيطرة الضرورة التي تحاصرهم”.

كان التدويل المتزايد للنظام يعنى أن الأزمات الكبرى أمر من أمور الماضى “إن التوسع الهائل للسوق العالمية…قد زاد من إمكانية معالجة الخلل..والأزمات الاقتصادية العامة المشابهة للأزمات الأولى سوف تعتبر غير محتملة الوقوع”. بالإضافة “أن حافز المضاربة يتوقف عن أن يلعب دوراً حاسماً في القطاعات الرئيسية من الإنتاج.

طور كروسلاند كما رأينا هذه الرؤية مدعيا أن الحكومة تستطيع “أن تمارس أى تأثير ترغب فيه على توزيع الدخل وتقرر داخل حدود واسعة تقسيم الناتج الكلى بين الاستهلاك والاستثمار والصادرات والإنفاق الاجتماعى”، وادعى أن هذا يتيح لها ضمان التوظف الكامل، وأن تقلل من مستوى الفقر، وأن تزيد من حقوق العمال وتخلق الشروط من أجل “المساواة”. لقد كانت هذه القدرة هى التي جعلت من السيطرة الاشتراكية على وسائل الإنتاج المملوكة لأفراد “غير ضرورية”.

وعلى النقيض ينادى بلير وبراون وآخرون بأن هدف الملكية الاجتماعية يجب إسقاطه لأنه لا سبيل لإيقاف سيطرة قوى السوق على الجنس البشرى. فيرحبون في صياغاتهم الجديدة للفقرة الرابعة “بديناميكية السوق وعنف المنافسة” ـ برغم ذلك كما يحتمل أن يوضح أى هايكى (من أنصار هايك) أن “ديناميكية السوق” هى “التدمير البناء” لفروع كاملة من الصناعة وحياة أولئك الذين يعملون فيها، بينما عنف المنافسة يعنى زيادة الضغوط للعمل أشد ولوقت أطول في مقابل أجر أقل.

ربما لا تتكلم قيادة حزب العمال نفسها بهذه المصطلحات الهايكية، ولكنهم يقبلون منطق هذه الرؤية. فهم يرددون أقوال السياسيين اليمينيين بأنه على الناس أن ينسوا فكرة “العمل مدى الحياة” ويتبنون مطلب أصحاب العمل من أجل “قوة عمل مرنة”، ويرفضون أن يلزموا أنفسهم بأى وعد “بالتوظيف الكامل”. وحقا، لديهم رؤية جاهزة للتأثير بأن حكومات العمال الماضية ظهر فشلها لأنها وعدت بأمور “لم تستطع تقديمها”. والطريقة الوحيدة لتجنب ذلك في المستقبل، كما يدعون، هو عدم تقديم أى وعود تقريباً. وفي الحقيقة ما يطرحونه ليس وعود برنشتاين وكروسلاند بإصلاحات غير محدودة كبديل عن الثورة، ولكن إصلاحية بدون إصلاحات.

3) النزع الأخير للإصلاحية

“نقول ما نعنى ونعنى ما نقول” هذا هو الشعار المفضل لقيادة حزب العمال. ولكن لا يمكنهم الاعتراف علنا بعدم قدرتهم على تقديم أى إصلاحات للجماهير التي تؤيدهم. لذا يتلاعبون بأفكار معينة ويعتمدون على اقتصاديى يسار الوسط وصحافته مثل ويل هوتون وويليام كيجين لتقديمها. ويجادل هؤلاء بأنه توجد نماذج بديلة من الرأسمالية التي تعمل أفضل كثيراً من تلك التي فشلت في بريطانيا. وتعتبر أشكال “السوق الاجتماعى” و “الشعبى” (بكلمات هوتون) التي توجد في ألمانيا واليابان أمثلة لها. ويقال أن هذه النماذج تمنح العمال درجة أعلى من الأمان لذلك تتمتع بتعاون أكبر مهم وهذا يوفر للشركات أرباح أعلى بينما في نفس الوقت يقدم للعمال شروطاً أفضل. وأكثر من ذلك، إن تبعية رأس المال التمويلى لرأس المال الصناعى في هذه البلاد يجعل من الأسهل بالنسبة لها الهروب من الأزمات. والنتيجة يدعى هوتون أنه في ألمانيا:

تتجاوز النقابات عن حق الإضراب وإتباع مصالحها الخاصة بغض النظر عن ظروف الشركات، وفي المقابل الإدارة تتخلى عن إدارة الشركات أوتوقراطياً من أجل المصالح الضيقة لحاملى الأسهم. وبدلا من ذلك هناك التوفيق لصالح السلوك المنظم والتعاون والذي يهدف إلى تنمية الإنتاج والاستثمار. والبنوك الألمانية جهات دعم مستقرة للصناعة الألمانية ولحاملى الأسهم القدامى…ويقابل هذا الاستقرار في الملكية والدعم التمويلى بنظام رفاهية يوفر درجة عالية من الرعاية الاجتماعية، كتعبير واضح عن التضامن الاجتماعى. بينما تشدد الأنظمة الرأسمالية بشرق أسيا وخاصة اليابانية على الثقة والاستمرارية والسمعة والتعاون في العلاقات الاقتصادية…فالشركة هى الوحدة الاجتماعية الرئيسية والتي يكون الأفراد أعضاء فيها وليسوا ببساطة عمالاً…والتفاوت في الدخل في أقل مستوى له على العالم. والدولة تسعى إلى بناء الوفاق وتوجه الشركات والنظام التمويلى في الاتجاه الذي يرسخه هذا الوفاق.

