Posts Tagged ‘أنثربولوجيا’

سلسلة عالم المعرفة كاملة ببيانات كل كتاب من العدد الأول وحتى العدد الأخير PDF

الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت

أصل الأنواع PDF

تشارلز داروين

ترجمة: مجدي محمود المليجي

تقديم: سمير حنا صادق

الناشر: المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة)

المجتمع البدائي وانحلاله PDF

روزا لوكسمبورغ

ترجمة: إبراهيم العريس

دار بن خلدون

الفصل الأول

المجتمع الشيوعي البدائي

 (1)

تعود معرفتنا بالأشكال الاقتصادية الأكثر قدما وبدائية، إلى فترة ما تزال يسيرة من الزمن. فحتى عام 1847 كان ماركس وانجلز يكتبان في «البيان الشيوعي»، أول نص كلاسيكي من نصوص الاشتراكية العلمية، بأن «تاريخ كل مجتمع حتى أيامنا هذه هو تاريخ الصراع الطبقي»، ولكن في نفس الوقت الذي كان فيه خالقا الاشتراكية العلمية يعلنان فيه هذا المبدأ، بدأت الاكتشافات الجديدة تكذبه آتية من كل جانب. إذ أن كل عام كان يحمل، أفكارا، حول الوضع الاقتصادي في أقدم المجتمعات البشرية، كانت ما تزال مجهولة حتى وقت قريب، وهذا ما كان يدفع إلى الاستنتاج بأنه كانت ثمة، في الماضي وبدون أدنى ريب، فترات طويلة من الزمن لم تكن قد عرفت الصراع الطبقي، وذلك لسبب بسيط هو انه لم تكن ثمة بعد أية تمايزات بين الطبقات الاجتماعية، أو بين غني وفقير… كما لم تكن هناك أية ملكية خاصة. (المزيد…)

كتاب (إنجلس وأصل المجتمع البشري) كريس هارمان PDF

كريس هارمان

ترجمة: هند خليل كلفت

مراجعة: خليل كلفت

هذه ترجمة لكتاب:

Engels and the origins of human society

المنشور في:

International Socialism 2:65, Winter 1994

Copyright © 1994 International Socialism

مقدمة للمؤلف

تتضافر وجهات النظر المؤيِّدة للاشتراكية دائما مع وجهات النظر المتعلقة بأصل البشر والمؤسسات الاجتماعية. وينظر الاشتراكيون إلى استغلال بعض الناس لبعضهم الآخر، ووجود دولة قمعية، وخضوع النساء للرجال فى الأسرة النووية على أنها نتاجات للتاربخ البشرى. أما خصومنا فإنهم ينظرون إليها على أنها نتيجة الطبيعة البشرية. 

وهذا هو السبب فى أنه عندما قام ماركس Marx و إنجلس Engels فى بداية الأمر بصياغة أفكارهما، قاما بذلك عن طريق تطوير فهم جديد تماما للطريقة التى يرتبط بها البشر بالعالم من حولهم. وينطوى هذا على رفض الطريقتين السائدتين للنظر إلى هذه العلاقة: المثالية idealism التى تنظر إلى البشر على أنهم نصف آلهة، خاضعين لإرادة الإله ومنفصلين تماما عن عالم الحيوان؛ والمادية الفجة crude materialism التى تعتقد أن البشر ليسوا أكثر من آلات أو حيوانات، فإما أنهم يقومون ببساطة بردود أفعال على منبهات من العالم الخارجى (وهذا ما يسمى فى الوقت الحاضر بوجه عام ﺒ “السلوكية” behaviourism)، أو أنهم مبرمجون بيولوچيًّا على ممارسة حياتهم بطرق بعينها (وهذا ما يسمى فى الوقت الحاضر ﺒالسوسيوبيولوچيا” [علم البيولوچيا الاجتماعية] sociobiology)(1). 

وقد قدم ماركس و إنجلس نظرتهما الخاصة فى بداية الأمر فى الأيديولوچية الألمانية The German Ideology وموضوعات عن فويرباخ Theses on Feuerbach فى 45-1846. ونظرا إلى البشر على أنهم نتاجات العالم البيولوچى الطبيعى، وإلى التاريخ على أنه جزء من التاريخ الطبيعى. غير أنهما نظرا أيضا إلى الطابع النوعى للبشر على أنه يكمن فى قدرتهم على ممارسة ردود أفعالهم على الظروف التى كانت قد خلقتهم، مُغَيِّرين كلا من تلك الظروف وأنفسهم فى سياق هذه العملية. وكانت معرفة كل من التاريخ الطبيعى والتاريخ البشرى ما تزال محدودة للغاية عندما قام ماركس و إنجلس بصياغة أفكارهما لأول مرة: لم يتم الاكتشاف الأول للبقايا البشرية المبكرة (للإنسان النياندرتالى Neanderthals) حتى 1856؛ ولم يُنشر أصل الأنواع Origin of Species ﻟ دارون Darwin حتى 1859 ولم يُنشر كتابه نشأة الإنسان Decent of Man حتى 1871؛ ولم ينشر الأمريكى لويس هنرى مورجان Lewis Henry Morgan وصفه الريادى لتطور العائلة والدولة، المجتمع القديم Ancient Society حتى 1877. 

اعتمد إنجلس على هذه المنجزات العلمية للتوسع فى الرؤى المبكرة له هو و ماركس. وقام بهذا فى عمليْن مهميْن، الدور الذى لعبه العمل فى الانتقال من القِرَدة العليا إلى الإنسان( The Part Played by Labour in the Transition from Ape to Man كُتِب فى 1876)(2)، و أصل العائلة، والملكية الخاصة، والدولة The Origin of the Family, Private Property and the State (نُشِر فى 1884)(3). وهما يحتويان على التفسير الأكثر كثافة من جانب مؤسِّسَىْ المادية التاريخية عن الطريقة التى انتهى بها البشر إلى الحياة كما يعيشونها فى العصر الحديث – عن مسألة من أين جاءت “الطبيعة البشرية” والمؤسسات البشرية. ولهذا السبب تركز الهجوم حول صحة الماركسية ومكانة إنجلس فى كثير من الأحيان على هذين العمليْن – وبصفة خاصة على أصل العائلة. وبطبيعة الحال فقد تجاوز التقدم العلمى على مدى القرن السابق بعض المعلومات التى اعتمد عليها إنجلس: كان يكتب قبل اكتشاف نظرية مندل Mendelian theory عن الچينات (4)، وقبل العثور على البقايا المبكرة للهومينيد hominid فى أفريقيا، وفى وقت كانت فيه دراسة مجتمعات ما قبل اللغات المكتوبة فى طفولتها. ومع ذلك فإن كتاباته ما تزال تحتفظ بأهمية هائلة. وهو يطبق منهجا يُعَدّ ماديا دون أن يكون ميكانيكيا – ويواصل تحدِّيه لكل من المثالية والتوأم المفزع المتمثل فى السلوكية والسوسيوبيولوچيا.

وهذا هو السبب فى أنه يجدر بنا أنْ نتفحص وجهات نظر إنجلس فى هذين العمليْن وأنْ ندافع عما هو صحيح فيهما وأن نغربلهما فى الوقت نفسه لنستبعد ما تم تجاوزه. وهذا ما أحاول القيام به، متفحصا أولا تفسيره للتطور البشرى فى الدور الذى لعبه العمل، ثم تفسيره لنشأة الطبقات والدولة فى أصل العائلة، ثم، أخيرا تفسير هذا العمل نفسه لاضطهاد النساء. وفى كل حالة سأحاول معالجة الثغرات والتفاوتات فى وجهات نظر إنجلس عن طريق مناقشة بعض أهم المعلومات وأكثرها حداثة حول هذه المسائل.

——————————————–

القسم الأول

الجدل حول أصل الإنسان

قدّم إنجلس الخطوط العريضة لتفسيره لأصل الإنسان فى فقرات قليلة تستحق أن ننقلها هنا بقليل فقط من الحذف:

منذ مئات عديدة من آلاف السنين، فى زمن غير قابل للتحديد بعد بشكل نهائى… عاشت سلالة من القِرَدة العليا الشبيهة بالإنسان anthropoid فى المنطقة المدارية … وقد عاشت فى جماعات فوق الأشجار … 

وبدأت هذه القِرَدة العليا فى التخلى عن عادة استعمال أيديها فى المشى واتخذت وضعا منتصبا أكثر فأكثر. وكانت هذه هى الخطوة الأولى الحاسمة فى الانتقال من القرد الأعلى إلى الإنسان. 

ولا بد أن تكون قد تطورت وظائف متنوعة أخرى على الأيدى. وربما كانت العمليات الأولى التى من أجلها تعلَّم أسلافنا تدريجيا تكييف أيديهم … عمليات بسيطة جدا فقط … غير أن الخطوة الحاسمة قد تم قطعها، ذلك أن اليد كانت قد صارت حرة وكانت تستطيع منذ ذلك الحين فصاعدا بلوغ مهارة أكبر من أىّ وقت مضى …

وكان لاستعمال اليد فى العمل تأثيرات أخرى: 

كان أسلافنا القرود تتميز بالنزوع الاجتماعى … وساعد تطور العمل بالضرورة على تجميع أعضاء المجتمع معا عن طريق حالات متزايدة من الدعم المتبادل والنشاط المشترك، وعن طريق توضيح مزايا هذا النشاط المشترك بالنسبة لكل فرد.

ووصل البشر-فى-طور-التكوين men-in-the making إلى المرحلة التى كان لديهم فيها شيء يقولونه لبعضهم البعض. وخلقت الضرورة العضو organ؛ وتحولت الحنجرة غير المتطورة للقرد الأعلى ببطء ولكنْ بصورة أكيدة من خلال تنغيم الصوت لتنتج بصورة مطردة تنغيما أكثر تطورا، وتعلمت أعضاء الفم تدريجيا أن تنطق صوتا واضحا بعد آخر.

وبالتوازى مع هذا حدث تطور ضرورى للدماغ [المخ]: “أعطى تأثير العمل والكلام على تطور الدماغ والحواس المرتبطة به، والوضوح المتزايد للوعى، وقوة التجريد والاستنتاج، كلا من العمل والكلام دافعا دائم التجدد إلى مزيد من التطور”. وبصورة عامة: 

لا شك فى أن مئات آلاف السنين مرت قبل أن ينشأ المجتمع البشرى خارجا من قطيع القِرَدة التى تتسلق الأشجار. غير أنه ظهر فى نهاية المطاف. فما الذى نجده مرة أخرى باعتباره الاختلاف المميِّز بين جماعة القِرَدة والمجتمع البشرى؟ العمل.

ينظر موقف إنجلس، إذن، إلى تطور الإنسان على أنه يمضى عبر عدد من المراحل المترابطة: السَّيْر على قدمين، صنع الأدوات واستخدامها، تطور اليد، التواصل الاجتماعى، تطور الدماغ والكلام، المزيد من السيطرة على الطبيعة، المزيد من التواصل الاجتماعى، المزيد من تطور الدماغ والكلام. واعتمد تفسير إنجلس على العمل السابق ﻠ دارون، وقد ذكر دارون بالفعل كل عنصر من هذه العناصر. غير أن إنجلس يغيِّر ترتيب المراحل بطريقة ذات مغزى.

افترض دارون أن نمو حجم الدماغ والذكاء حدث قبل الانتقال إلى السَّيْر على القدمين واستعمال الأيدى لصنع الأدوات. وأكد إنجلس أن تسلسل الأحداث كان على العكس من ذلك. إن تحرير اليدين كان هو الذى جعل العمل التعاونى ممكنا على نطاق لا يمكن تصوره بين القِرَدة العليا، ومن هذا نشأ تطور الدماغ. وكما يخبرنا الأركيولوچى بروس تريجار Bruce Trigger: 

كان دارون … مقيَّدا بعدم الرغبة فى تحدى الأسبقية التى منحها التفكير المثالى الدينى والفلسفى لزمنه للفكر العقلانى باعتباره قوة محركة لإحداث التغير الثقافى. ولهذا فإنه عند مناقشة تطور الإنسان … كان تطور الدماغ هو الذى أدى بالتالى إلى استخدام الأدوات(5). 

وعلى النقيض:

أكد إنجلس أن نمط الحياة المتزايد الدنيوية قد شجع… على زيادة استخدام الأدوات. وأدى هذا إلى الانتخاب الطبيعى لصالح السير المنتصب على القدمين bipedalism والمهارة اليدوية بالإضافة إلى… تقسيم أكثر تعقيدا للعمل: أدى صُنْع الأدوات وتطور القدرة اللغوية على التنسيق بصورة أفضل للنشاطات الإنتاجية إلى التحويل التدريجى لدماغ قرد أعلى إلى دماغ إنسان حديث.

وسادت وجهة نظر دارون عن تتابع المراحل الأبحاث المتعلقة بأصل الإنسان على مدى الجانب الأكبر من قرن، مؤدية إلى اعتقاد أن أىّ “حلقة مفقودة” بين القِرَدة العليا والبشر كان لها دماغ كبير ولكنْ مع قامة قرد أعلى مُلْقية كامل الدراسات الخاصة بتطورنا جانبا. وقد شجعت على مدى حوالى خمسين عاما على قبول إحدى الخِدَع العلمية الكبرى لكل العصور – فضيحة پيلتداون Piltdown affair، حيث تم تقديم جمجمة إنسان وفك قرد أعلى على أنها بقايا لأحد أقدم أسلافنا. وقد أدى هذا على مدى ثلاثين عاما إلى رفض الأخذ بجدية لاكتشاف حقيقى، وهو اكتشاف ريموند دارت Raymond Dart فى جنوب أفريقيا لبقايا كائن شبيه بالقرد الأعلى كان قد تبنَّى السَّيْر على قدمين. ولم يتم التخلى عن تتابع المراحل عند دارون فى نهاية المطاف حتى اكتشاف دونالد چونسون Donald Johanson فى 1974 لهيكل عظمى كامل عمره ثلاثة ملايين ونصف مليون سنة له دماغ بحجم دماغ قرد أعلى وقامة منتصبة(6). عند ذلك فقط استطاع الأركيولوچيون أن يبدأوا فى تفسير تطور مجموعة من الهياكل العظمية من مجموعة أخرى(7).

تقييم وجهة نظر إنجلس اليوم

ولكن إذا كان إنجلس محقا، بصورة مدهشة، بهذا الصدد فى مواجهة دارون، فإلى أىّ مدى كان باقى تفسيره متماسكا؟ والواقع أن لدينا اليوم معرفة أكثر بكثير مما كانت فى زمن إنجلس. غير أنه ما تزال هناك مشكلات كبرى فى التوفيق بينها.

وتستند معظم المعرفة المادية عن قِرَدتنا العليا وأسلافنا البشر المبكرين إلى نتائج الأبحاث الخاصة بشظايا عظمية متفرقة، وأسنان عرضية، وقطع صغيرة من الصخر ربما كانت أو لم تكن ذات مرة أدوات. وباستخدام مثل هذا الأدلة، يغدو على الدارسين فى أصل الإنسان أن يحاولوا تخمين كيف كان شكل الهياكل العظمية الكاملة، وطبيعة الأعصاب والعضلات التى كانت تكسوها ذات يوم، والقدرات العقلية للمخلوقات التى كانت تنتمى إليها، وكيف كانت تطعم نفسها، والسياق الاجتماعى الذى عاشت فيه. وكما عبر أحد الأركيولوچيين البريطانيين الرئيسيين، كريس سترينجر Chris Stringer فإن: 

مجال تطور الإنسان مليئ بأسلافنا المهجورين والنظريات التى تنسجم معهم … وكان الفشل فى إدراك التعقيدات التى تنطوى عليها محاولة تفسير أحفوريات قليلة مُبعثرة بصورة متباعدة فى المكان والزمان يميز نهج حتى العاملين الأكثر كفاءة، الأمر الذى كان يؤدى إلى تفسيرات ساذجة … و يمكن بالتالى أن تنهار كل الصروح التطورية، تماما مع ما يرتبط بها من أسلاف وأخلاف، مع كل تطور فى النظرية، أو بحث فرضية أساسية، أو اكتشاف جديد(8). 