إن منطق كل من وجهتى نظر هوتون وكيجان (المختلفين قليلاً) يؤيد حكومة إصلاحية في بريطانيا إعادة تشكيل الرأسمالية البريطانية لتتفق مع هذا الخط.

ومع ذلك، لم يكن النموذج البريطانى للرأسمالية فقط التي عانت من الأزمة في التسعينات ولكن أيضا النموذجين الألمانى واليابانى ـ ففي وقت الكتابة ـ كانت ألمانيا تفيق من أزمة حادة، مع مستويات بطالة جارية لا تزال أكثر من 8% في الغرب مرتفعة 2% عما كانت عليه منذ ربع قرن مضى. وقد انخفضت المستويات الحقيقية لمعيشة العمال بسبب “ضريبة الوحدة” المصممة لتغطية تكاليف استيعاب اقتصاد ألمانيا الشرقية داخل الرأسمالية الألمانية. كما أثار أصحاب العمل إضرابات في صناعة التعدين الرئيسية في محاولة فاشلة لتخفيض الأجور أقل من مستوى التضخم وتأجيل تطبيق نظام 35 ساعة عمل أسبوعياً. وهناك حملات منظمة من أصحاب العمل المزعوم بأنها “تراعى الجانب الاجتماعى” لتخفيض المعاشات وأرصدة الرعاية الاجتماعية الأخرى.

وكما يعترف هوتون نفسه إن نموذجه أبعد ما يكون عن الاستقرار “تحت ضغط العولمة والمنافسة الحادة على التكلفة بدأت الصناعات متوسطة الحجم في التلاشى وهناك مخاوف من أن تجبر الشركات الألمانية الكبرى على الحصول على إمداداتها من بلاد منخفضة التكلفة بينما يفوز المنتجون العالميون بالعمل في موطن الصناعات متوسطة الحجم. وتحت نفس الضغوط يزعم أن البنوك الألمانية تصبح أقصر عمراً في مداها…وتطالب الشركات الكبرى في محاولة جادة للاقتداء باليابانيين واحتواء التكاليف من خلال الاتفاق على الأعمال الفرعية (والتنفيذ بمقاولات الباطن) وأنظمة صناعة “الوقت المحدد” (just in time) لدفع مورديها لأن يصبحوا أكثر مرونة.

وبالنسبة لنموذج “الشرق الأقصى” يعترف هوتون بأنه تضمن دائماً ساعات طويلة وغالبا ظروف عمل مهينة، وأكثر من ذلك عادة ما يفرضه دولة الحزب الواحد مثل تايوان والصين وسنغافورة ومثل اليابان فعليا لمدة 40 عاما أو ديكتاتوريات عسكرية مثل كوريا.

إن أكبر اقتصاد في شرق أسيا ـ في اليابانـيواجه الآن الكثير من نفس المشاكل كما في بريطانيا والولايات المتحدة وقارة أوروبا. فقد اندفع في أزمة عميقة في أوائل التسعينات تهدد الاستقرار المالى لبنوكها الكبرى. وقد جاء في الفايننشال تايمز أخبار “الانتقال المنتظم للإنتاج إلى الخارج” حتى أصبح حوالى سدس الإنتاج الصناعى عبر البحار. بينما تعانى كثير من الصناعات اليابانية من فائض الطاقة الإنتاجية في الداخل وتواجه تحديات متزايدة في الخارج. وفي 1994 ارتفعت البطالة إلى أعلى معدلاتها في 40 عاما مع توفر 64 فرصة عمل فقط لكل مائة شخص يبحث عن عمل. بعد كل هذا فمن الصعب فهم لماذا يجب أن تطرح الرأسماليات اليابانية والألمانية المترنحة نموذجاً لرأسماليات أضعف مثل تلك في بريطانيا.

إن الحديث عن “النموذج الأوروبى” أو “الشرق أسيوى” من الرأسمالية غالبا ما يكون مرتبطاً برؤية حول أهمية “رأس المال البشرى”، المهارات المتضمنة في العمل ذو التعليم العالى. فقد أكد جولدن براون على سبيل المثال أن هذا هو مفتاح التطور الرأسمالى اليوم فضلاً عن وسائل الإنتاج. وأكثر من ذلك يدعى براون أن ذلك يجعل “الجدل القديم” حول من يملك الصناعة لا معنى له.

في حين يرى براون أن طريق الرأسمالية البريطانية للتغلب على جوانب ضعفها هو أن تقوم بالاستثمار في رأس المال البشرى عبر التركيز أكثر على تدريب قوة عمل ماهرة. ويمكن أن ينتج ذلك عن مستويات معيشية أعلى وخدمات اجتماعية افضل يعوضها مستوى إنتاجية أعلى، حيث يدخل الاقتصاد مجالاً جيداً لارتفاع الناتج الشهيرة بـ النمو الكيفي.  