وعلى هذا فإنه كان من المفترض حتى أواخر السبعينيات، على سبيل المثال، أن هناك أربعة عصور جليدية فى اﻠ 800 ألف سنة الأخيرة. ويُعتقد الآن أنه كانت هناك على الأقل ثمانية عصور جليدية(9). ومرة أخرى فحتى منذ 20 سنة كان من المقبول به بشكل عام أن انفصال أسلافنا عن هذه القِرَدة العليا الضخمة حدث مع قرد أعلى عُرف ﺒ راماپيثيكاس Ramapithecus، منذ 15 مليون سنة. ويُعتقد الآن عادةً أن هذا الانفصال حدث مع تطور “القِرَدة العليا الجنوبية” أوسترالوپيثيكاس Australopithecus، التى عاشت فى شرق وجنوب أفريقيا منذ 3 أو 4 ملايين سنة(10). 

ويجعل تبعثر المعلومات الموثوقة من السهل على الناس أن يقوموا بتخمينات تفصيلية لا أساس لها عما أن يكون قد حدث، دون حقائق تثبتها أو تنفيها – الطبعة الحديثة من قصص تخمينية Just So stories التى كتبها راديارد كيپلينج Rudyard Kipling للأطفال منذ ما يقرب من قرن. ويقدِّم كل أنواع الكُتّاب الذين يكتبون عن تطور الإنسان فرضيات على طريقة، “وهكذا، ربما، نستطيع أن نفسر نزول قِرَدة عليا بعينها من فوق الأشجار لحاجتها إلى أن تقوم ﺒ X [س]”. وبعد أقل من فقرتين، تكون “ربما” قد مضت إلى حال سبيلها، وتصير X [س] أصل البشرية. 

وهذه الطريقة هى السمة المميزة الخاصة بالسوسيو-بيولوچيين(11)، غير أن هناك أيضا بعض المنظِّرين الجيدين جدا الذين يقعون فيها فى بعض الأحيان(12). إنها طريقة يجب أن يرفضها الماركسيون. إننا غير معنيين بحكى القصص من أجل حكى القصص. ولهذا سأحاول التركيز على ما نعرفه على وجه اليقين.

السِّجِلّ المؤكد: أقاربنا

من المقبول به بوجه عام أن أقرب أقربائنا هى قِرَدة الشيمپانزى، وقِرَدة الشيمپانزى القزمة (أو قِرَدة البونوبو bonobos)(13) والغوريلا(14). وتشير الدراسات الخاصة بالمادة الچينية إلى أننا نتشارك فى سلف مشترك منذ حوالى 4 إلى 7 ملايين سنة مضت وإلى أننا حتى فى الوقت الحاضر، وبعد التطور فى اتجاهات مختلفة، لا تزال لدينا نسبة حوالى 97.5 بالمائة من الچينات مشتركة مع قِرَدة الشمپانزى. ومن الناحية الچينية، “يرتبط الإنسان والشيمپانزى أكثر من ارتباط الحصان والحمار، أو القط والأسد، أو الكلب والثعلب”(15). 

ولا تزال هذه حقيقة غير مريحة بالنسبة للمثاليِّين من كل الأنواع، وهى تؤكد وجهة نظر ماركس القائلة بأن التاريخ البشرى جزء من التاريخ الطبيعى. ولكن يستغلها فى كثير من الأحيان ماديون ميكانيكيون محدثون يزعمون أننا ببساطة “قِرَدة عليا عارية” وأنه يمكن إلقاء اللوم فيما يتعلق بكل أخطاء المجتمع على تكويننا الچينى الثديىّ الموروث. وكما عبَّر عن ذلك أحد التفسيرات الشعبية عن أصل الإنسان فإن:

الهيراركية تمثل مؤسسة بين جميع الحيوانات الاجتماعية وما يدفع شخصا إلى السيطرة على زملائه يمثل غريزة عمرها ثلاثة أو أربعة ملايين سنة … والدافع البشرى إلى الحصول على ممتلكات هو التعبير البسيط عن غريزة حيوانية أقدم عدة مئات من السنين من الجنس البشرى ذاته … وجذور القومية محفورة بقوة فى الحقل الاجتماعى الخاص تقريبا بكل أنواع عائلة الرئيسات المعنية الخاصة بنا … ويستجيب الباحثون عن الهيبة الاجتماعية لغرائز حيوانية تمثل كذلك سمات مميزة لقِرَدة البابون baboons، وغربان الزيتون، وسمك القد الصخرى، والبشر(16).

وينتهى حتى نص سوسيو-بيولوچى من المفترض أنه أكثر تطورا، ويدعى أنه يأخذ فى اعتباره تأثيرات التطور الثقافى وكذلك الچينى، إلى أن “التعصب الأعمى” و”العدوان الجماعى” ينبعان من [مرحلة] الحتمية الچينية genetic determination – “استجابة الخوف من الغرباء، والنزوع إلى الارتباط بمجموعات المراحل المبكرة من أنشطة اللعب الاجتماعى، والميل العقلى إلى تقسيم المتصلات continua إلى مجموعات داخلية ومجموعات خارجية”(17). 

ومن مثل وجهات النظر هذه، تستند الماركسية إلى خطأ مفزع – “المغالطة الرومانسية” المتمثلة فى الفشل فى فهم الأساس الچينى لأهوال المجتمع الحديث وإلقاء اللوم عنها بدلا من ذلك على “البيئة الاجتماعية”(18)، حيث يتمثل “الخطأ الرئيسى” للماركسية فى “فهم الطبيعة البشرية على أنها مفككة نسبيا وعلى أنها إلى حد كبير أو بصورة كلية نتاج قوى اجتماعية-اقتصادية خارجية”(19). 

غير أن المغالطة تكمن فى الواقع فى أىّ دعوى متعلقة ﺒ “قرد أعلى عارٍ” بأننا يمكن أن نقرأ من سلوك القرد الأعلى أساسا چينيا ما راسخا فى صميم سلوك البشر. فهى تتجاهل سمة هى الأكثر أهمية للتكوين الچينى للبشر وهى التى تفرّقنا عن كلٍّ من أولاد أعمامنا الأقربين. ذلك أن تلك المخلوقات مبرمجة من الناحية الچينية بخصائص ضيقة تزودها بالسلوك الملائم لنطاق محدود من البيئات، بينما نتصف نحن على وجه التحديد بمرونة هائلة جدا فى سلوكنا تمكِّننا وحدنا فى الواقع فى العالم الحيوانى، من النجاح فى العيش فى أى جزء من الكرة الأرضية. وهذا فارق أساسى بيننا وبين القِرَدة العليا الحالية. وهكذا فإنه لا يمكن أن توجد الغوريلات خارج الغابات المدارية المطيرة، ولا قِرَدة الشيمپانزى خارج مناطق الغابات فى أفريقيا جنوب الصحراء، ولا قِرَدة الچيبون gibbons خارج قمم الأشجار فى جنوب شرق آسيا، ولا الأورانج-أوتانجات Orang-utangs خارج جزر قليلة فى إندونيسيا؛ وعلى العكس من ذلك، استطاع البشر العيش عبر مساحات شاسعة فى أفريقيا وأوروپا وآسيا، على مدى نصف مليون سنة على الأقل. إن “خصوصيتنا” الچينية تتمثل على وجه التحديد فى أننا لسنا مختصِّين ولا مقيَّدين بأىّ نطاق محدود للسلوك الغريزى.

وأكثر من هذا، تستند وجهات النظر المتعلقة ﺒ “القِرَدة العليا العارية” إلى نماذج تبسيطية جدا لسلوك القِرَدة العليا. 

وحتى ستينيات القرن العشرين، كان يتم إجراء تقريبا كل الدراسات المتعلقة بالقِرَدة العليا فى حدائق الحيوان، مثل الوصف الشهير الذى قدمه سولى زوكرمان Solly Zuckerman فى ثلاثينيات القرن العشرين للحياة فى حظيرة الشيمپانزى المسيَّجة فى حديقة حيوان لندن. وكانت تلك الدراسات تضع القِرَدة العليا ضمن نموذج أوسع للسلوك يعتمد على دراسات قِرَدة البابون (رغم أن قِرَدة البابون قِرَدة ولها فوارق چينية جوهرية مختلفة تماما عن كل القِرَدة العليا). وكان يُنظر إليها على أنها نباتية بصورة كاملة تقريبا، مع قدرة قليلة على التعلم وبلا أىّ شيء يمكن، بأىّ اتساع للخيال، أن يُسمَّى ثقافة. وفوق كل شيء، كان يُنظر إليها باعتبارها عدوانية بشكل فطرى، حيث تكون الذكور متورطة فى منافسة جنسية وحشية على الإناث ولا يتحقق الحفظ على النظام إلا من خلال هيراركية “للسيطرة” يفرضها “الذكر المسيطر” alpha male العدوانى بأقصى قدر من النجاح.

وكانت دراسات قِرَدة الشيمپانزى، وقِرَدة الشيمپانزى القزمة، والغوريلا فى المناطق البرية، فى الثلاثين سنة الأخيرة، قد تحدت أىّ نموذج كهذا(20)، مشيرة إلى أن استخلاص استنتاجات عن سلوك القِرَدة العليا من الحياة فى أقفاص حدائق الحيوان باعتباره أشبه تقريبا باستخلاص استنتاجات عن سلوك الإنسان من دراسات حالة عن سجناء لفترة طويلة فى محمية دارتمور(21). والاستنتاجات الرئيسية التى يمكن استخلاصها هى أن: 

1: قِرَدة الشيمپانزى وقِرَدة الشيمپانزى القزمة أكثر اجتماعية مما اعتدنا أن نعتقد. ذلك أن المواجهات العدوانية أقل تواترا بكثير من التفاعلات الودية. وتجرى تسوية معظم المواجهات العدوانية بدون عنف(22). 

2: الذكور ليست متورطة فى تنافس مرير متواصل للسيطرة على الإناث. “فى قطيع الشيمپانزى، بخلاف قرد البابون الذى يعيش فى الساڤانا، يكون الذكر المسيطر متسامحا نسبيا إزاء اهتمام الذكور الآخرين بالإناث: الممارسة الجنسية المختلطة هى الوضع الطبيعى للأشياء…”(23). و”بصفة عامة لا تكاد توجد علامة على الغيرة والعدوانية”. وتبادر الإناث باتصالات جنسية عديدة ويكون تعاونهن أساسيا إذا كان على الذكور إقامة علاقات خاصة معهن(24). 

3: دور “السيطرة” بين قِرَدة الشيمپانزى والغوريلا كان مبالغا فيه فى الماضى. ولا توجد هيراركية واحدة لكل النشاطات بين قِرَدة الشيمپانزى، وبين قِرَدة الغوريلا تبدو “السيطرة” فى كثير من الأحيان أقرب إلى ما يمكن أن نسميه القيادة أكثر منه إلى السيطرة(25).

4: هناك سلوك مكتسب بالتعليم ومنقول اجتماعيا أكثر كثيرا مما كان يُعتقد، واستخدام أكثر كثيرا لأدوات بدائية. وتستخدم قِرَدة الشيمپانزى الحجارة لتكسير الجوز، والعصىّ لجمع النمل الأبيض من الجحور، وأوراق الأشجار كإسفنجات لاستخلاص السوائل للشرب

. 5: قِرَدة الشيمپانزى ليست نباتية تماما. فهى تصطاد حيوانات صغيرة (على سبيل المثال، القِرَدة الصغيرة) عندما تسنح الفرصة وتحصل بذلك على حوالى 10 فى المائة من غذائها من مصادر غير نباتية. والصيد نشاط اجتماعى: تطارد بعض قِرَدة الشيمپانزى القِرَدة الصغيرة، وتنتظرها أخرى وتتربص لها وتقتلها. 

6: القِرَدة العليا لا تتصرف كأفراد متنافسة عندما يأتى وقت استهلاك الطعام. وإذا وجد أحد قِرَدة الشيمپانزى مصدرا لطعام جيد – شجيرة مثمرة جيدا ببراعم صالحة للأكل، على سبيل المثال – فإنه يقوم بإبلاغ القِرَدة العليا الأخرى. ورغم أن قِرَدة الشيمپانزى العادية تستهلك الغذاء النباتى بشكل فردى (ما عدا الأم التى تمد صغارها بالطعام)، إلا أنها تتقاسم اللحم مع بعضها البعض(26)، بينما تتقاسم قِرَدة الشيمپانزى القزمة بعض الغذاء النباتى أيضا.

7: الأشكال الأولية للاتصال تلعب دورا مهما بين القِرَدة العليا. وتُستخدم الإيماءات ليس فقط لجذب الانتباه بل أيضا للدلالة على نوايا بعينها – مثلما يحدث عندما تخبر أنثى من قِرَدة الشيمپانزى القزمة ذكرا إلى أىّ مدى ترغب فى الجنس(27). وتُستخدم مجموعة من الأصوات لأغراض مختلفة، للإشارة إلى خطر أو مصدر وفير للطعام.

8: يتنوع السلوك الاجتماعى للقِرَدة العليا من مجموعة إلى أخرى داخل كل نوع، مبينا أنه لا يعتمد فقط على عوامل غريزية، مبرمجة چينيا، بل أيضا على الأرض الطبيعية التى تعيش عليها والتقنيات التى اكتسبتها بالتعليم والتى لديها للتعامل مع هذه الأرض.

ومعظم هذه التطورات ملحوظة فى قِرَدة الشيمپانزى القزمة أكثر من قِرَدة الشيمپانزى العادية والغوريلا. وهناك تقاسُم أكثر فى الطعام، ومبادرات أكثر من جانب الإناث فى النشاط الجنسى، ومزيد من القطيعة مع نموذج السيطرة عند “قِرَدة” البابون فى التفاعل الاجتماعى حيث تميل مجموعة من الإناث إلى لعب دور رئيسى فى تماسك قطيع القِرَدة(28).

وقد أدى هذا إلى تصورات بأن “قِرَدة الشيمپانزى القزمة تقدم مفاتيح عديدة لفهم طبيعة ‘الحلقة المفقودة’ بين القِرَدة العليا والبشر”(29). ومهما يكن من شيء فإن الدليل المستمد من القِرَدة العليا فى البرية، ومن قِرَدة الشيمپانزى القزمة على وجه الخصوص، يتحدى الصورة المألوفة للسلوك العدوانى والتنافسى بصورة فطرية. ويبين هذا أيضا كيف أنه فى أحوال بعينها تظهر العناصر التى نفكر فيها فى العادة على أنها أشكال بشرية على وجه الحصر للسلوك تظهر بين أقارب البشر الأقربين – وكذلك استطاعت أيضا أن تبدأ فى الظهور بين أسلافنا العاديين منذ أكثر من 4 ملايين سنة.

أسلافنا

نعرف القليل جدا على وجه التأكيد عن أسلافنا من نوعىْ القرد الأعلى والإنسان المبكر (الهومينيد). غير أن الذى نعرفه فعلا يميل إلى الإشارة إلى اعتماد مخلوقات، هى أوسترالوپيثيسينيس Australopithecines (يعنى “قِرَدة عليا جنوبييِّن”)(30) على قدمين للمشى. وكانت هذه المخلوقات، فى معظم النواحى الأخرى، أقرب إلى القِرَدة العليا منها إلى البشر، وكانت أدمغتها لا تزال أكبر قليلا من حجم دماغ الشيمپانزى، فكانت تتراوح بين 385 و 500 سنتيمتر مكعب وليس هناك دليل حاسم على صنع الأدوات بينها(31). ولهذا يتم تصنيفها على أنها قِرَدة عليا، وليست بشرا.

وترجع بقايا الإنسان الأول(32) إلى 2.5-2 مليون سنة مضت. وكان الدماغ أكبر بشكل ملحوظ (بنسبة تصل إلى 50 بالمائة) من دماغ الأوسترالوپيثيسينيس وقِرَدة الشيمپانزى(33)، وقد سُمِّىَ هذا النوع هومو هابيليس homo habilis (أو “الإنسان الماهر”) حيث تم العثور عليه لأول مرة، فى مضيق أولدوڤاى Olduvai Gorge فى شرق أفريقيا، جنبا إلى جنب مع أدوات حجرية. ويشير شكل أسنانه إلى غذاء خليط من اللحم والنبات، فى مقابل الغذاء النباتى غالبا للقِرَدة العليا الحديثة الضخمة.

ومنذ 1.6 مليون سنة، وُجِد بشر بأدمغة أكبر كثيرا – يوصفون عادة باعتبارهم نوعا جديدا، هومو إيريكتاس homo erectus (“الإنسان المنتصب القامة” upright man) – فى أفريقيا وانتشر سريعا خارجا من أفريقيا إلى الأراضى الأوروآسيوية. وعلى مدى المليون سنة التالية استمر حجم الدماغ فى الكبر إلى أن وصل إلى حوالى ألف سنتيمتر مكعب – وهو نفس حجم دماغ بعض البشر الحديثين modern humans، حتى ولو كان أصغر من متوسط دماغنا. وبحلول ذلك الحين كانت الأسنان مهيأة بشكل واضح لأكل اللحوم، مما يُثبت أن الصيد مضى جنبا إلى جنب مع جمع الأغذية النباتية. وكان يتم تشكيل الأدوات الحجرية فى نماذج معيارية (يُشار إليها عادة على أنها [الحضارة/ الصناعة] الأشولية acheulean) لمنتجات مختلفة – فؤوس يدوية، سواطير، مكاشط، وإلخ.. ومما له دلالته أن الذكور كانوا فى المتوسط أكثر عددا من الإناث بحوالى 20 فى المائة فقط (بالمقارنة مع تمثيل الذكور ضعف الإناث بين الأوسترالوپيثيسينيس والقِرَدة العليا الضخمة). ويدل هذا على أن الدفاع ضد الحيوانات المفترسة كان يعتمد بشكل أكبر كثيرا بالتأكيد على التعاون داخل كل مجموعة وعلى استخدام الأدوات كأسلحة أكثر من الشجاعة الطبيعية لأىّ فرد ذكر.

ومنذ حوالى 500 ألف سنة تم العثور على مجموعة متنوعة من النماذج البشرية عبر أفريقيا وأوروپا وآسيا وكانوا يشبهون البشر الحديثين حيث كانت لهم أدمغة ضخمة (كانت فى بعض الحالات أكبر من أدمغتنا)، وجماجم رفيعة. ويجرى تصنيف هؤلاء على أنهم “الإنسان العاقل/العارف القديم” “archaic homo sapiens”، باعتبارهم أقدم نسخة لنوعنا نحن. والمعروفون بصورة أفضل منهم هم النياندرتاليون، الذين عاشوا فى أوروپا وفى أنحاء من الشرق الأوسط من حوالى 150 ألف إلى حوالى 35 ألف سنة.

وأخيرا، يبدو من الناحية التشريحية أن البشر الحديثين (المعرفون غالبا بالإنسان العاقل العاقل/العارف العارف homo sapiens sapiens) قد تطوروا فى أفريقيا ومن المحتمل فى الشرق الأوسط منذ 200 ألف إلى100 ألف سنة(34). ومنذ 40 ألف سنة أخذوا ينتشرون فى كل أنحاء أفريقيا وآسيا وأوروپا وأخذت سفنهم ترسو لأول مرة فى أستراليا. ومنذ 12 ألف سنة على الأكثر كانوا قد عبروا من شمال شرق آسيا إلى الأمريكتين(35).

ومنذ وقت طويل دارت مناقشات حول علاقة البشر الحديثين والنياندرتاليين. وعندما تم العثور على أول هيكل عظمى نياندرتالى منذ 140 سنة، كان يُنظر إليه على أنه ممثل لنوع أكثر بدائية بكثير منَّا نحن، إذ كان يتصف بسمات عديدة وحشية أشبه بسمات القِرَدة العليا (ومن هنا كان الاستخدام الدارج ﻟ “النياندرتالى” ليعنى الشبيه بالحيوان أو البربرى). ومنذ أربعين سنة كان ما يزال من المفترض أنه طريق تطورى مسدود – “نموذج بشرى تطوَّر فى المناخات الأكثر برودة للعصر الجليدى فى أوروپا قبل أن يختفى”(36). ثم تأرجح البندول الفكرى إلى الاتجاه المعاكس: كان التشديد على الدماغ النياندرتالى الضخم ووجوه الشبه بينه وبين دماغنا نحن. 

واليوم يتأرجح البندول على الأقل فى جزء من طريق العودة إلى الوراء مرة أخرى، مع وجهة النظر الأكثر شعبية التى ترى أن البشر الحديثين تطوروا على طول خط منفصل تماما عن “البشر القدماء” “archaics” [“الإنسان العاقل/العارف القديم”] ، ناشئين من مجموعة من الإنسان المنتصب القامة، معروفة فى العادة باعتبار أنها عاشت فى أفريقيا. غير أنه لا تزال هناك مقاومة جوهرية لوجهة النظر هذه المتمثلة فى “الخروج من أفريقيا” من جانب أولئك الذين يرون بعض الاستمرارية على الأقل بين “البشر القدماء” وبيننا(37). وهكذا فإن الأدلة من الندرة إلى حد أن وجهات النظر قد لا تُحسم مطلقا بصورة نهائية(38). ومهما كانت أهمية هذا الجدال من منظور علمى خالص، فإنه ليس مهما بوجه خاص عندما يدور النقاش حول فهم طبيعة البشر الحديثين(39). 

نوع وُلِدَ من الدم؟

يعتمد كثير من تنظير “القِرَدة العليا العارية” على افتراض أن أسلافنا كانوا مشتبكين فى صراع دموى مستمر مع أنواع أخرى وفيما بينهم فى آن معا. هكذا يؤكد أردرى Ardrey أن، “الإنسان نشأ من خلفية شبيهة بالإنسان لسبب واحد فقط: لأنه كان قاتلا”(40). ومن هذا يجرى استخلاص استنتاج بأن جريمة القتل موجودة فى چيناتنا، ويتم التحكم فيها بصعوبة عن طريق آليات الحضارة. وقد تم تشجيع مثل وجهات النظر هذه من خلال الأفكار المتعلقة بتطور الإنسان المبكر التى قام بتطويرها ريموند دارت Raymond Dart بعد اكتشاف البقايا الأولى للأوسترالوپيثيسين. فقد زعم أن الاكتشافات العظمية تُثْبت أن الصيد كان العامل الرئيسى فى تطور أقدم أسلافنا الذين لم يكونوا قِرَدة عليا، وأنه كان هناك “الانتقال الوحشى من قِرَدة عليا إلى إنسان”(41). وما يزال يتم ترويج مثل هذه الآراء فى بعض الأوساط. غير أن الكثير من الأدلة التى انتشرت لتبريرها يحيط بها الشك. ولم يكن من المحتمل أن تكون أكوام دارت العظمية النتيجة للصيد البشرى. ولم يكن أولاد أعمامنا الأقربين، خاصةً اﻟبونوبو bonobos، عدوانيين بشكل خاص. وكما سنرى، فإن الحرب كانت غير موجودة وكانت النباتات تُزوِّد بغذاء أكثر من اللحوم فى تلك المجتمعات الباقية الشبيهة بتلك التى عاش فيها أسلافنا حتى حوالى 10 آلاف سنة مضت.

على أنه يمكن لتفسير واحد لموقف “الخروج من أفريقيا (أىْ: الأصل الأفريقى)” أن يدعم أطروحة “الولادة من الدم”. وهو يقوم على دعوى أن علماء الچينات أثبتوا أن بعض چيناتنا نشأت من امرأة واحدة فى أفريقيا منذ ما بين 100 ألف و200 ألف سنة. ويقال إن البشرية بدأت معها، مع المنحدرين منها الذين انتشروا خارجين من أفريقيا، “والذين حلوا محل البشر المحليين القدماء فى جميع أنحاء العالم … بطريقة مفاجئة وعنيفة”(42). والنتيجة هى أن البشر الحديثين كانوا يمارسون إبادة جماعية بدائية ضد شعوب كانت شديدة الشبه بهم وأن هذا يشير إلى سمات مميزة مولعة بالحرب متأصلة فى صميم طبيعتنا ذاتها. 

غير أن المناقشة بأكملها تدور بشأن التباس أولى بين ما يحدث مع الچينات وما يحدث لحاملى تلك الچينات. فكل فرد لديه على الأقل زوج واحد من الچينات لكل صفة منقولة چينيا واحد من أمه وواحد من أبيه(43). غير أنه ليس لكل چين منهما بالضرورة أثر مساوٍ على البنية الجسمانية للفرد وأحيانا يكون چين واحد “مسيطرا”، مُخْفيا تماما وجود الآخر، رغم أن لكل منهما فرصة متساوية فى الانتقال إلى ذرية هذا الفرد. وعلى هذا النحو، يمكن أن يكون لطفل، عينا أحد والديه زرقاوان وعينا الآخر بنيتان، عينان بنيتان، غير أنه يظل قادرا على نقل العيون الزرقاء إلى أطفاله هو.

ويحدث التطور عندما يظهر شكل جديد لچين الأمر الذى يمكن أن يغيِّر الصفات المميزة الجسمانية لفرد ما، ويزيد على هذا النحو من فرص استمرار ذلك الفرد فى النسل. وفى نهاية المطاف، سوف يحل الشكل الجديد للچين بصورة كاملة محل الشكل القديم. غير أنه فى الفترة الانتقالية (التى قد تكون فترة طويلة جدا) تستطيع أجيال متوالية من الأفراد أن تحمل شكلىْ الچين كليهما، حيث تظهرعند بعض الأفراد صفات مميِّزة جديدة غير أنها تظل تنقل إلى بعض ذريتهم صفات مميِّزة لچينات قديمة. كذلك فإن أولئك الذين تظهر عندهم صفات مميِّزة جديدة يمكن أن ينقلوا الچين الخاص بصفة مميِّزة قديمة إلى بعض ذريتهم. وعندما ينتهى الچين الجديد إلى السيطرة فإنه يفعل ذلك غالبا بين أشخاص ينتمون إلى سلف مشترك (المالك الأول للچين) غير أن لهم أيضا أسلافا آخرين كثيرين(44). ولهذا فإن وجود أصل أفريقى للبشر الحديثين لا يستوجب أن تكون لنا جميعا سلف أنثى بعيدة واحدة، وواحدة فقط، قام المتحدرون منها بمحو سلف كل شخص آخر؛ بل يعنى بالأحرى أنه كان لدينا على الأقل سلف واحد مشترك وكذلك أسلاف آخرون كثيرون أيضا. 

ولا شك فى أن آلان ولسن Allan Wilson، الذى قام بأول بحث چينى يشير إلى وجود السلف الأنثى الأفريقية المشتركة، لم يكن يعتقد أنها المصدر الوحيد الذى جئنا منه. كما كتب اثنان من زملائه بعد وفاته بوقت قصير حول مثل هذه التفسيرات: “إنها خلطت بين هجرة وانقراض الچينات مع چينات هؤلاء السكان. ولا يوجد ما يدل على أن حواء كانت المرأة الأولى، وفى وقت بعينه، الوحيدة”(45). 

ويعترف كريس إسترينچير، وهو أحد أبرز أعضاء مدرسة “الأصل الواحد” بأنه “خلال الآلاف القليلة من سنين التعايش المحتمل بين النياندرتاليين والإنسان العاقل/العارف الحديث، ربما كان قد حدث تدفق چينى شامل بين المجموعات…” (46)وفى مؤتمر 1987 عن أصل الإنسان كان هناك “اتفاق عام على أنه رغم وجود فروق مورفولوچية كبيرة بين الإنسان العاقل/العارف القديم والحديث، فإنه لا يمكن استبعاد التهجين أو الاستمرارية المحلية بين المجموعتين”(47). ويعزز هذه الإمكانية واقع أن المجموعتين قد تعايشتا على مدى عدة آلاف من السنين فى مناطق بعينها حيث عاشتا فى نفس المواقع (ولكنْ ليس معا بالضرورة) واستخدمتا أدوات متشابهة.

وحتى إذا كان البشر لم يتناسلوا مع النياندرتاليين وأفراد قدماء آخرين من نوعنا، فإنه لا ينتج عن ذلك على الإطلاق أنهم أزاحوهم من أماكنهم عن طريق العنف. ذلك أن إحلال مجموعة حيوانية لنفسها محل مجموعة حيوانية أخرى خلال آلاف قليلة من السنين لا يشترط العنف. إنه يشترط فقط أن تكون إحداهما أكثر نجاحا من الأخرى فى الحصول على وسائل العيش من البيئة. ويؤدى هذا إلى زيادة عددها، واستنفاد الموارد المتاحة للمجموعة الأخرى إلى أن لا يعود معدل مواليدها كافيا لتعويض معدل وفياتها. وقد جرت الإشارة إلى نماذج يمكن أن يكون قد حدث فيها هذا فى حالة البشر الحديثين والنياندرتاليين خلال ألف سنة فقط، دون أن تقتل إحداهما الأخرى بوحشية(48).

الدماغ، والثقافة، واللغة، والوعى

ويتمثل جانب بالغ الأهمية من المناقشة بشأن الخط الدقيق لأسلاف البشر الحديثين فى مسائل أخرى كثيرا ما يجرى ربطها بها. وتتعلق هذه المسائل بأصل الثقافة واللغة. 

وينشأ الجدال لأن الأدوات العظمية والحجرية فى حد ذاتها، لا تُخبرنا كيف عاش أسلافنا، أو إلى أىّ درجة كان هناك اتصال فيما بينهم، أو إلى أىّ مدى كانوا ناجحين فى جمع المواد الغذائية النباتية والصيد، أو حتى ما إذا كانوا قد حكوا قصصا لبعضهم البعض، أو مارسوا طقوسا، أو كانت لديهم أفكار داخلية. والحقيقة أن البنية الجمجمية للهيكل العظمى لا تسمح لنا حتى بأن نعرف بالتفصيل كيف تم بناء الدماغ، وناهيك بما فعل هذا الدماغ. ولا تستطيع الأدوات الحجرية الباقية لأسلافنا أن تخبرنا بأىّ شيء عن أدواتهم الخشبية والعظمية (التى من المحتمل أنها كانت منتشرة بشكل أكبر كثيرا، لأن هذه المواد أسهل فى التشكيل من الحجر)، وما إذا كانوا قد استخدموا أم لا جلود الحيوانات والمواد النباتية للزينة (الأمر الذى من شأنه أن يدل على الخيال) بالإضافة ببساطة إلى أكلها والاحتفاظ بها دافئة.

هكذا فإنه تماما مثلما توجد تخمينات تفصيلية متعارضة حول چينولوچيات الأجسام المادية التى تأتى منها الهياكل العظمية، هناك تفسيرات متناقضة تماما لتطور عقولهم وثقافاتهم.

وتوجد مجموعتان رئيسيتان من النظريات. أولا هناك تلك التى تنظر إلى الثقافة واللغة على أنهما تنشآن مبكرا جدا فى تاريخ الهومينيد، على الأقل فى زمن الإنسان الماهر (منذ 2 مليون سنة) عندما أخذ البشر يتعاونون فى استخدام الأدوات للحصول على مورد رزق. ويُنظر إلى تطور الثقافة واللغة والدماغ والذكاء البشرى على أنه عملية تراكمية طويلة، بدأت منذ 2 مليون سنة واستمرت حتى وصول أول بشر حديثين بصورة كاملة، منذ حوالى 100 ألف سنة أو أكثر. وأدت ضرورة مواجهة البيئة والوضع المنتصب القامة الذى اتخذه الأسلاف الهومينيد، فى كل جيل، إلى الانتخاب الطبيعى لتلك الچينات التى شجعت على الذكاء والعِشْرة الاجتماعية. وكما عبرت نانسى ميكپيس تانر Nancy Makepiece Tanner فإن: 

الانتخاب من شأنه أن يُفضِّل بشدة صغار السن الأكثر ذكاءً الذين يستطيعون أن يُنفِّذوا بصورة فعالة السلوك الجديد … وكان من الممكن أن تحدث إعادة تنظيم (الدماغ) بأقصى سرعة: الصغار الذين لم يفعلوا ذلك وماتوا قبل سن الإنجاب لم يورِّثوا چيناتهم. وكان لا مناص من أن يفضِّل الانتخاب صغار السن الذين كانوا فضوليين ومازحين والذين قد تم تلقينهم سلوك أعضاء المجموعة الآخرين، فكانوا يقلدون مهارات صُنْع الأدوات والخبرة البيئية، وتعلموا أن يتعرفوا على ويتفاعلوا مع شبكة اجتماعية واسعة ومتنوعة(49). 