وتحتوى هذه الفكرة على ثلاثة ثغرات أولية. أولاً أن أعلى أشكال العمل مهارة اليوم لا يتحقق من تلقاء ذاته بدون وسائل إنتاج متقدمة. وفي الحقيقة أنه أكثر اعتمادا عليها عما سبق، ولهذا السبب يتزايد معدل الاستثمار بالنسبة للعمل على مستوى العالم ككل.

ثانياً لا يوجد سبب لماذا يجب أن تستطيع أى دولة معينة أن تحتكر توريد العمل الماهر. فحتى البلاد المتخلفة صناعيا مثل الهند والصين تضم عدة ملايين من الناس ذوى التعليم العالى لديهم كل المهارات المطلوبة للوظائف شديدة التعقيد مثل الهندسة المدنية وهندسة الكومبيوتر وهكذا، ناهيك عن وظائف ذات المهارة المتوسطة مثل إدخال البيانات ومعالجة البيانات ومعالجة الكلمات في الكومبيوتر. ويمكن فقط لنسبة ضئيلة من إجمالى السكان حيازة هذه المهارات، ولكن إجمالى السكان كبير بالقدر الكافي لتكون هذه النسبة الضئيلة قادرة على توفير كميات موازية من العمل الماهر للرأسمالية العالمية لما توجد في كثير من البلاد المتقدمة. في نفس الوقت فإن التقدم في تكنولوجيا الاتصالات يجعل من الممكن تنفيذ التصميمات المعقدة ومهام الكومبيوتر في البلاد الأقل تقدما لإعادة إرسالها إلى المراكز المتقدمة للإنتاج.

في ظل هذه الظروف سوف يستخدم الرأسماليون التهديد بنقل هندسة الكومبيوتر مثلا إلى مكان ما مثل بانجالور في الهند كأداة لتخفيض الأجور وزيادة ظروف العمل سوءاً لقوة العمل في بريطانيا. ولا شئ مما يقترحه براون وهوتون سوف يوقفهم.

ثالثاً حتى لو كان “رأس المال البشرى” محورياً فلن يوقف ذلك الاتجاه العام في كل من النظام العالمى وقطاعه البريطانى نحو أزمات أعمق. ستظل الضغوط قائمة على أصحاب العمل لتقليل مستويات التوظيف. هكذا ـ مثلاًـنجد أن تكنولوجيا الاتصالات الجديدة المعروفة باسم “تيليماتيكس”، والقائمة على التكامل بين تكنولوجيا الاتصالات والكومبيوتر بدلاً من تساهم في توسيع التوظف، تدمر وظائف أكثر من التي توفرها، حسب ما جاء في دراسة للأستاذ جون جودارد بجامعة نيو كاسل. ولا شئ يوقف الخراب الذي تسببه أزمة الإنتاج الزائد الدورية، الخراب الذي سوف يزداد مع الوقت بسبب الضغوط نحو انخفاض معدل الربح.

إن عجز رفع مستوى المهارات في اقتصاد قومى لا يمكنه التخفيف من اتجاهات الرأسمالية نحو الأزمة وهو أمر لم يلاحظه ماركس فحسب في منتصف القرن التاسع عشر، بل أيضا كينز في سنوات ما بين الحربين، لأن مسألة المهارات باستخدام لغة الاقتصاديين تهم “جانب العرض” في الاقتصاد وليس “جانب الطلب” ولذلك ليس لها تأثير بالنسبة “لأزمة الإنتاج الزائدة” والبطالة التي اعتادت الكينزية على الادعاء بأنها قادرة على التعامل معها. بالتخلى عن هذا الادعاء يعترف إصلاحيو اليوم أنهم لا يملكون حلولاً للمشكلات الأساسية التي تواجه جماهير الناس اليوم مثل البطالة المتزايدة، وعدم استقرار العمل على مستوى العالم، وتزايد أعباء العمل والضغوط من أجل تخفيض مستويات المعيشة.

كما يعترف هوتون كيف أن الخيارات محدودة بالنسبة للدولة القومية “.. إن الأجانب يملكون ربع الأسهم البريطانية والسندات والودائع البنكية. إن معارضة أسواق رأس المال قوية بشكل خاص والحكومة البريطانية ستكون سجينة مطالبها من أجل الحذر المالى والنقدى.”

وبرغم ذلك، لم يصل في استنتاجه إلى فهم أنه في ظل هذه الظروف تكون الإصلاحية الكينزية أوهام فاشلة، ولكن بدلاً من ذلك يدعى أن الكينزية على مستوى أوروبا يمكن أن تنجح بينما الكينزية القومية لا يمكنها ذلك.

إن بريطانيا لها مصلحة خاصة في بناء نظام عالمى أكثر استقراراً. والبلاد المنفردة لا تستطيع العمل بمفردها وهنا يصبح الاتحاد الأوروبى وإمكانياته لتنظيم الفعل المنظم حاسما. إن بلاد الاتحاد الأوروبى مجتمعة لديها القدرة على تنظيم أسواق المال والتحكم في تدفق رأس المال، وأن تلعب دوراً في إجبار الولايات المتحدة واليابان على إدارة علاقاتهم أفضل كجزء من اتفاقية عالمية. ولديهم إمكانية إدارة الطلب أى دفعه وتخفيضه عند الضرورة دون أن تخرج سياساتهم عن مسارها بسبب أسواق رأس المال…إذا أرادت أوروبا الدفاع عن فكرتها عن دولة الرفاه سيتوجب عليها أن تفعل ذلك بطريقة موحدة.

مع ذلك يبرهن أى امتحان دقيق لما أطلق عليه الإصلاحية “الأوروبية الكينزية” أنها مليئة بالثغرات مثل إصلاحية “رأس المال البشرى” فهى تفترض أن قوى الرأسمالية الأوروبية المختلفة يمكنها أن تسقط خلافاتها ببساطة وتتعاون اقتصاديا، في حين أنها فشلت طويلاً في التعاون للإبقاء على تعادل عملاتها داخل الاتحاد النقدى الأوروبى، أو حتى تنسيق سياساتها الخارجية للتعامل مع الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة الواقعة مباشرة عبر حدود الاتحاد.

ولكن في الواقع، كل بلد من بلاد الاتحاد ترتبط الشركات الوطنية الكبرى بعلاقات وثيقة مع الدولة القومية وتمارس ضغوطا عليها لحماية مصالحها ضد الشركات الأخرى والبلاد الأخرى.

وأكثر من ذلك، إن تدويل النظام يعنى أنه حتى حكومات الاقتصاديات الكبرى في العالم ـ حكومات الولايات المتحدة واليابانـمحدودة القدرة فيما يمكن أن تفعله بسبب ضغوط المنافسة العالمية. إن أوروبا رأسمالية موحدة ستجد نفسها خاضعة لنفس الضغوط، وسيكون رد الشركات الكبرى هو توجيه ضغوطها على الحكومات لمهاجمة أحوال العمال.

هكذا ادعى ملحق لجريدة الفايننشال تايمز “هل يمكن لأوروبا أن تنافس؟” نشر في أوائل 1994 أن البدائل هى إما “قدرة تنافسية أعلى وتحرير سوق العمل والإصلاح الراديكالى للقطاع العام أو أن يصبح الاتحاد الأوروبى مياه راكدة للاقتصاد العالمى.

أخيرا، والأهم، يتجاهل الكينزيون الأوروبيون أن واقع الرخاء الطويل بعد الحرب لم يكن نتيجة للإجراءات الكينزية. إن كينز لم يتسبب في الرخاء الطويل أكثر من كون الاستيقاظ في الصباح هو الذي يتسبب في شروق الشمس. بل كان يرمز لشىء كان يحدث على آى حال، عندما تحولت الحكومات إلى مستوى هائل من الإنفاق العسكرى ومعه إلى التدخل الواسع في الاقتصاد. وحقا، كانت وصفاته الخاصة للحفاظ على استمرار الرخاء نادراً ما استخدمت أثناء “العصر الذهبى”. ومن الغريب بما يكفي أن هوتون ـ أحد أكثر المتحمسين من كينزيى آخر الزمانـاعترف بذلك في أحد أعمدته لجريدة الجارديان موضحا “إن البرهان الذي قدمه روبين ماتيوس منذ فترة طويلة تعود إلى 1968 بان كمية الضخ الكينزى لإدارة الطلب في الخمسينات والستينات كان منخفضاً نسبياً ولم يكن ممكنا أن يكون مسئولا عن الفترة الطويلة من التوسع الاقتصادى، وقد تمت محاولات لاستخدام الوسائل الكينزية في كل البلاد المتقدمة عندما وصلت هذه الفترة إلى نهايتها في منتصف السبعينات وتم التخلى عنها في كل مكان لأنها لم تنجح.

وهنا نجد إن أمثال هوتون يسعون إلى الشهرة عندما يدعون أن هذه السياسات يمكن أن تنجح إذا استخدمت على المستوى الأوروبى بعد عشرين عاما.

أنهم يشكون في ذلك، فيرفض السياسيون أمثال بلير وبراون ـ واندادهم في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا واسكندنافياـأن يعدوا بتحسينات في الرعاية الاجتماعية أو مستويات البطالة أو ظروف العمل ولكن ذلك يؤدى بهم إلى سياسات اقتصادية لا يمكن تمييزها عن معارضيهم المحافظين.

ومن هنا أضطر هوتون مرة لأن يعترف بذلك عندما انتقد قائد حزب العمال في الجارديان لإلقائه كلمة “كان ممكنا أن يلقيها إيدى جورج محافظ بنك إنجلترا أو ميشيل كامديسو رئيس صندوق النقد الدولى…إن هذا الموقف امتداد لثورة اليمين الجديد في السبعينات الذي يضم منظروه ميلتون فريدمان وفريدريك هايك”.