وقد انطلقت معظم مثل هذه التفسيرات من إنتاج جلين آيزيكس Glyn Isaacs، الذى أكد أن مجموعات عظام الحيوانات التى عُثر عليها إلى جانب الأدوات فى أولديوڤاى Olduvai تشير إلى وجود “أساسات مساكن” بين الإنسان الماهر حملوا إليها جثث الحيوانات التى تم اصطيادها ليتم تقاسُمها فيما بينهم(50). وهناك زعم بأن الأدوات نفسها، لا يمكن أن يكون قد تم صُنْعها دون مستوى من المهارة اليدوية والذكاء يتجاوز المستوى الخاص بالقِرَدة العليا. وكما يؤكد چون جوليتJohn Gowlett فإننا:   

نعرف على وجه التأكيد أن صُنْع الأدوات يرجع على الأقل إلى 2 مليون سنة … خلال عملية فصل مئات من قِطَع الدقشوم … فى تسلسل … بحيث تكون كل خطوة فردية خاضعة للأهداف النهائية … ويحتاج ضرب قِطَع الدقشوم المفردة إلى المهارة اليدوية والتنسيق بين اليد والعين، وكذلك التقدير السليم لخصائص تكسُّر الحجر. وأكثر من هذا، فإنه يحتاج إلى القدرة على “إدراك” من أين ستأتى قِطَع الدقشوم (51). 

وجنبا إلى جنب مع هذا التشديد على صُنْع الأدوات والتطور العقلىّ ينتشر زعمٌ بأن جمجة الإنسان الماهر تشير إلى تنظيم شبيه الإنسان بصورة نوعية للدماغ، مكتملا بالتطور الأول لمناطق مهيأة للكلام (منطقتىْ بروكا وڤيرنيكه Broca’s and Wernicke’s areas)، وهو ما “يشير بقوة إلى أنه حتى منذ 2 أو 3 مليون سنة كان الانتخاب الطبيعى يعمل على التكيف والدور الإيكولوچى-الوظيفىeco-niche adaptation وإلى أن السلوك المعرفى والاجتماعى كانا يمثلان بالتأكيد البؤرة الرئيسية”(52). 

ووفقا لهذه النظرة، تتوافق التضخمات المتعاقبة للدماغ على مدى 2 أو 3 مليون سنة مع الاعتماد المتزايد على المهارات التواصلية والمعرفية، والتى كانت بدورها ضرورية لانتقال المعرفة الخاصة بالمزيد من صُنْع الأدوات، من أجل الجمع والصيد التعاونيين ومن أجل التماشى مع الشبكات الأكثر كثافة بكثير للتفاعلات الاجتماعية التى نشأت من هذين النشاطين على السواء.

وقد ادعى بعض أنصار هذا التفسير أن هناك أدلة أركيولوچية تدعمه: العثور على “مخيمات بسيطة” base camps بين الإنسان الماهر، وبقايا استخدام النار بين الإنسان المنتصب القامة، و”مواقع الدفن الطقسية”، وبقايا رسوم المغرة والجلد ochre skin painting، وبناء الأكواخ بين البشر القدماء. وهناك زعم بأن كل هذه الأدلة تشير إلى تعقيد متزايد للحياة الاجتماعية، وإلى انتقال متزايد للثقافة، وإلى اتصال رمزى متزايد، وإلى تعبيرات عن الذكاء والخيال الفنى مماثلين ﻟ، وإنْ كانت أقل تطورا من، تلك التى بين البشر الحديثين.

وإذا كان هذا النموذج للتطور البشرى صحيحا، فإنه يُثْبت صحة تفسير إنجلس. وكما يؤكد تشارلز وولفسون Charles Woolfson، فإنه يعنى أن “الخطوط العريضة لنظرية إنجلس، ككل، يدعمها البحث المعاصر، وأنه، من هذه الجهة، يُعَدّ مقال إنجلس استباقا علميا لامعا لما يُعتقد الآن أنه النموذج المحتمل لتطور الإنسان”(53).

التحدى المثالى الجديد

غير أن هذا النموذج يواجه بعض التحديات الحادة فى السنوات القليلة الأخيرة. وقد قامت هذه التحديات على عدد من المزاعم.

أولا، أن كثيرا من الأدلة الأركيولوچية غير موثوقة. وربما كانت “المخيمات البسيطة” base camps التى استخدمها الإنسان الماهر عند آيزيكس متطورة قليلا عن نُسخ البشر المبكرين من عشش قِرَدة الشيمپانزى وربما كانت عظام الحيوانات ناتجة عن النبش الفردى لبقايا حيوانات تركتها حيوانات أخرى آكلة للحوم، وليست ناتجة عن الصيد المنظم اجتماعيا(54). كما أن بقايا الجماجم لا تُخبرنا بما فيه الكفاية عن شكل الأدمغة التى كانت الجماجم تحتوى عليها ذات يوم لكى يتسنى لنا استنتاج وجود مناطق متخصصة (منطقتىْ بروكا وڤيرنيكه) تم تكريسها للكلام(55). ويمكن فى الحقيقة تفسير البقايا التى يُزعم أنها تُبيِّن بناء أكواخ بين الإنسان المنتصب القامة واستخدام الزينة بين الإنسان العاقل/العارف القديم بطرق مختلفة جدا لا تقتضى أىّ مستوى مرتفع من الثقافة. كذلك فإن المدافن الطقسية المزعومة ربما كانت ناتجة فقط عن أحداث طبيعية – على سبيل المثال انهيار أسقف كهوف على شاغليه(56). 

ثانيا، يتمثل الدليل الأكثر إقناعا لدينا فى الأدوات الحجرية الباقية، التى لا تتغير إلا قليلا جدا طيلة مليون سنة من استمرار الإنسان المنتصب القامة والتاريخ الذى يبلغ طوله مئات الآلاف من السنين للنياندرتاليين. والشيء اللافت للنظر، كما يزعم هؤلاء، ليس أنه يوجد تغيير، بل أنه لم يحدث تقدم أكبر بكثير، وأسرع بكثير، وأكثر منهجية بكثير. ولم يحدث حتى ظهور ثقافات “العصر الحجرى القديم الأعلى” upper palaeolithic للبشر الحديثين منذ حوالى 35 ألف سنة. وحتى ذلك الوقت، هناك زعم بأن إنتاج الأدوات لم يختلف اختلافا كيفيا عما يحدث بين أنواع الثدييات غير البشرية(57). وفى ذلك الحين فقط وجدنا أدلة غير قابلة للتحدى على الإنتاج الفنى (رسوم الكهوف) والسلوك الطقسى (الدفن الاحتفالى، إلخ.). 

ثالثا، هناك زعم بأنه لا الإنسان المنتصب القامة ولا النياندرتاليون كانوا يملكون حنجرة قادرة على إصدار أكثر من جزء من نطاق الأصوات التى يُصدرها الإنسان الحديث، وبأنهم كانوا، لهذا السبب، عاجزين عن استعمال اللغة كما نعرفها اليوم(58). 

وأخيرا، يُزعم أن هذا النموذج يقوم على نسخة تدريجية عتيقة من النظرية التطورية، تتغير فيها الأنواع قليلا فى وقت ما مع ظهور طفرات چينية فردية وانتخابها. وتقبل النظرية التطورية الأكثر حداثة إمكانية ما يسميه جود و إيلدردچ “التطور المتقطع” الذى يمكن وفقا له أن يجرى أىّ تغيّر چينى يمكن أن يحدث فى الانفجارات(59). 

وقد تمثل التأثير الكلى لوجهات النظر المختلفة فى تشجيع طريقة فى السنوات الأخيرة تنظر إلى “نمط الحياة البشرية بصورة مميزة” على أنه نشأ مؤخرا جدا فى التاريخ، كنتيجة ﻟ “ثورة بشرية” أنتجت لأول مرة الثقافة واللغة. ويُعبر عن ذلك تفسير حديث جدا لوجهة النظر هذه على النحو التالى: 

كانت لدى الإنسان المنتصب القامة قدرة دماغية حديثة إلى حد كبير، غير أن من الجلى أنها كانت أضأل للغاية مما أظهرت فى طريق الثقافة البشرية. وإذا اعتبرنا أصل الإنسان مفهوما على أنه يعنى بدايات ثقافة بشرية يمكن تمييزها، فإنه لا مناص من اعتبار 3.5 مليون سنة من 4 مليون سنة من تاريخ الهومينيد، فترة من فترات ما قبل التاريخ…(60) 

ويبدو من المحتمل أن التغيرات الأكثر شأنا حدثت فقط بعد نشوء الإنسان العاقل. بل ربما كانت قد بدأت فى وقت لاحق، بعد أن حلّ البشر الحديثون من الناحية التشريحية محل التنويعات المبكرة للإنسان العاقل(61). 

وإذا كان هذا صحيحا، فإن تفسير إنجلس كان إذن بعيدا عن الفهم الصحيح من الناحية الجوهرية. ولا بد من أنه كان هناك شيئ آخر غير العمل التعاونىّ وراء تطور البشرية. غير أن وجهة النظر هذه كانت تنطوى على ثغرات ضخمة لا يمكن أن تسدها التفسيرات المادية.
ولا يُثبت الدليل المتعلق بالأدوات الحجرية أنه لم يحدث أىّ تقدُّم فى الثقافة. ولا يمكن مطلقا أن يكون الحجر المادة الوحيدة المستخدمة من قِبل أسلافنا الإنسان الماهر و الإنسان المنتصب القامة لصُنْع الأدوات، حتى وإنْ كانت المادة الأكثر قدرة على البقاء عَبْرَ أهوال الزمن. ولا شك فى أنهم استخدموا الخشب، والعظام، وجلود الحيوانات، والنار، للتغلب على مصاعب بيئتهم، ومن المحتمل أنهم وجدوا طرقا للجمع بين أنواع مختلفة لصيد الحيوانات بالمصائد وللحمل (62). وربما كانت كل هذه المواد على نفس مستوى أهمية الحجر بالنسبة لهم، إنْ لم تكن أكثر أهمية، ويمكن أن يكون قد تم استخدامها بطرق متغيرة لا تُحصى ولا تُعَدّ، لم تترك أىّ أدلة تقريبا. أكثر من هذا فإن تغيرا بطيئا فى الأدوات الحجرية لا يتساوى مع عدم التغير مطلقا. ولا شك فى أنه لا يُثْبت أنه صنعتها مخلوقات عديمة التطور العقلىّ والثقافىّ التراكمى.

وكما يُشير ماكجرو MacGrew، هناك فجوة ضخمة بين الأدوات التى استخدمتها قِرَدة الشيمپانزى وتلك التى استخدمها الإنسان الماهر، وناهيك ﺒ الإنسان المنتصب القامة: 

قِرَدة الشيمپانزى صانعة ومستخدمة ماهرة للأدوات … هناك أشياء بعينها لا نرى قِرَدة الشيمپانزى تفعلها … فهى لم تصنع أدوات حجرية من الدقشوم … وهى لم تستخدم عصىّ الحفر للوصول إلى الجذور … وهى لم تستخدم مقذوفات أو سلالم للوصول إلى الفاكهة البعيدة(63). 

ويزعم إس. ت. پاركر S.T. Parker و ك. ر. جيبسون K.R. Gibson، مستخدميْن الإطار المفاهيمى عند پياچيه Piaget لتطور اللغة عند البشر، أن الأدلة تُرَجح أن الهومينيد المبكرين لا بد أنهم كانوا يتمتعون “بذكاء ولغة مماثلين لذكاء ولغة الأطفال الصغار”(64). ويؤكد توماس وين Thomas Wynn أنه بنهاية الفترة الأشولية Acheulian period، منذ 300 ألف سنة، كان البشر المبكرون قد وصلوا بالفعل إلى المرحلة العليا الثانية من التطور العقلى البشرى، مرحلة “العمليات الملموسة”، مع “السيمترية التامة تقريبا للفئوس اليدوية”، الأمر الذى يُشير إلى قدرة على “قابلية التعديل، وحفظ الموارد، وتصحيح الأخطاء، إلخ.”(65). 

وربما كانت الأدوات الحجرية قد تغيرت ببطء شديد ببساطة لأنها كانت ملائمة للمهام التى حُدِّدت لها – وبنفس الطريقة التى تُبْدى بها بعض الأدوات الأساسية للنجارة قليلا من التغيير منذ عصور المصريين القدماء إلى أوائل القرن العشرين. وحتى إذا كانت الأدوات الحجرية قد تغيرت ببطء، فإن هذا لا يعنى أنها كانت قد صُنعت بسهولة أو أن من الممكن أنها كانت نتيجة لقيام الناس ببساطة بمحاكاة الآخرين دون إنعام التفكير فيما كانوا يفعلون.

ولا شك فى أنه لا يمكن استعمال الأدوات الحجرية لتبرير إدعاءات بوجود فجوة هائلة بين أول بشر حديثين والبشر “القدماء” المتأخرين. وليس كل ما هناك أن كلا المجموعتين تعايشتا على مدى عشرات عديدة من آلاف السنين، فقد اشتركتا أيضا فى ثقافات. وحتى منذ 40 ألف سنة استخدم البشر الحديثون فى أوروپا والشرق الأوسط نفس النوع من الأدوات اﻟموستيرية Mousterian التى استخدمها النياندرتاليون (كما أقر آدم كوپر Adam Kuper الذى يوافق وجهة النظرالرائجة القائلة بأن “ثقافة بشرية بصورة مميزة” ترجع فقط إلى من 25 ألف إلى 35 ألف سنة)(66). ومع ذلك فإن آخر النياندرتاليين الذين كانوا ما يزالون باقين منذ 35 ألف سنة كانوا قد تعلموا استخدام بعضا من نفس التكنولوچيات الأكثر تقدما التى كان يستخدمها جيرانهم البشر الحديثون(67). 

وحتى بعد أن تقدَّم البشر الحديثون منتقلين إلى هذه التكنولوچيات الجديدة، كان التغيير فى كثير من الأحيان بطيئا جدا، “بدون أىّ تطورات تكنولوچية رئيسية، ولا أىّ زيادة ذات شأن فى قدرة الإنسان على توليد الطاقة” لفترة طويلة(68). ففى المنطقة التى توجد فيها فرنسا الحالية، على سبيل المثال، كانت هناك فجوة تصل إلى 20 ألف سنة بين وصول ثقافة “العصر الحجرى القديم الأعلى” منذ 35 ألف سنة ورسوم الكهوف المجدلينية magdalenian فى لامارش La Marche. وانقضت 10 آلاف سنة أخرى قبل أن تحل تقنيات زراعة محل الصيد والجمع فى تلك المنطقة.

و بالتالى فإن الصورة هى صورة تطور بطئ لتقنيات على مدى 2 إلى 3 مليون سنة، ببعض التسريع منذ 200 ألف إلى 150 ألف سنة فيما كان النياندرتاليون والبشر الحديثون الأوائل يظهرون. وحدث مزيد من التسريع منذ 30 ألف إلى 35 ألف سنة، بين كل من السكان المتزايدين من البشر الحديثين والسكان النياندرتايين المتناقصين؛ ومزيد من التغيُر السريع منذ زمن رسومات الكهوف منذ حوالى 15 ألف سنة؛ وتطور سريع جدا مع ظهور الزراعة منذ من 10 آلاف إلى 5 آلاف سنة؛ والتسريع الهائل على مدى الألف سنة الأخيرة. ويدل هذا على أنه، رغم أن من الممكن أنه كانت هناك اختلافات بيولوچية مهمة بين البشر القدماء والحديثين إلا أن سرعة التجديد لم تتوقف، بالضرورة، على هذا. وكان لا مناص من أن يرتبط هذا بشيء آخر.