4) الاشتراكية أو البربرية 

في أوائل القرن الواحد والعشرين نجد أنفسنا نعيش في ظروف شبيهة بتلك السائدة في الجزء الأول من هذا القرن. نجد الخطر الذي يواجه العالم إذا لم نتمكن من التعامل مع الأزمة الحالية، هو الدخول من جديد في أوضاع مماثلة لأوضاع النصف الأول من القرن العشرين. تلك “الأوضاع” شملت حربين عالميتين، وصعود النازية، وانهيار الديمقراطية عبر معظم أوروبا، وانتصار الستالينية، ومعسكرات الموت والكولاك. إذا كان لها أن تتكرر في مدى سنوات قليلة، فلا شك أنها ستكون على مستوى أكثر فظاعة بكثير. وسوف نواجه أنظمة فاشية تمتلك أسلحة نووية، مع خراب ودمار بدرجة حتى هتلر لم يكن ليتخيلها. وسوف نواجه فعلا مستقبل البربرية، إن لم يكن الدمار النهائى للبشرية كلها.

لا يجب أن تعامل التحذيرات من هذا المستقبل بميوعة. فبالفعل بدأت أزمة التسعينات في إطلاق نفس القوى البربرية التي رأيناها في الثلاثينات. وفي بلد تلو الأخرى يصنع المغامرون السياسيون الذين يؤيدون النظام الحالى مستقبلهم الوظيفي بمحاولة التضحية بالأقليات الدينية والعرقية. وفي روسيا حصل جيرنوفسكى العنصرى المعجب بهتلر ونصير الحرب النووية على 24% من الأصوات في انتخابات نوفمبر 1993. وفي بومباى، معجب أخر بهتلر، بال ذاكارى، ويدير المقاطعة، يهدد بإشعال الحرب ضد الأقلية المسلمة. وفي تركيا تشن الدولة والجيش حربا ضد الأكراد وهم خمس سكان تركيا بينما يحاول الفاشيون تحريض المسلمين السنة لقتل العلويين. وفي رواندا أطلق الديكتاتور السابق مذبحة بشعة للتوتسى قام بها الهوتو، بينما يوجد تهديد بمذبحة للهوتو من التوتسى في بوروندى المجاورة. 

نجد كل هذه الفظائع لها جذورها في فشل رأسمالية السوق في توفير حتى الحد الأدنى من حياة لائقة لغالبية الجماهير. وبدلاً من ذلك تدع خمساً من سكان العالم يعانون من سوء التغذية ومعظم بقية السكان في تشكك ما إذا كانوا سيستطيعون التمتع غداً بالقدر الضئيل المتاح لهم اليوم.

وهنا يخبرنا كل من المدافعين عن سلطة الطبقة الحاكمة وإصلاحيي اليوم الجبناء بأنه لا يوجد بديل عن هذا النظام، ولكن لو أن هذا صحيح إذن لا يوجد أمل للإنسانية وتصبح السياسة مجرد نقل للكراسي على التيتانك في وقت الغرق للاطمئنان إلى أنه لا أحد سيزعج الأغنياء والمتميزين عندما يجلسون للطعام على مائدة القبطان.

ولكن يوجد بديل. إن النظام المجنون لاغتراب العمل بكامله هو نتاج لما نفعله نحن. إن البشر لديهم القدرة للسيطرة على وسائل إنتاج الثروة وإخضاعها لقراراتنا ولقيمنا، فلسنا مضطرين لأن نتركها للتقلبات العمياء للسوق، للسباق المجنون لملاك متصارعين للثروة في سباقهم للتفوق على بعضهم البعض. إن التقنيات الجديدة المتوفرة اليوم لديها الإمكانيات ـ بدلاً من أن تجعل حياتنا أسوأـأن تسهل هذه السيطرة، فعمليات العمل الأتوماتيكية يمكنها أن توفر لنا وقت فراغ أطول مع وقت للإبداع وفرصة أكبر لتحديد إلى أين يتجه العالم. ويمكن أن يمدنا استخدام الكومبيوتر بمعلومات فائقة حول الثروات المتاحة لتلبية احتياجاتنا وعن كيفية تخصيصها بكفاءة. 

ولكن هذا البديل لا يمكن أن يتحقق من خلال العمل داخل النظام، من قبول المنطق اللاعقلانى للسوق عن التراكم التنافسى، من خلال العمل لإجبار الآخرين على العمل أشد أو يفقدوا وظائفهم. إن هذا البديل يمكن أن يتحقق فقط من الصراع ضد النظام وضد الأثر المدمر لمنطقه على حياة جماهير الناس.

وبذلك يدعى الإصلاحيون أن هذا الصراع لا يمكن أن ينجح بسبب “عولمة” النظام. إن العولمة هى طريقة أخرى للقول أن النظام يسيطر عليه باطراد عدد قليل نسبياً من المؤسسات التمويلية والصناعة العملاقة، كل منها تنتشر من قاعدتها الوطنية للسيطرة على حياة ملايين الناس في عدد من البلدان، وتزداد قوة أولئك الذين يديرون هذه المؤسسات عما سبق عندما يتعلق الأمر بدفع الحكومات التي تحاول تنظيم أنشطتها في المسار الذي يلائمها أو دفعها خارج الحكم.