وحتى إذا كان ﻠ الإنسان المنتصب القامة والبشر القدماء نطاق صوتى محدود أكثر كثيرا من البشر الحديثين – وقد شكك بعض علماء الحفريات فى هذا الاستنتاج(69) – فإن هذا لا يعنى أن النياندرتاليين والبشر القدماء الآخرين كانوا يفتقرون إلى اللغة تماما. إنه يعنى ببساطة أنهم لم يكونوا يتواصلون مع بعضهم البعض بصورة جيدة مثلنا. وكما يكتب ليبرمان Liberman ذاته، الممثل الرئيسى للرأى الذى يشدد على الحدود اللغوية للنياندرتاليين، فإن: “النمذجة الكمپيوترية لا تظهر النياندرتاليين الهومينيد على أنه ينقصهم الكلام واللغة بصورة كلية؛ ذلك أن لديهم المتطلبات التشريحية اللازمة لإنتاج نُسخ أنفية لكل أصوات الكلام البشرى باستثناء أصوات [I] و[u] و[a] والصوامت الحلقية، ومن المحتمل أنه كانت لهم لغة وثقافة متطورتان تماما بوضوح”(70). 

وأخيرا فإن وجهة النظر القائلة بأن التطور المتقطع إلى مراحل punctuated يمكن أن يحدث لا تُثْبت، فى حد ذاتها، أنه حدث بالفعل بمثل هذه الطريقة لإنتاج الثقافة واللغة فجأة. وهناك حجة قوية ضد هذا – وهى حجة حجم الدماغ. وإذا كان تطور البشرية هو النتيجة لتغيرات سريعة جدا فى اتجاه نهاية فترة من ملايين السنين، فعندئذ تستطيع أن تتوقع أن تظهر السمة الأكثرتمييزا ﻠ الإنسان العاقل – الحجم الضخم لدماغنا بالمقارنة بأجسامنا. والحقيقة أن الصياغة الأصلية لفرضية التطور المتقطع التى قدَّمها جولد و إيلدريدچ كانت تلتزم بهذه النظرة، حيث يؤكدان أن الدماغ لم يكد يزداد حجمه على مدى المليون سنة التى عاش فيها الإنسان المنتصب القامة. ولكنْ، كما أشار سترينچر، هناك “أدلة قليلة” تدعم هذا النظرة(71). 

ويترك هذا مشكلة لأىّ نظرية تنظر إلى “الثورة البشرية” باعتبارها حدثت فجأة منذ نصف مليون سنة بإحلال الإنسان المنتصب القامة محل الإنسان العاقل، وناهيك ﺒ 35 ألف سنة مضت بعد تطور البشر الحديثين من الناحية التشريحية: لماذا كان ﻠ الإنسان المنتصب القامة دماغ ضعف حجم دماغ الأوسترالوپيثيسيين، وكان للنياندرتاليين دماغ بالحجم الحديث؟ لم يكن من الممكن أن يكون هذا ببساطة لأداء العمليات العقلية التى أمكن أن يؤديها أسلافهم قبل ذلك ملايين السنين. 

وفى الوقت نفسه فإنه لا يمكن تصور أن أسلافنا الذين عاشوا منذ مليون سنة كان يمكن أنْ يبقوا على قيد الحياة لو أنهم لم يكونوا قد طوروا طرقا للتعاون معا للتغلب على مصاعب بيئتهم ولنقل المعرفة إلى بعضهم البعض على نطاق أكبر من الناحية الكيفية من ذلك الذى يتم العثور عليه بين أولاد أعمامنا القِرَدة العليا. إذ أنهم بحلول ذلك الحين كانوا يتحركون بالفعل إلى خارج وديان أفريقيا حيث نشأ نوعهم ليستعمروا مناطق كثيرة من أوراسيا، مما يُثْبت أنهم كانوا قادرين ليس فقط على العيش فى بعض الملاذات الإيكولوچية المحصورة، بل أيضا على تكييف مجموعة متنوعة من البيئات لحاجاتهم – متعلمين التمييز بين تلك المجموعات المتنوعة من النباتات التى يعثرون عليها حديثا وكانت صالحة للطعام وتلك التى كانت سامة، ومتعلمين صيد أنواع جديدة من الحيوانات، ومتعلمين حماية أنفسهم من حيوانات مفترسة جديدة، ومتعلمين التغلب على مصاعب مناخات جديدة. 

جدل العمل والعقل

تُعَدّ الأدلة الأركيولوچية المباشرة عن العمل الاجتماعى- أو عن أىّ شكل آخر للسلوك – بين أسلافنا ضعيفة بالضرورة. غير أن الأدلة الظرفية شاملة. 

انظرْ إلى الملامح التى ميزت الإنسان المنتصب القامة عن القِرَدة العليا. فقد كان يسير على قدمين وفقد طريق الهروب السهل من الحيوانات المفترسة الذى تمثل فى الهروب إلى أعلى الأشجار؛ وكان صغارهم يستغرقون وقتا أطول إلى حد كبير ليكبروا (وهكذا كانوا يحتاجون إلى فترة أطول من الحماية من جانب كبارهم)؛ وصار ذكور هذا النوع عندئذ أكثر من الإناث فقط بنسبة 20 فى المائة فى المتوسط، وليس 100 فى المائة، وبالتالى فإن البنية الجسمانية لهذا النوع لم تكن بشكل رئيسى للدفاع؛ وتعرَّض لنقص كبير فى حجم الأنياب (الأسنان الطويلة المدببة على الجانبين التى تستطيع بها القِرَدة والقِرَدة العليا تهديد الحيوانات المفترسة المحتملة وقتل الحيوانات الصغيرة من أجل الطعام)؛ وجرى تكييف أسنانه الخلفية (الضروس) لنظام غذائى يحتوى على اللحم، مع استبعاد أىّ مواد نباتية تتطلب كثيرا من الطحن أثناء المضغ؛ وأعيد تشكيل اليد، مع تطور إبهام يستطيع الإمساك بالأشياء الصغيرة واستعمالها؛ ولم يعد الاهتمام الجنسى عند الإناث يتركز بشكل رئيسى حول وقت التبويض؛ وكما سبق أن رأينا، كانت هناك زيادة هائلة فى حجم الدماغ.

ولم يكن يمكن لمخلوق بهذه التوليفة من الملامح أن يواصل البقاء إلا إذا كان قد طور بعض لوسائل إحلال بعض الخصائص الجسمانية التى كان فقدها. وكان عليه أن يكون قادرا على الدفاع عن صغاره لفترات من الوقت أطول من أولاد عمه من القِرَدة العليا رغم فقدان الأنياب الضخمة، وقدرات تسلق الأشجار، والبنية الجسمانية الضخمة للذكر لدى القِرَدة العليا. وكان عليه أن يكون قادرا على التعامل بصورة فعالة مع تنويعة من النباتات أكثر من القِرَدة العليا رغم أنه كانت لديه ضروس لم تكن بنفس الجودة فى الطحن. وكان عليه أن يجد طريقة ما لتقطيع لحم الحيوانات، سواء اصطادها بنفسه أو اعتمد فقط على العثور على جثث تركتها حيوانات مفترسة أخرى. وتُشير كل هذه الأشياء إلى اعتماد هائل على استخدام أشياء من صُنْع الإنسان من أنواع متنوعة للدفاع، والتقطيع، والحفر، والجمع، والطحن. وهى تُشير أيضا إلى مستوى من التنظيم الاجتماعى أكبر بكثير مما يوجد حتى بين القِرَدة العليا الأكثر اجتماعية: هذا هو ما يُحتمل أنه يُفسر التغير فى نموذج النشاط الجنسى للإناث، بتشجيع الصلات الدائمة بين الجنسين بدلا من الممارسة الجنسية السريعة المحمومة التى تتركز حول أيام قليلة كل شهر والتى توجد بين قِرَدة الشيمپانزى العادية. غير أن المعرفة الخاصة بالتقنيات الضرورية ومواكبة المستوى الهائل من التعاون الاجتماعى الموجود فى الحياة الاجتماعية على هذا النطاق كانتا تتطلبان مستوى لقدرة الدماغ أعلى بكثير مما كان الحال فى السابق. وعلى مدى ألفيات عديدة استطاعت هذه المخلوقات التى تغيرت چيناتها بمثل هذه الطريقة التى تمكنها بصورة أفضل من التعلم من، والتواصل مع، والعناية ﺒ، بعضها البعض اكتساب ميزة فيما يتعلق بالبقاء والإنجاب. وكان بوسع الانتخاب الطبيعى أن يُحدث التطور فى اتجاه شبكات عصبية أوسع نطاقا، وأكثر كثافة، وأكثر تعقيدا بصورة متزايدة، قادرة على توجيه الوظائف الحركية المعقدة لليد والتعلم منها واستخدام تغيرات دقيقة فى الإشارة أو الصوت للتواصل.

فقط إذا نظرتَ إلى الأشياء بهذه الطريقة تستطيع أن تفسر لماذا كان نوعنا قد وُهِبَ بالفعل هذه القدرات منذ 35 ألف سنة ليطور نطاقا جديدا بالكامل من التكنولوچيات. ويكمن التفسير فى 2 مليون سنة من التطور التراكمى، مع تشجيع العمل فى كل مرحلة لليد الماهرة والمزيد من الروح الاجتماعية، والدماغ الأكبر. وفى كل مرحلة جعلت اليد الماهرة والمزيد من الروح الاجتماعية والدماغ الأكبر وجود أشكال أكثر تقدما من العمل ممكنا. غير أن كل هذا جعل العمل الحلقة المفقودة الحقيقية فى قصة التطور البشرى، كما ألحَّ إنجلس عن حق.

وكانت لمثل هذا العمل نتائج هائلة بالنسبة للدماغ. ذلك أن أولئك الأفضل تعاونا مع الآخرين فى إنتاج الأدوات واستخدامها كانوا أولئك الذين تعرَّضت أدمغتهم لتغيرات فى البنية والحجم جعلتهم أفضل فى تنسيق الوظائف الحركية متحكمين فى الأيدى بالرؤية والسمع، فيما كانوا يصيرون أكثر استجابة لإشارات الآخرين من نوعهم(72). وكانت عملية تراكمية فى طريقها إلى الحدوث حيث يعتمد فيها البقاء على الثقافة، والقدرة على المشاركة فى الثقافة، على هبة چينية شجعت على الجمع بين الروح الاجتماعية، والتواصل، والمهارة اليدوية، والقدرة على التفكير المنطقى.

وهذا هو ما يفسر لماذا كان أسلافنا قادرين، منذ مليون أو ما قارب المليون من السنين، على التحرك خارجين من الوطن الأفريقى لأسلافهم لينتقلوا إلى الظروف المناخية المختلفة جدا لأوراسيا، ولماذا كان النياندرتاليون قادرين على البقاء فى الظروف القاسية للعصر الجليدى الأوروپى على مدى 100 ألف سنة أو أكثر. ومهما كانت اختلافاتهم عنا كثيرة أو قليلة، فإنهم ما كانوا ليستطيعوا البقاء ما لم تكن لديهم على الأقل أعضاء ناشئة أساسية للثقافة، واللغة، والذكاء. وعلى كل حال فقد كانوا مثلنا من ناحية واحدة مهمة جدا: لم يكن لديهم شيئ آخر يحميهم – لا فرو فى أجسامهم، ولا سرعة كبيرة فى الهروب، ولا أنياب أو مخالب، ولا قدرة سريعة على الاختفاء فى الأشجار.

وهذا هو ما يفسر أيضا تطور تلك الصفات البشرية الأكثر خصوصية، اللغة والوعى. وتتمثل السمة المميزة فى اللغة البشرية، بالمقارنة بالأصوات والإشارات التى تُصْدرها حيوانات أخرى، فى أننا نستخدم كلمات للإحالة إلى أشياء ومواقف ليست موجودة أمامنا بالفعل. ونحن نستخدمها للتجريد من الواقع الذى يجابهنا ولوصف وقائع أخرى. وبمجرد أن نستطيع أن نفعل هذا مع آخرين، فإننا نستطيع أيضا أن نفعله مع أنفسنا، مستخدمين “الكلام الداخلى” الذى يستمر داخل رؤوسنا لنتصوَّر مواقف جديدة وأهدافا جديدة. ولا يمكن أن تكون القدرة على فعل هذه الأشياء قد ظهرت دفعة واحدة. ولا بد من أنها نَمَتْ على مدى أجيال عديدة عندما تعلَّم أسلافنا فى الممارسة العملية، عبر العمل، التجرد من الواقع المباشر وتغييره – عندما بدأوا فى استخدام الأصوات والإشارات ليس فقط للدلالة على ما كان أمامهم مباشرة أو ما رغبوا فيه مباشرة (وهذا هو ما تفعله بعض الحيوانات) بل للدلالة على كيف أرادوا تغيير شيئ ما وكيف رغبوا فى أن يساعدهم آخرون. ونحن نعرف أنه فى استخدام الأدوات كان هناك تغير ذو شأن من القِرَدة العليا إلى البشر المبكرين: كان القرد الأعلى يلتقط عصا أو حجرا لاستخدامه كأداة؛ أما البشر المبكرون منذ 2 مليون سنة فكانوا بالفعل لا يقومون فقط بتشكيل العصا أو الحجر، بل كانوا يستخدمون أحجارا أخرى للقيام بالتشكيل، ولا شك فى أنهم كانوا يتعلمون من بعضهم البعض كيف يقومون بهذا. ولا يتضمن هذا فقط تصورات عن أشياء مباشرة (المواد الغذائية)، بل أيضا عن أشياء انتقلت مرة من المباشرة (الأداة التى تستطيع جلب المواد الغذائية) وانتقلت مرتين من الواقع المباشر (الأداة التى تستطيع تشكيل الأداة التى تجلب المواد الغذائية). ويشمل هذا أيضا التواصل، سواء بالإشارة أو بالصوت، حول أشياء انتقلت على مرحلتين من الشروط المباشرة – فى الواقع، الاستخدام الأول للأسماء المجردة، والصفات، والأفعال. وبالتالى فإن تطور العمل وتطور التواصل كانا يسيران معا يدا فى يد، بالضرورة. ومع تطورهما كليهما، كانا يقومان فى آن معا بتشجيع انتخاب تلك الچينات الجديدة التى جعلت الناس أكثر مهارة فى الأمرين معا: اليد الأكثر خفة، والدماغ الأكبر حجما، والحنجرة التى أصدرت نطاقا أوسع من الأصوات.

ولا تقتضى مثل هذه التطورات مجرد تغيُّرات كمية. ومع تعزيز نمو العمل، ونمو الروح الاجتماعية، ونمو اللغة، بعضها البعض، مشجعةً انتخاب مجموعة كاملة من الچينات الجديدة، كانت تظهر شبكات جديدة من خلايا الأعصاب فى الدماغ، جاعلة من الممكن حدوث مجموعات جديدة بكاملها من التفاعل بين الناس والعالم من حولهم. وربما فسر هذا جيدا لماذا تطور فجأة نوع جديد من البشر عاش إلى جانب هؤلاء الذين سبقوهم ثم حلوا محلهم، كما حدث مع الظهور المتعاقب ﻠ الإنسان الماهر، و الإنسان المنتصب القامة، وأنواع متنوعة من البشر القدماء. وبالتالى فربما كان الحال يتمثل فى أن البشر الحديثين قد حلوا فى نهاية المطاف محل النياندرتاليين لأنهم كانوا قادرين على التواصل أسرع وأوضح مع بعضهم البعض (رغم أن من المحتمل ألا نعرف مطلقا على وجه اليقين ما إذا كان الحال كذلك).