ولكن هذا لا يعنى أن أولئك الذين يريدون مجتمعاً إنسانيا يحتاجون إلى مقاومة هذه المؤسسات والنظام الذي تكونه أقل من الماضى. على العكس تماما أنه يعنى أننا يجب أن نحارب أشد بطريقة أكثر إصراراً، إنه يعنى أنهم سينتقمون منا بعنف لو حاربناهم بهوادة بدلاً من اعتبار الصراع هو صراع حتى النهاية. لقد أشار الإصلاحى البريطانى “تونى بن” ذات مرة في لحظة من أكثر أوقاته راديكالية “بإمكانك أن تقشر البصلة طبقة طبقة، ولا يمكنك أن تسلخ نمراً مخلباً مخلب”. وبحديثهم الآن عن “العولمة” يعترف الإصلاحيون أن النظام نمر، وليس ثمرة مسالمة تنتظر فقط الإزاحة البرلمانية كما اقترح كروسلاند وأتباعه منذ أربعين عاماً. ولكن مع أنهم يرونه نمراً فإن استنتاج إصلاحيي اليوم هو أن يترك الوحش يجول بحريته. وليس هذا الاستنتاج مقبولاً لأى شخص لا يريد أن يؤكل حياً.

إن العولمة لا تنفي النضال الجاد ضد النظام، لأنها تقطع كلا الطريقين. إن الشركات العمالقة قوية فقط طالما أن ملايين العمال الذين تستخدمهم في العالم يتحملون أنشطتها، ويمكن أن تصاب بالشلل مع بداية مقاومة جديدة. واندفاع عملياتها العالمية نفسه يمكن أن يزيد عرضتها لضربات العمال في أى واحدة من مواقعها الوطنية. وأكثر من ذلك أن إدراك العمال للطبيعة عابرة القومية لأصحاب العمل يمكن أن يجعلهم في عدد من البلدان أن يروا بشكل ملموس أكثر مما سبق المصالح المشتركة التي تربطهم لأنهم يخضعون لنفس الضوابط ويواجهون نفس المديرين بل ويجبرون على ارتداء نفس شعار الشركة ويغنون نفس أغنية الشركة.

وأخيراً وليس أخراً، إن عالمية وسائل الاتصال تعنى أن العمال في جزء ما من العالم أكثر إدراكا بكثير عما سبق بما يفعله العمال في مكان آخر. ويمكن أن تلهم أى انتفاضة ثورية شعوب القارات البعيدة فجأة. حدث ذلك في 1968 مع كفاح التحرر الوطنى في فيتنام و”أحداث مايو” في فرنسا. وحدث ذلك في 1980 مع الصعود المفاجئ لنقابة تضامن في بولندا، وحدث ذلك خلال منتصف الثمانينات مع الانتعاش الفجائى للصراع ضد العنصرية في جنوب أفريقيا. وتكرر مرة أخرى في 1994 مع تمرد التشياباز في المكسيك وسوف يحدث في المرة القادمة عندما يحدث أى تمرد عمالى كبير في أى مكان.

إن الطبيعة العالمية للنظام الرأسمالى تمنع أى حكومة وطنية مهما كانت راديكالية ومهما كان تأييدها بين جماهير الناس من الانفصال تماماً عن الضغوط التي تنتج عن النظام. وبرغم ذلك ليست هذه ظاهرة جديدة فقد أكد ماركس وإنجلز على الطبيعة العالمية للصراع ضد الرأسمالية منذ قرن ونصف. وأكد البيان الشيوعى أن “ليس للعمال وطن” وانتهى بـ “يا عمال العالم اتحدوا”. ومنذ ثمانين عاماً في عصر الحرب العالمية الأولى أسس قادة الثورة العمالية في روسيا “أممية شيوعية” كتمهيد “لدول العالم الشيوعية المتحدة”، بالضبط لأنهم أدركوا أنه لا يمكن لبلد واحد ـخاصة بلد متخلف مثل روسيا في ذلك الوقتـأن تقيم مجتمع الوفرة بعزل نفسها عن موارد الثروة والتقدم التكنولوجى الموجود خارج حدودها. ومنذ سبعين عاماً كرر ليون تروتسكي هذه الرؤية ضد ستالين ـمصراً على أن الحديث عن “الاشتراكية في بلد واحد” كان “يوتوبيا رجعية” لأن محاولة إعادة بناء مجتمع على إطلاقها دون توافر الثروة الموجودة داخل العالم الرأسمالى ككل ستسقط حتما.

ولكن هذه الأفكار لا تعني أبداً انتظار الثورة في كل مكان في العالم في نفس الوقت. فكل عملية تبدأ في مكان ما لا تكون عملية مواجهة الاغتراب والبؤس وبربرية الرأسمالية استثناء. ويمكن أن تبدأ في مكان توجد فيه الرأسمالية ـ واليوم هذا بالفعل ما يحدث في العالمـولكنها لا يمكن أن تحقق نجاحاً نهائياً ببساطة في مكان واحد.