ولهذا كان يجب أن يكون هناك تمييز لطريقة تحوُّل الكم إلى كيف، وللطريقة التى أدت بها الحياة الحيوانية من خلال تغيرات متعاقبة إلى ذلك الشكل الجديد من الحياة الذى نسميه “الحياة البشرية”، التى كانت لها ديناميكية خاصة بها، تشكلت من خلال عملها وثقافتها وليس من خلال چيناتها. غير أن هذا لا يجب أن يؤدى إلى السقوط فى مثالية جديدة تنظر إلى الثقافة واللغة على أنهما تنشآن من اللامكان فى الماضى القريب إلى حد ما. وإذا كان مثل هذا النهج هو الموضة فى بعض الدوائر، فليس هذا لأنه يمكن أن يقدِّم تفسيرا ماديا علميا لأصلنا، بل لأنه يتناسب مع المزاج الأكثر اتساعا بكثير للإنتليچنسيا منذ أواخر السبعينيات. ففى كل فرع معرفى كانت هناك محاولة لفصل اللغة والأفكار عن تطور الواقع المادى. وكما كان الحال فى أيام ماركس و إنجلس، فإن النضال من أجل العلم إنما هو نضال ضد كل من المثالية والمادية الميكانيكية – حيث تتخذ المثالية اليوم شكل الموضات “ما بعد الحداثية”، والمادية الميكانيكية للسوسيوبيولوچيا(73). 

نهايات مفتوحة

هناك تفاصيل عديدة فى قصة تطور البشر، لم تُحسم بعد وربما لن تُحسم أبدا، بسبب قلة الأدلة. ويُفسر هذا سلسلة بأكملها من المجادلات التى ما زالت تتواصل والتى تشيع الحرارة فى المؤتمرات الأكاديمية وتقدِّم قليلا من المعلومات المثيرة الجذابة لصحفيِّى العلوم.

هناك، على سبيل المثال، جدال جذاب حول لماذا تبنَّت مجموعة من القِرَدة العليا السير على رجلين فى المحل الأول. ويقول معظم الثقاة أن هذا كان لأن التغير المناخى قضى على الغابات حيث عاش أسلافنا من القِرَدة العليا، مقدِّما للأسلاف من القِرَدة العليا اختيارا بين الانسحاب إلى الغابة المتبقية أو التكيف مع بيئة مفتوحة بصورة أكبر. وكان من الممكن عندئذ أن يلتقط الانتخاب الطبيعى الخصائص الچينية بين المجموعات التى انسحبت إلى الغابة وتكيفت مع ذلك النوع من الحياة، تلك الخصائص التى نجدها فى قِرَدة الغوريلا فى الوقت الحاضر. وبنفس الطريقة كان من الممكن أن يلتقط بين ساكنى الأرض المُعشبة الخصائص “التعاونية” واستخدام الأدوات المنقول ثقافيا الذى نجده بين البشر: “حصل الهومينيد على أغذية نباتية ريانة بشكل أقل وربما أكثر صعوبة فى العثور عليها فى البيئة الجديدة، فى منطقة الساڤانا فى شرق أفريقيا. وقد تخصصوا بأن صاروا أكثر ذكاءً وذوى قدمين، وباستخدام الأدوات”(74). 

وعلى النقيض من هذا، يدعى آخرون أن الأدلة الأركيولوچية تُشير إلى أن القِرَدة العليا الأولى ذات الساقين عاشت فى الغابات، وليس فى الأدغال أو الأرض المُعشبة(75). 

وهناك جدال آخر حول دور الصيد فى الخطى الأولى على طول خط الهومينيد. وكان إحياء المناقشة حول الجوانب الاجتماعية للتطور البشرى قد تلقى تشجيعا هائلا من مؤتمر الإنسان الصياد فى 1966 الذى عقده ريتشارد لى Richard Lee و إرڤين ديڤور Irven DeVore والذى اجتذب الأركيولوچيين والأنثروپولوچيين الذين يدرسون مجتمعات الصيادين-الجامعين فى الوقت الحاضر. وكما يدل عنوان المؤتمر، كان التشديد على الصيد باعتباره النشاط الاجتماعى التكوينى(76). غير أنه تمت معارضة هذا فى الحال من جانب أولئك(77) الذين قالوا إن الأدلة الأركيولوچية الخاصة ﺒ الإنسان الماهر أشارت إلى النبش الفردى (أكل الحيوانات المقتولة بالفعل من جانب حيوانات أخرى آكلة للحوم) وليس إلى الصيد التعاونى. قد أدى هذا بدوره إلى الرد السريع بأنه لا بد أنه كان لدى أسلافنا دافع إلى النبش بصورة جماعية (يمكن للأعداد أن تُخيف الحيوان آكل اللحوم الذى يقتل الفريسة فى المكان الأول، بينما كان لا يكاد يكون هناك معنى لأن يقوم الفرد من الهومينيد بالاحتفاظ لنفسه، أو نفسها، بجثة أكبر كثيرا من أن يأكلها شخص واحد قبل أن يتعفن) (78).

وفى الوقت نفسه، ومن اتجاه آخر، تم التشديد على أن ذوى القدمين القدماء كانوا بالضرورة صيادين غير ناجحين، غير أنه كان لا بد أنه كان عليهم لكى يربوا صغارهم وليكونوا جامعين ناجحين للطعام النباتى أن يصيروا مستخدمين لأدوات اجتماعية: “ووفقا لكل الدلائل، امتلكت جماعات الأسلاف الشبيهة بالشيمپانزى منذ 5 مليون سنة عناصر سلوكية وتشريحية أساسية لتطوير تكيُّفٍ للجمع حيث كان من الممكن استغلال مجموعة كاملة من أغذية نباتات الساڤانا باستخدام الأدوات…”(79). وكان على الصغار أن يمرُّوا بتنشئة اجتماعية شاملة إذا كان لهم أن يتعلموا أداء مثل هذه المهام، التى تقوم بإعلاء شأن “رابطة الأم-الذرية”، حيث تكون الإناث “باعتبارهن المركزالضرورى للمجموعة الاجتماعية: نماذج حركية ملائمة لتعلُّم صُنع واستخدام أدوات الجمع للحفر، أو الطرْق، أو القشط، أو الفتح، أو تقسيم الأغذية، ولحمل الأدوات، والطعام، والأطفال الصغار، وللدفاع ضد الحيوانات المفترسة” (80). 

وأخيرا، هناك الجدال الذى تمت الإشارة إليه من قبل، بصورة عابرة، بشأن العلاقات بين مختلف نماذج الهومينيد التى تم العثور عليها – الأنواع المتباينة من الأوسترالوپيثيسيين، و الإنسان الماهر، و الإنسان منتصب القامة، والأنواع المختلفة من “البشر القدماء”، والنياندرتاليين، والبشر الحديثين.

غير أنه لا ينبغى لأىّ خلاف من هذه الخلافات بين المحترفين أن يحجب أحد أكثر التطورات إثارة فى التاريخ الفكرى عبر الثلاثين سنة الأخيرة – إثبات صحة خط التحليل المعروض فى الكُتيب غير المنشور، وغير المكتمل، الذى كتبه فردريك إنجلس بعد قراءة دارون. ويُخبرنا تريجر Trigger كيف أن: 

يُثْبت عمل إنجلس أنه كان من الممكن مفهمة النظرية المادية الجديدة لتطور البشر التى كانت موجودة بالفعل فى سبعينيات القرن التاسع عشر. غير أن من الجلىّ أن مفاهيم دارون المثالية بصفة جوهرية عن تطور البشر كانت متوافقة مع معتقدات معظم علماء الطبقة الوسطى فى أوروپا الغربية أكثر مما كانت مفاهيم كبير الثوريين إنجلس. ولهذا لم يكن من المدهش أن يتم تجاهل عمل إنجلس …
وتمثلت النتيجة فى أن البحث عن أصل البشر استغرق ثلاثة أرباع قرن سار خلالها فى دروب مسدودة، حتى ستينيات القرن العشرين، حيث “أرسى كينيف أوكلى Kenneth Oakley، و شيروود ووشبيرن Sherwood washburn و ف. كلارك هاويل F. Clark Howell أُسُس بناء نظرية جديدة للتطور كانت رغم أنه جرى الوصول إليها عن طريق الاستقراء إلى حد كبير، وثيق الشبه بعمل إنجلس المنسى طويلا”(81).           

إشارات القسم الأول

1: كان تاريخ الفلسفة البرچوازية الحديثة إلى حد كبير جدا تاريخا للجدال بين نظرتيْن، بين التجريبية والعقلانية، رغم أنه يتشابك مع مجادلات أخرى، حول كيف نحقق الوصول إلى المعرفة.

2: لم يُكْمله مطلقا، غير أنه نُشر فيما بعد فى شكله غير المكتمل بعد وفاته بقليل، فى المجلة الاشتراكية الألمانية Die Neue Zeit.

3: مستخدما تعليقات ماركس الغزيرة على كتاب مورجان، المنشورة باعتبارها: Karl Marx, Ethnological Notebooks.

4: نشر جريجور مندل Gregor Mendel بالفعل اكتشافاته فى مجلة مغمورة كانت تصدر فى برنو Brünn (Brno) فى 1865، غير أن لم يقم علماء بيولوچيا آخرون بإعادة اكتشافها حتى منعطف القرن.

5: B. Trigger, Comment on Tobias, Piltdown, the Case Against Keith, in Current Anthropology, Vol.33, No.3, June 1992, p.275.

6: للاطلاع على وصف لكل هذه التشوُّشات، انظرْ A. Kuper, The Chosen Primate (London, 1994), pp.33-47.

7: حول ندرة المحاولات المتعلقة بتفسير تطور البشر حتى ستينيات القرن العشرين، انظرْ مقدمة: R. Foley (ed.), Hominid Evolution and Community Ecology (London, 1984), p.3 

8: C. Stringer,‘Human evolution and biological adaptation in the Pleistocene, in ibid., p.53.

9: N. Roberts, Pleistocene environment in time and space, in ibid., p.33.

10: يعنى مثل هذا التغيُّر السريع فى حالة المعرفة أنه فيما عدا ذلك يمكن أن تصير أعمال مفيدة للغاية عتيقة من نواحٍ مهمة. وينطبق هذا، على سبيل المثال، مثل التفسير الماركسى عند تشالرز وولفسون Charles Woolfson لكثير من المعلومات المتعلقة بتطور البشرى، على The Labour Theory of Culture [نظرية الثقافة على أساس العمل]، رغم أنه لم يُطبع إلا فى 1982 ورغم أن وجهة نظره الأساسية قريبة جدا من وجهة النظر التى أقدمها هنا. وفيما كنت أكتب هذا المقال، ظهرت تقارير فى الصحافة العلمية تشير إلى أن أحفور إنسان چاوة “Java man” الشهير كان أقدم مما كان يُعتقد بمليون سنة (New Scientist, 7 May, 1994) وأن النموذج الأقدم إلى الآن وهو أوسترالوپيثيسينيس (إنسان العصر الپليوسينى) Australopithecine كان قد تم العثور عليه فى إثيوپيا.
11: وأحد أتباعهم “الراديكاليِّين” فيما يفترض هو كريس نايت Chris Knight. وكتابه Blood Relations (Yale, 1991) [علاقات الدم] عبارة عن قصة تخمينية  Just So storyللغاية. مع الكثير من المعلومات الحقيقية المشوَّهة فى محاولة لتبرير مزاعمه. انظرْ عرضى Blood Simple, International Socialism 54, Spring 1992, p.169.

12: إنجلس نفسه يقع فيها فى بعض المواضع فى The Origin of the Family، ولكنْ انظرْ لاحقا.

13: نوع منفصل من Pan paniscus، من قِرَدة الشيمپانزى الشائع Pan troglodytes.

14: رغم أن قلة من علماء الحيوان ما يزالون يؤيدون فكرة الأورانج أوتانج. انظرْ، على سبيل المثال، J.H.J. Schwartz, The Red Ape (London, 1987) [القرد الأحمر]، قدم پيتر أندروز Peter Andrews عرضا نقديا له فى: New Scientist, 14 May 1987.

15: S.I. Washburn and R. More, Only Once, in P B Hammond, Physical Anthropology and Archaeology (New York, 1976), p.18.

16: R. Ardrey, African Genesis (London, 1969), pp.9-10.

17: C.J. Lumsden and E.O. Wilson, Genes, Mind and Culture (Cambridge, Mass, 1981), p.258.
18: R. Ardrey, op. cit., p.170.

19: C.J. Lumsden and E.O. Wilson, op. cit., p.354.

20: كان من غير السهل إجراء هذه الدراسات بطريقة محكومة علميا. وقد شملت مجموعات متفرقة تصل أعدادها فى كثير من الأحيان إلى 40 أو أكثر وفى العادة عبر أحراش كثيفة وبين قمم أشجار لا يستطيع البشر الوصول إليها بسهولة، مع إدراك أن وجود البشر ذاته يمكن أن يؤثر على سلوك القِرَدة العليا (حيث تتصارع قِرَدة الشيمپانزى الصغيرة ، على سبيل المثال، على الطعام عندما يتم تقديمه لها من جانب مصدر بشرى واحد بطريقة قد لا تحدث منها عندما تأكل من حياة نباتية متفرقة). ونتيجة لهذا تغدو الأدلة مفتوحة على تفسيرات مختلفة. غير أنها جميعا تشير فى اتجاه مختلف جدا إلى نموذج “البابون” baboon القديم. للاطلاع على مناقشات تأخذ فى اعتبارها دراسات الحياة البرية، انظرْ Bernstein and F.O. Smith (eds.), Primate Ecology and Human Origins (New York, 1979); W.C. McGrew, Chimpanzee Material Culture, in R.A. Foley, The Origins of Human Behaviour (London, 1991), pp 16-20. وللاطلاع على أبحاث أصلية، انظرْ J. Goodall, The Chimpanzees of Gombe (Cambridge, Mass, 1986); M.P. Giglieri, The Chimpanzees of Kibale Forest (New York, 1984); A.F. Dixson, The Natural History of the Gorilla (London, 1981); B.M.F. Galiliki and G. Teleki, Current Anthropology, June 1981. 

21: وبالتالى فإن العدوانية بين الذكور حول التزاوج متواترة فى حالة الأَسْر أكثر مما فى الحياة البرية “بسبب القدرة الأكبر للذكور على السيطرة على الإناث”، وفقا ﻠ R.H. Nadler, “Aggression in Common Chimps, Gorillas and Orang-utangs”؛ وتمارس إناث قرود الشيمپانزى القزمة الخيار على الذكور التى تتزاوج معها فى الحياة البرية بطريقة لا تستطيع بها ذلك فى حالة الحبس فى القفص، وفقا ﻠ J.F. Dahl, Sexual Aggression in Captive Pygmy Chimps. وتظهر خلاصات كل من الورقتين البحثيتين فى International Journal of Primatology, 1987, p.451. 

22: للاطلاع على أدلة على هذا، انظرْ N.M. Tanner, Becoming Human (Cambridge, 1981), pp.87-89.

23: R. Leakey and R. Lewin, Origins (London, 1977), p.64.

24: N.M. Tanner, Becoming Human, op. cit., pp.95-96. See also Dixson, op. cit., p.148.

25: A.F. Dixson, op. cit., p.128. ومن المدهش أن آردرى Ardrey يسلِّم بأن الغوريلا ليس عدوانيا أو مدفوعا ﺒ “ضرورة إقليمية” territorial imperative – ثم يستنتج أنه فقد “غرائزه الحيوية” vital instincts، وأن “إكراهات أولية عامة” universal primate compulsions قد اضمحلت لأن هذا النوع “محكوم عليه بالهلاك”! انظرْ R. Ardrey, as above, pp.126-127.

26: هذا له مغزاه. فالمواد الغذائية النباتية كبيرة الحجم نسبيا وتوجد على أشجار وشجيرات متفرقة. ولا توجد أىّ ميزة للفرد أو القطيع فى تناول الطعام كله فى نفس المكان. وعلى النقيض، لا يمكن الحصول على اللحم إلا إذا تعاونت قِرَدة شيمپانزى عديدة فى قتل حيوان واحد – وليس من المرجح أن يحدث هذا مالم تكن الفريسة مشتركة بينها. 

27: انظرْ رسومات لوكيليما Lokelema، أنثى عمرها 25-35 عاما، و بوسوندرو Bosondro، ذكر عمره من 5.5 إلى 7.5، فى N.M. Tanner, On Becoming Human, op. cit., pp.124-125. 

28: A.L. Zihlman, Common Ancestors and Uncommon Apes, in J.R. Durrant, Human Origins (Oxford, 1989), p.98.

29: Ibid., p.98. See also J. Kingdon, Self Made Man (London, 1993), p.25. ويوضح كرونين Croninأن الأدلة الجزيئية تشير إلى أن پان پانيسكاس  pan paniscusهو “الأصل الباقى” relic stock الذى انحدرت منه الغوريلات، وقِرَدة الشيمپانزى العادية، والبشر، مقتبس فى N.M. Tanner, On Becoming Human, op. cit., p.58.

30: فى العادة يجرى تصنيف أوسترالوپبثيسينات Australopithecines إلى ثلاثة أو أربعة أنواع. أحدها أوسترالوپبثيسيكاس أفاريسيس Australopithecus afaresis(ويوجد منه هيكل عظمى كامل، يُلَقَّب ﺒ “لوسى” Lucy)، يُنظر إليه على أنه السلف المباشر للكائنات البشرية الحديثة؛ والآخران يُنظر إليهما فى العادة على أنهما نهايتان تطوريتان ميتتان evolutionary dead ends، باعتبارها مخلوقات تكيفت مع مواطن إيكولوچية بعينها ولكنها لم تستطع إحداث انتقال إلى مواطن جديدة عندما تغيرت المنطقة.

31: نظر دارت Dart، مكتشف الهياكل العظمية الأولى للأوسترالوپيثيسينات، إلى عظام حيوانية توجد معها على أنها دليل على قيام الأوسترالوپيثيسينات بالصيد. غير أنه جرى الاعتراض على هذا الزعم منذ ذلك الحين، ويُعتقد فى العادة أن هذه العظام جمعتها الضباع.

32: لا يوجد تفسير مقبول بصورة شاملة لمسألة أين ينتهى خط القِرَدة العليا ويبدأ خط البشر، ولا لمسألة كيف يجرى تمييز خط البشر إلى أنواع مختلفة. على أن معظم التفسيرات الحالية تضع الأوسترالوپيثيكاس Australopithecus مع القِرَدة العليا وتقبل الجمجمة 1470 التى عمرها مليونان من السنين على أنها تخص أقدم نوع بشرى معروف، الإنسان الماهر homo habilis. انظرْ، على سبيل المثال،R. Leakey and R. Lewin, Origins Revisited (London, 1993), p.117.

33: P.V. Tobias, The brain of homo habilis, Journal of Human Evolution, 1987, p.741; R. Leakey, Recent fossil finds in Africa, in J.R. Durant (ed.), Human Origins (Oxford, 1989); N.M. Tanner, On Becoming Human, op. cit., p.254.

34: هناك زعم بأن بقايا هياكل عظمية عُثر عليها فى أومو فى إثيوپيا ونهر كلاسيس والكهف الحدودى فى جنوب إفريقيا تخص البشر الحديثين الذين عاشوا منذ130 ألف سنة، و من80 ألف سنة إلى 100 ألف سنة. غير أن هذه الأدلة يعترض عليها أشخاص مثل ميلفورد وولپوف و ألان ثورن، انظرْ، على سبيل المثال، مقالهما: Milford Wolpoff and Alan Thorne, see, for example, The case against Eve, New Scientist, 22 June 1991، والملخص الموجز للتعليقات النقدية فى مؤتمر كامبريدچ عام 1987 بشأن أصل الإنسان فى S. McBrearty, The origins of modern humans, Man 25, 1989, p.131. وهناك أيضا زعم بأن بقايا البشر الحديثين تشريحيا التى عُثر عليها فى قفزيه Qafzeh فى فلسطين يبلغ عمرها من80 ألف سنة إلى100 ألف سنة، انظرْ، على سبيل المثال، ماكبريترى McBrearty, p.131، الذى يعلق بأن “هذا ينسجم مع أىٍّ من الأصل الأفريقى أو الجنوب غرب آسيوى للبشر الحديثين”.

35: هناك كثير من الجدال بشأن عمر مختلف البقايا البشرية المبكرة فى الأمريكتين. وللاطلاع على تلخيص لوجهات النظر، انظرْ Gordon R. Willey, The Earliest Americans, in P.B. Hammond (ed.), Physical Anthropology and Archaeology, op. cit.

36: ملاحظة أبداها Graves, New Models and Metaphors for the Neanderthal Debate, Current Anthropology, Vol.32, No.5, December 1991, p.513. وللاطلاع على وصف لهذه المناقشة منذ أكثر من نصف قرن مضى، انظرْ V.G. Childe, What happened In History (Harmondsworth, 1954), p.30.

37: تسمَّى هذه النظرة البديلة أحيانا “النظرة المتعددة الأقاليم” وممثلها الأكثر شهرة هو ميلفورد وولپروف Milford Wohlpoff.

38: هناك شكوك بشأن “أطروحة من أفريقيا” الكاملة من جانب أشخاص مثل روچر ليكى Roger Leakey الذى لا يُنسب أيضا إلى الموقف المتعدد الأقاليم تماما. انظرْ، على سبيل المثال، Leakey, Recent fossil finds in Africa, in J.R. Durant, op. cit., p.55: “أعتقد أن العالم كان مأهولا منذ100 ألف سنة مضت بمجموعات متميزة أقاليميا من نفس النوع؛ وأنا لا أحبذ فكرة أن الشكل الحديث لنوعنا كان له أصل جغرافى واحد …” وتُبيِّن الأدلة الأحفورية المستمدة من أنحاء منفصلة على نطاق واسع من العالم فى نظرى إلى أن “الإنسان العاقل homo sapiens فى شكله الحديث نشأ من نوع من شكل أقدم حيثما كان موجودا”. ورأيه أكثر اعتدالا بكثير فى كتابه الصادر فى 1993، Origins Reconsidered[إعادة نظر فى أصل الإنسان]، غير أن هذا الكتاب تم تأليفه بالاشتراك مع روچر ليوين Roger Lewin، الذى يؤيد فكرة الأصل الواحد. ومن الجائز أن التأليف المشترك يوضح السبب فى أن الكتاب يقدم مثل هذه النظرة العامة الممتازة لهذه المناظرة، انظرْ R. Leakey and R. Lewin, Origins Reconsidered, 1993, pp.211-235. وللاطلاع على عروض أخرى للمناظرة، انظرْ Roger Lewin, DNA evidence strengthens Eve hypothesis, New Scientist, 19 October 1991; J Poulton, All about Eve, New Scientist, 14 May 1987; C Stringer, The Asian Connection, New Scientist, 17 November 1990; Scientists Fight It Out and It’s All about Eve, Observer, 16 February 1992; M. Wohlpoff and A. Thome, The Case Against Eve, New Scientist, 22 July 1991; S. McBrearty, The Origin of Modern Humans, Man 25, pp.129-143; R. Leakey, Recent Fossil Finds in Africa, and C. Stringers, Homo Sapiens: Single or Multiple Origin, both in J.R. Davent (ed.), Human Origins (Oxford, 1989); P. Mellors and C. Stringer (eds.), The Human Revolution (Edinburgh, 1989); P. Graves, New Models and Metaphors for the Neanderthal Debate, Current Anthropology, Vol.32, No.5, December 1991; R.A. Foley, The Origin of Human Behaviour (London, 1991), p.83.

39: يُنظر إلى الفكرة “المتعددة الأقاليم” أحيانا على أنها تقدم بطريقة ما تبريرا للعرقية، حيث إنها تؤكد أن الناس فى مختلف مناطق العالم بدأوا يطورون سمات مميزة بعينها منذ مئات الآلاف من السنين وليس منذ عشرات الآلاف من السنين. غير أن هذا يعنى الوقوع فى خطأ منطقى أولى. ولأن هذه الفكرة تفترض معدلا للتطور، وبالتالى لتطور الاختلافات بين البشر، أبطأ كثيرا من فكرة الأصل الواحد، فإنه لا يمكن الاعتماد عليها لإثبات أن التمايز النهائى كان أكبر بأى شكل. 

تماما كما أن من الخطأ ادعاء أن أصل البشر الحديثين فى أفريقيا يدحض العرقيِّين البيض أو حتى يثبت أن الأفريقيِّين “عِرْق” متفوق على “البيض”. ويمكن لعرقىّ أبيض أن يقبل بسهولة أصلا أفريقيا للبشر الحديثين، وأن يصروا بعد ذلك على أن هذا يثبت أن الأفريقيِّين أكثر “بدائية” لأنهم “تطوروا أقل” من “البيض”، مقيمين دعواهم على أساس وجهة النظر القائلة إنه إذا كان الإنسان الحديث قد استطاع أن يتطور بسرعة بالغة إلى نوع منفصل ومتفوق من النياندرتاليِّين منذ 100 ألف سنة أو ما يقرب من ذلك، فلماذا لم يكن بمستطاع البيض أن يتطوروا إلى نوع منفصل ومتفوق على السود منذ 20 ألف سنة؟ وكانت هذه بالفعل وجهة النظر العرقية خلال العقود الكثيرة التى كان يُنظر فيها إلى النياندرتاليِّين على أنهم “قِرَدة عليا بشرية بدائية”.

ووجهات النظر العرقية خاطئة ليس بسبب فرضية أو أخرى بشأن أصل الإنسان، بل لأنه لا وجود لأى دعم لها فيما نعرفه عن البنية الچينية والبيولوچية للبشر الأحياء الآن. ذلك أنه لا يمكن تقسيم النوع البشرى إلى مجموعات فرعية متميزة، يتألف كل منها من أفراد متميزين عن أولئك الذين فى مجموعات فرعية أخرى بمجموعة كاملة من الچينات والسمات المميزة الجسمانية. وعلى الأكثر يمكن تقسيم النوع البشرى إلى مجموعات وفقا لاختلافات فى سمات فردية مميزة خاصة مثل كمية الميلامين فى البشرة، أو ميْل الشعر إلى التجعد، أو لون العينين، أو فصيلة الدم، أو الطول، أو طول الأنف، أو ما إلى ذلك. وتشمل مجموعة الناس من ذوى الميلامين الأقل أناسا كثيرين من ذوى العيون البنية. وتشمل مجموعة الناس من ذوى الأنوف الضخمة أناسا من ذوى كل مستويات الميلامين. ويميل هذا الطابع المتداخل إلى التركز فى بعض مناطق العالم: وهكذا لا يتطابق التوزيع الچغرافى لفصائل الدم مطلقا مع التوزيع الچغرافى للميلامين (أىْ “لون” البشرة)، كما أنه لا يتطابق مع توزيع الچين المنجلى (الذى يوجد بين اليونانيِّين، والأتراك، والعرب، والأفارقة). وعلى هذا فإن مفهوم الإدراك العام عن العِرْق – وهو نتاج لتجارة العبيد والفتح الإمپريالى – لا يمكن استخدامه كمقولة علمية صحيحة. وللاطلاع على مناقشة كاملة عن هذه الأمور، انظرْ F.B. Livingstone, On the non-existence of human races, in Current Anthropology, 3 (1962), p.279؛ انظرْ أيضا تعليق ت. دوبچانسكى T. Dobzhansky على وجهة نظر ليڤنجستون Livingstone، فى نفس المكان.

وسيكون خطأً جوهريا أن يبنى أى شخص حجته ضد العرقية بالاعتماد على نظريات عن الماضى من المحتمل أن تغدو موضع شك مع اكتشاف جديد لعظام عتيقة أو تقنيات جديدة لفك شفرة الماضى الچينى للبشرية. 

40: R. Ardrey, African Genesis (London, 1967), p.20.

41: R.A. Dart, The Predatory Transition from Ape to Man, International Anthropological and Linguistic Review, Vol.1, No.4, 1953.

42: هذا هو عرض وجهة النظر هذه من جانب اثنين من خصومها: M. Wolpoff and A. Thome (The Case Against Eves, New Scientist, 22 June 1991). غير أن نفس التعليق يُبْديه على هذه الفرضية بعض أولئك الذين يؤيدونها.

43: أنا أقوم بتبسيط وجهة النظر هذه هنا لكى أسهِّل متابعتها بقدر الإمكان. والواقع أن معظم السمات المميزة هى نتاج لأزواج كثيرة مختلفة من الچينات. غير أن هذا لا يؤثر على صحة فكرتى. للاطلاع على وصف شعبى أكمل لأحدث نظرية چينية، انظرْ S. Jones, The Language of Genes (London, 1993), Ch 2.

44: يميز علماء الچينات بين التحول المستمر لنوع بكامله إلى نوع جديد يحل محل النوع القديم من خلال الانتخاب الچينى gene selection (“anagenesis”) وانقسام نوع فرعى ليتطور إلى نوع جديد إلى جانب النوع القديم cladogenesis. انظرْ مقدمة R. Foley (ed.), Hominid Evolution and Community Ecology, p.15. ويسمى أليكسيڤ Alexeev أولئك الذين ينظرون إلى النوع البشرى بكامله باعتبار أنه يتطور إلى نوع جديد على أنهم كليِّون lumpers، وإلى أولئك الذين ينظرون إلى مجموعة صغيرة تنقسم لتكوين مجموعة جديدة على أنهم تقسيميِّون splitters. انظرْ O. Alexeev, The Origins of the Human Race (Moscow, n.d.), p.101.

45: يقودهم هذا إلى الإشارة إلى أن “حواء الأفريقية” African Eve والفرضيات “المتعددة الأقاليم” “multi-regionalist” hypotheses [فرضيات النشأة المتعددة المناطق الجغرافية للإنسان بما فى ذلك الإنسان المنتصب القامة والإنسان النيانديرتالى والإنسان الحديث (العاقل العاقل أو العارف العارف) منذ مليونىْ سنة، والفرضية البديلة هى نشأة الإنسان الحديث الأفريقى الأصل منذ حوالى 100-200 ألف سنة وهجرته منذ حوالى 50 ألف سنة إلى باقى العالم ليحل محل الأشكال القديمة – المترجمة] لا تستبعدان بعضهما بالضرورة: “إذا كانت الچينات التى تتحكم فى شكل الجمجمة فى الحمض النووى د.ن.أ، وهو ما يبدو محتملا، فإنها يمكن أن تغيِّر بصورة محلية التواتر كنتيجة لضغوط الانحراف أو الانتخاب البيئى المحلى. ونحن لا نرى بالتالى أىّ عدم ملاءمة فى الأصل الأفريقى لكل النسيج الميتوكوندريالى البشرى والاستمرار المحلى لبنية عظمية متميزة. ولا شك فى أن وجود كل منهما يعزز النظرة إلى الجنس البشرى باعتباره نوعا واحدا هجينا”، انظرْ T. Rowell and M.C. King, letter in New Scientist, 14 September 1991. 

46: C. Stringer, Homo sapiens, single or multiple origin, in J.R. Durant, op. cit., p.77.

47: S. McBrearty, op. cit., p.134.

48: انظرْ، على سبيل المثال، P. Graves, op. cit., p.521, and E. Zubrow, quoted in R. Leakey and R. Lewin, Origins Reconsidered, p.234-5.

49: N.M. Tanner, op. cit., p.155.

50: للاطلاع على ملخصات لوجهات نظر آيزيكس Isaacs، وانتقادات بينفورد Binford وآخرين لها، انظرْ R.J. Blumenschine, Breakfast at Olorgesalie, Journal of Human Evolution, Vol.21, No.4, October 1991, and J.M. Sept, Was there no place like home?, Current Anthropology, Vol.33, No.2, April 1992.

51: J.A. Gowlett, The Mental Abilities of Early Man, in R. Foley (ed.), op. cit..

52: مستشهد به فى N.M. Tanner, op. cit.، انظرْ أيضا P.V. Tobias, The brain of homo habilis, Journal of Human Evolution, 1987, p.741.

53: C. Woolfson, The Labour Theory of Culture, op. cit., p.3.

54: J.M. Sept, Was there no place like home?, op. cit., and Binford, quoted in R.J. Blumenshine, Breakfast at Olorgesailie, p.307.

55: وجهة نظر يستشهد بها P. Graves, op. cit., p.519.

56: Robert Cargett’s view, referred to in R. Leakey and R. Lewin, Origins Reconsidered, p.270; see also M.C. Stimer, T.D. White and N. Toth, The Cultural Significance of Grotta Guaterii Reconsidered, Current Anthropology, Vol.32, No.2, April 1991.