إن بقاء التمرد نفسه الذي يتحدى النظام ـ خاصة في بلد مثل بريطانيا التي تعتمد على واردات الطعام والمواد الخام وسلع أخرى عديدة على الأقل لمدة قرنينـيعتمد على كسب تأييد أولئك الذين تلهمهم الثورة خارج حدودها. ويعتمد نجاح إعادة تشكيل المجتمع على المدى الطويل على انتشار الثورة. فلا يمكن لبلد واحدة تطيح بالرأسمالية أن تستمر بمفردها. ولكنها يمكن أن تكون معبراً يشجع الثورات الناجحة في أجزاء أوسع كثيراً من النظام العالمى.

يدعى معارضو الاشتراكية أنه حتى مع الانتشار للاشتراكية في مناطق واسعة من العالم، فإن محاولات الهرب من قوانين السوق محكوم عليها بالفشل، ويزعمون أن محاولة تنظيم كل مجالات الإنتاج حتى تلبى مليون حاجة إنسانية هى مؤسسة وراء قدرات أى شخص، ويتنبأون أن كل ما يمكن أن يحدث هو ظهور صفوة جديدة والتي ستملى على الآخرين أين سيعملون وماذا سيستهلكون.

على أى حال، عندما تحدث ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكى على الانتقال إلى الاشتراكية لم يفعلوا ذلك باعتبار أن الدولة تسيطر على كامل عملية صناعة القرار الاقتصادى في يوم وليلة. بل كل ما أكدوا عليه أن أولئك الذين يصنعون الثروة ـ من خلال منظماتهم الديمقراطيةـعليهم أن يتولوا مسئولية القرارات الهامة، أى القرارات التي ترسم الحدود التي يعمل داخلها بقية الاقتصاد. في اليوم التالى للثورة ـ كما في اليوم السابق عليهاـستذهب الغالبية العظمى من الناس للعمل في المصانع والمكاتب، وسوف يتقاضون نقوداً في مقابل عملهم، وسيستمرون في إنفاق نقودهم كما يرغبون لتلبية حاجاتهم الاستهلاكية. إن ما سيتغير برغم ذلك هو أن مندوبى “المنتجين المتحدين” ـ مندوبى المصانع والمكاتب والمناطق السكنية وأصحاب المعاشات وغيرهمـسوف يقررون الأولويات الاقتصادية الهامة وعلى وجه الخصوص لن يتم تحديد المجالات الهامة للاستثمار الاجتماعى بعد ذلك على أساس المنافسة العمياء بين شركات متصارعة ولكن من خلال صناعة القرار التعاونى.

لقد أدركوا أن كل تغير عظيم في التاريخ من طريقة معينة لإنتاج الحاجات الإنسانية إلى أخرى دائما ما تضمن كل من التغير التدريجى (التطور) والتغير المفاجئ (الثورة).

هكذا شمل الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية التطور الاقتصادى البطىء على مدى قرون عديدة، حيث حل الإنتاج الرأسمالى من أجل السوق محل الإنتاج الإقطاعى في القرى الفلاحية المنعزلة بدرجة أو بأخرى، ولكن أيضا تغيرات سياسية ثورية مفاجئة حيث طردت الطبقة الرأسمالية الصاعدة الطبقة القديمة الإقطاعية الحاكمة من المواقع الهامة في السلطة. والنقطة هى أنه بدون التغير الثورى فإن التغير التدريجى كان سيصل إلى توقف مفاجئ وكان المجتمع سيبدأ في التحرك للوراء بدلاً من الأمام ـ كما حدث في الواقع عندما لم يكن التطور الاقتصادى مصحوبا بالثورة السياسية بداية عبر أوروبا في القرن الرابع عشر وبعدها في أوروبا الوسطى في القرن السابع عشر.

وبنفس الطريقة، لا يمكن أن تحدث الإطاحة بالرأسمالية بواسطة آلية اقتصادية جديدة تقوم على التعاون الإنسانى مرة واحدة في يوم وليلة. وفي الحقيقة سوف يستغرق الناس عقوداً عديدة ليتعلموا التنظيم الواعى للكثير من جملة عمليات الإنتاج التي تدور في المجتمع الحديث، وفي هذه الأثناء سيكون أمامهم اختيار ضئيل عدا الاستمرار في تحمل آليات السوق القديمة. ولكن بالاستيلاء على السيطرة السياسية وبالسيطرة على الصناعات الرئيسية يمكنهم أن يبدأوا صناعة القرارات الهامة، الأمر الذي سيكون له عند ذاك أثر بالغ على أي شئ آخر. فيمكنهم مثلاً منع الشركات المتصارعة من تبديد ثروات هائلة على إقامة مواقع صناعية للمنافسة مع بعضهم البعض وبعدها يخبرون عمالهم بأن عليهم أن يقبلوا أجوراً أقل وعملاً أشد حتى يعوضوا قيمتها. ويمكنهم منع التبديد الهائل على الدعاية أو على إرسال عينات منتجات في اتجاهات مختلفة من العالم. ويمكنهم تحويل مساكن الأغنياء الفاخرة إلى مواقع للخدمة التي يحتاجها بشدة أولئك الذين يتم إفقارهم اليوم. وعموما يمكنهم أن يبدأوا في إزالة الفوضى بالقرار الإنسانى الواعى.

وعندما يفعلون ذلك، لن تكون معظم القرارات التي عليهم اتخاذها أكثر صعوبة من تلك التي تتخذها حفنة من المديرين الذين يسيطرون على كل صناعة رئيسية اليوم. في بريطانيا مثلاً أربعة أخماس صناعة وتوزيع الأغذية في أيدى خمس شركات. وكل من هذه الشركات عليها أن تنسق بطريقة مخططة إنتاج وتوزيع آلاف السلع وتحاول ملائمتها مع أذواق خمسين مليون مختلفين من الأطفال والنساء والرجال. وهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك، ليس لأن هؤلاء المديرين عباقرة ـ في الواقع كثير منهم يكونون من الحمقى الأغبياءـلكن ثرواتهم تمكنهم من استخدام أعداد كبيرة من ذوى المهارات يستخدمون أحدث تكنولوجيا. ولكن جزءاً هائلاً من هذا العمل الماهر يتم تبديده فالأشخاص ذوى المهارات يخضعون للمنافسة بين شركات متصارعة ولذا يعجزون عن التعاون مع بعضهم البعض، مع من يعملون في إنتاج الأغذية وأولئك الذين يستهلكون الغذاء. فبدلاً من ذلك، فإن كمية هائلة من الجهد تخصص للمساعدة في استغلال عمال الشركات من ناحية وتشكيل أذواق المستهلكين بطرق غير صحيحة من ناحية أخرى. إن ملكية وسيطرة دولة عمالية ديمقراطية ـ التي تعتمد على تعميم المبادرة من أسفل وبروح تعاونيةـعلى هذه الشركات سوف يجعل بالفعل تنسيق الإنتاج أبسط (حيث لن يكون هناك التكرار المستمر للجهود في الشركات المتنافسة) وأكثر استجابة للاحتياجات الحقيقية للمستهلكين.

إن هذا لا يعني أن هذا التنظيم الاشتراكى للمجالات الرئيسية للإنتاج سيكون دون عيوب. ولاشك ستحدث أخطاء في المبالغة في تقدير ما يريده الناس في مجال ما أو تقديرها بأقل من الضرورى في مجال آخر. ولاشك ستوجد خلافات لانهائية حول كيفية التقدم بالضبط، ولاشك سيكون هناك عدم الرضا وكذلك الرضا. ولكن هذه الأمور ستحدث كحوادث عابرة ليس كشىء هيكلى في ميكانيزم النظام. في الحاضر لا يمكن لأى عدد من المناقشات على الأرض أن تصحح الاتجاه نحو الإنتاج الزائد من ناحية ونقص الضروريات من الناحية الأخرى. والسبب أن النظام لا يعتمد على القرارات العقلانية التي تنتج عن نقاشات منطقية بين جماهير الناس ولكن على جهود مجموعات صغيرة من الأغنياء لإخضاع كل شئ لمنافستهم ضد بعضهم لجنى ثروات أكثر.

إن هذه المنافسة العمياء هى التي تؤدى إلى الأزمات والرخاء، وتزايد البطالة إلى جانب زيادة أعباء العمل والإنتاج الزائد في البضائع وتخفيض مستلزمات الرعاية الاجتماعية والحروب “المحلية”المتزايدة في فظاعتها والانفجارات العنيفة للكراهية الدينية والعرقية.

لقد أوضح ماركس أنه عندما تصطدم أشكال الحكم الطبقى مع التغيرات التي تحدث في طريقة الإنتاج فإن ذلك يمكن أن يؤدى إلى نتيجتين: انتصار طبقة جديدة نتيجة لصراعات عنيفة أو اندفاع المجتمع إلى الوراء من خلال التدمير المتبادل للطبقات المتصارعة، وقد وضعت الثورية الألمانية البولندية روزا لوكسمبورج المسألة بوضوح أكثر فقالت إن الاختيار في ظل الرأسمالية يكون “الاشتراكية أو البربرية”.

وإذا نظرنا إلى الطريقة التي يتطور بها المجتمع اليوم في أجزاء كثيرة من العالم يمكننا أن نرى بوضوح شديد وجه البربرية. ولكن يمكننا أيضا أن نرى نضالات ضد النظام تنتج باستمرار آراء للتقدم الحقيقى القائم على التضامن وعلى التعاون وعلى رعاية الناس لبعضهم البعض عندما يقومون بوعى وبشكل جماعى بصياغة مستقبلهم. إن أولئك الذين يدعون إلى الإصلاحات المائعة للنظام القائم يدعون إلى الخضوع للبربرية. أما أولئك الذين يتطلعون إلى الثورة يرون في هذه الصراعات إمكانية التقدم للأمام لا للخلف، فلازال هناك أمامنا كما كتب ماركس وإنجلز في نهاية البيان الشيوعى “عالم لنكسبه”.

تسعدني تعليقاتكم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.