57: من المدهش جدا أن هذه الحجة يطرحها بقوة بالغة شخص راغب فى أن يكون ماركسيا هو كريس نايت Chris Knight, op. cit.
58: وجهات نظر ليبرمان Lieberman يشتمل عليها كتابه Uniquely Human (Cambridge Mass, 1991).

59: انظرْ Gould and Eldridge, Paleobiology 3, 1977؛ وللاطلاع على نقد لوجهات نظرهما، انظرْ Cronin and others, Nature 292; for a summary of the debate, see C. Stringer, Human Evolution and Biological Adaptation in the Pleistocene, in R.A. Foley (ed.), Hominid Ecology, p.57.

60: A. Kuper, op. cit., p.53.

61: Ibid., p.79.

62: يشدد على أهمية الجدائل أو الخيوط من نوع ما جوناثان كينجدون Jonathan Kingdon، الذى تستطيع معرفته بإيكولوچيا الثدييات الأفريقية أن تُلقى ضوءًا هائلا على الشروط التى وجد فيها البشر المبكرون أنفسهم، انظرْ كتابه Self Made Man, op. cit., p.51.

63: W.C. McGrew, Chimpanzee Material Culture, in R.A. Foley (ed.), The Origins of Human Behaviour (London, 1991, p.19-20.

64: .S.T. Parker and K.R. Gibson, The Importance of Theory for Reconstructing the Evolution of Language and Intelligence, in A.B. Chiarelli and R.S. Corrucinia (eds.), Advanced Primate Biology (Berlin, 1982), p.49.

65: T. Wynn, Archaeological Evidence for Modern Intelligence, in R.A. Foley (ed.), The Origins, op. cit., pp.56-63.

66: A. Kuper, op. cit., p.89.

67: P. Graves, op. cit., pp.519-521; R.A. Foley, The Origins, op. cit., p.83.

68: N. David, On upper palaeolithic society, ecology and technological change: the Noaillan case, in Colin Renfrew (ed.), Explaining Cultural Change (London, 1973),p.276.

69: يزعم ب. أرينسبورج B. Arensburg و ب. ڤاندرميرش B. Vandermeersch أن العظم اللامى hyoid bone لإنسان نيانديرتالى من60 ألف سنة مضت عُثر عليه فى كهف كيبارا Kebara فى جبل الكرمل فى إسرائيل يشير إلى أنه “يبدو أن الأساس المورفولوجى لقدرات الكلام البشرى كانت متطورة تماما”، مستشهد به فى R. Leakey and R. Lewin, Origins Reconsidered, op. cit., p.272. ويعترض ليبرمان Lieberman على أهمية هذا الاكتشاف. وللاطلاع على عرضه الخاص لهذه المناظرة، انظرْ كتابه Uniquely Human, op. cit., p.67.

70: Lieberman, ibid., p.65.

71: C. Stringer, Human Evolution and Biological Adaptation in the Pleistocene, in R.A. Foley (ed.), op. cit., p.64.

72: حتى ليبرمان Lieberman، رغم اقتناعه بأن الاستعمال التام للُّغة كان تطورا لاحقا، يشدد على دور العمل: “من المحتمل أنْ تكون الآليات الدماغية التى تسيطر على الكلام مستمدة من آليات سهَّلت المهام اليدوية الدقيقة التى تُؤَدَّى بيد واحدة”. 

73: هذه النقطة مهمة جدا حيث إن واحدا من أفضل داحضى السوسيوبيولوچيا، ستيفين جولد Stephen Gould، يُبدى فى أحدث أعماله بعض العلامات على انزلاق “بعد-حداثىّ” ما. ففى كتابه Bully for Brontosaurus، يميل نحو قبول فكرة أن اللغة ظهرت فجأة منذ 35 ألف سنة، على حين أنه فى كتابه Wonderful Life (London, 1989) [حياة رائعة] يوجز خطوطا عريضة لفلسفة كاملة للتاريخ تشدد على ميلها الصدفى وعشوائيتها أكثر من وضوحها، كما هو الحال عندما يكتب: “لا يرتكز تفسير تاريخىّ على استدلالات مباشرة من قوانين الطبيعة، بل على تتابع لا يمكن توقعه لحالات سابقة، حيث يكون لأىّ تغير رئيسى فى أىّ خطوة فى التتابع قد بدَّل النتيجة النهائية. وبالتالى فإن هذه النتيجة النهائية معتمدة على، أو مشروطة ﺒ، كل شيء جاء من قبل – البصمة التى لا تُمحى والحاسمة للتاريخ” (p.283). غير أنه ليس كل شيء “مشروطا” فى الواقع. وفى بعض الأحوال، من المرجح أن تحدث أشياء بعينها، فى كل من العالم البيولوچى والتاريخ – فى مواجهة انقراضات واسعة النطاق، ومن المرجح أن تكون مخلوقات بعينها ذات بنية چينية بعينها قادرة على البقاء أكثر من مخلوقات أخرى، وفى مواجهة تغيُّرٍ ما فى البيئة يكون من المرجح أن تكون أنواع بعينها من العمل البشرى والتنظيم الاجتماعى قادرة أكثر من أنواع أخرى على النجاح فى التغلب على المصاعب، وفى مواجهة تغيرات بعينها فى المجتمع من المرجح أن تستجيب طبقات ذات مصالح بعينها بطرق بعينها. وهذا هو السبب فى أننا لا نستطيع فقط أن نكتب التاريخ، بل نستطيع استخدامه، فى حدود معينة، فى تنوير الحاضر. ولا يمكننى أن أمتنع عن الإحساس بأن جولد نفسه كان سيعترف بهذا فى ستينيات القرن العشرين الراديكالية ويُعتبر موقفه الحالى إلى حد كبير انعكاسا للأنماط الفكرية المتغيرة أكثر منها اقتناعا شخصيا. كما يجب أن نضيف أن البساطة الممتازة للُّغة التى يعبِّر بها عن أفكار علمية يمكن أن تموِّه واقع أن وجهات النظر التى يعبر عنها تكون فى بعض الأحيان وجهات نظر يقاومها بشدة باحثون آخرون (كما هو الحال مع تفسيره الخاص لاكتشافات بورجيس شيل Burgess Shale فى Wonderful Life).   

74: N.M. Tanner, op. cit., p.56.

75: R.J. Rayner and others, Journal of Human Evolution, Vol.24, p.219, quoted in S. Bunney, Early Humans were Forest Dwellers, New Scientist, 10 April 1993.

76: انظرْ، على سبيل المثال، مساهمة W.S. Laughlin, Hunting, its Evolutionary Importance, in P.B. Hammond, op. cit., p.42.

77: على سبيل المثال L. Binford, Bones, Ancient Man and Modern Myths (New York, 1981).

78: انظرْ، على سبيل المثال، B.J. King, Comment on J.M. Sept, Was there no place like home?, Current Anthropology, Vol.33, No.2, April 1992, p.197.

79: N.M. Tanner, op. cit., p.139.

80: Ibid., p.149.

81: B. Trigger, comment on Tobias, Piltdown, the Case Against Keith, in Current Anthropology, Vol.33, No.3, June 1992.

——————————————–

القسم الثاني

أصل الطبقات والدولة

 انتهى كتيب الدور الذى لعبه العمل بفقرات قليلة تُشير إلى كيف أنه، بمجرد أن ترسَّخ النوع البشرى بيولوچيا، أدى عمله فى العالم بالتالى إلى تغيرات متعاقبة فى مؤسساته الاجتماعية. وانطلق كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، المؤلَّف بعد ذلك بثمانى سنوات، من هذه الرؤى، مطوِّرا التفسير الشامل لتطور المجتمع البشرى.

وقد أكد [أصل العائلة] أن البشر عاشوا فى الأصل فى مجتمعات بدون ملكية خاصة بالمعنى الذى نستخدمه اليوم للكلمة (أىْ، لا ثروة خاصة، فى مقابل، مثلا، فُرَش الأسنان)، وبدون أىّ انقسام إلى طبقات، وبدون أىّ سيطرة للرجال على النساء. غير أن تغيرات فى الطريقة التى تعاون بها البشر لإنتاج أسباب عيشهم أدت إلى أنْ تحلّ محل هذه المجتمعات “الشيوعية البدائية” مجموعة متعاقبة من أشكال المجتمع الطبقى، تمثل الرأسمالية الحديثة شكلها الأحدث. ومع المجتمع الطبقى جاءت الدولة وأشكال مختلفة من العائلة جرى فيها اضطهاد النساء. 

وإذا كان قد تم تجاهل الدور الذى لعبه العمل من جانب العلوم الاجتماعية الراسخة، فإن أصل العائلة كانت تجرى إدانته بشكل منهجى. وكانت فكرة “الشيوعية البدائية” بأكملها مرفوضة باعتبارها قصة خرافية. وكانت تجربة عالمة الأنثروپولوچيا الأمريكية إليانور ليكوكEleanor Leacock نموذجية. وهى تخبرنا كيف أنه كان “مقبولا بشكل عام عندما كنت طالبة أن “الشيوعية الفعلية” التى أشار إليها لويس هنرى مورجان و فردريك إنجلس لم توجد مطلقا فى الحقيقة”(82). 

وجزئيا، كان الهجوم على إنجلس سياسيا، مرتبطا بالهجوم العام على الأفكار الاشتراكية. لكن الهجوم كان يتوافق أيضا مع تيار عام غير تاريخى، وغير تطورى فى السوسيولوچيا والأنثروپولوچيا الاجتماعية. وعلى حين أنه فى القرن التاسع عشر كانت هذه الفروع من المعرفة قد نشأت باعتبارها محاولات تأملية لإثبات كيف تطور كل التاريخ البشرى عضويا إلى معجزة الرأسمالية الحديثة، فإنه فى القرن العشرين كان التيار فى الاتجاه المعاكس – ليرفض أىّ مفهوم للتطور الاجتماعى مهما كان. وكانت هناك تفسيرات عديدة للحياة داخل ثقافات فردية. وكانت هناك محاولات لإثبات كيف كانت لمختلف أشكال مجتمعات “بدائية” بعينها “وظيفة” تتمثل فى استمرار المجتمع. وكانت هناك حتى محاولات لتقديم “نظرية” لقيام أىّ مجتمع وكل مجتمع بوظيفته، حيث كانت المحاولات الأكثر مبالغة والأكثر عقما هى كتابات تالكوت پارسونز Talcott Parsons. غير أنه كان هناك دحض لأى محاولة لتفسير التطور الاجتماعى.

غير أنه طوال هذه الفترة، أثبتت الأبحاث الفعلية لعدد من علماء الأنثروپولوچيا الاجتماعية وجود عدد هائل من المجتمعات لم توجد فيها طبقات، أو الدولة، أو اضطهاد النساء كما نعرفه اليوم- على سبيل المثال كُتُب Coming of Age in Samoa [بلوغ سن الرشد فى ساموا] ﻠ مارجريت ميد Margaret Mead ، و Patterns of Culture [نماذج الثقافة] ﻟ روت بينيديكت Ruth Benedict، وحتى Argonauts of the Western Pacific and Sex and Repression in Savage Societies [مغامرون غرب المحيط الهادئ والجنس والقمع فى المجتمعات الوحشية] ﻟ برونيسلاو مالينووسكى Bronislaw Malinowski و African Political Systems [الأنظمة السياسية الأفريقية] ﻟ ميير فورتس Meyer Fortes و إيڤانز پريتشارد Evans Pritchard. 

فقط فى فرع معرفى واحد، هو فرع الأركيولوچيا، كانت مفاهيم التطور تواصل وجودها. وربما كان هذا جزئيا لأن الأركيولوچيين وجدوا عظاما بشرية وقطعا أثرية مستقرة فى طبقات چيولوچية وُضعت فى مراحل مختلفة فى الماضى ولهذا كانوا ميالين إلى النظر إليها على أن بعض الطبقات منها كانت تتلو الأخرى. غير أن هذا كان أيضا لأن أبرز شخصية فى الأركيولوچيا البريطانية كان اشتراكيا من الجناج اليسارى، هو ڤ. جوردن تشايلد V. Gordon Childe، الذى انجذب إلى طبعة ستالينية للماركسية فى ثلاثينيات القرن العشرين واستعمل بعض رؤى إنجلس ليتصالح مع أوجه القصور فى تفسيراته الخاصة السابقة للتغير الثقافى (التى اعتمدت على مخططات تفصيلية “انتشرت” من خلالها الثقافة من مجتمع إلى آخر) (83). 

ثم فى أواخر ستينيات القرن العشرين تغير المناخ الفكرى- تغيرا لا يمكن فصله عن تبدلات أوسع فى ذلك العقد. وعلى حواف العالم الأكاديمى بدأ بعض الأنثروپولوچيين (ومن بينهم ماركسيون مثل إليانور ليكوك ومعادين للإمپريالية مثل ريتشارد لى) يعملون مع الأركيولوچيين (الذين كانوا غالبا متأثرين ﺒ جوردن تشايلد) على التطوير التفصيلى لتفسيرات تطورية للمجتمع البشرى. وقد قاموا بالفعل بإعادة إثبات صحة الأفكار التى ظلت مُدانة طوال جيلين، خاصة وجهة النظر المتعلقة بأن البشرية عاشت طوال مئات الآلاف من السنين فى مجتمعات بدون طبقات، وبدون ملكية خاصة، وبدون الدولة.

وفى الوقت الحاضر، يمكن لشخص واسع التأثير وغير ماركسى مثل إرنست جيلنر Ernest Gellner أن يوافق على أنه على مدى فترة طويلة عاش البشر باعتبارهم “صيادين/جامعين … يتحددون بواقع أنهم لا يملكون أىّ وسائل للإنتاج، أو لتراكم، أو لتخزين الثروة أو يملكون القليل منها”، فى مجتمعات “تتميز بدرجة منخفضة من تقسيم العمل”(84). ويستطيع ريتشارد لى أن يؤكد باحترام تام: “قبل نشوء الدولة ورسوخ اللامساواة الاجتماعية، عاش الناس طوال ألفيات فى مجموعات اجتماعية تقوم على أساس عشائر صغيرة الحجم، اشتملت فيها المؤسسات الأساسية للحياة الاقتصادية على الملكية الجماعية أو المشتركة للأرض والموارد، والتشارك المعمَّم فى توزيع الطعام، والعلاقات السياسية المساواتية نسبيا”.

ولا يعنى هذا أننا نستطيع ببساطة أن نتبنى كل وجهات نظر إنجلس وأن نتعامل معها باعتبارها مقدسة لا تقبل الجدال. وقد لاحظ هو نفسه فى 1891 أن ما كان كتبه فى 1884 قد احتاج إلى مراجعة لأخذ “التقدم المهم” فى المعرفة فى الاعتبار. ونحن نعيش ليس بعد سبع سنوات بل بعد أكثر من 100 سنة من ذلك الزمن. وكما ذكرت كريستين ووارد جيلى Christine Ward Gailey، فى دراسة تُعَدّ إلى أقصى حد ضمن إطار التراث الذى أرساه إنجلس، فإن كثيرا من المعطيات “الإثنوجرافية” (أىْ الأنثروپولوچية) فى أصل العائلة قد تجاوزتها أبحاث لاحقة(85). وهناك نواة أساسية فى مناقشة إنجلس فى أصل العائلة تبقى ذات قيمة قصوى. غير أن من الضرورى أن نخرجها من القبر من نطاق بيانات غير صحيحة فى الواقع ووجهات نظر تأملية تعامل معها بعض أدعياء الماركسية على أنها إنجيل منذ ذلك الحين واستخدمها خصومها لتشويه كل رؤى إنجلس(86).

الشيوعية البدائية

كانت نقطة البدء عند إنجلس إعادة صياغة للرأى الذى كان قد أبداه هو وماركس فى 45-1846، وهو أن الطرق التى يؤمِّن بها البشر معاشهم من الطبيعة تحدد كيف يتعاونون مع بعضهم البعض وأن يضعوا بهذا الأساس لمجتمعات يعيشون فيها: 

يتمثل العامل الحاسم فى التاريخ، فى التحليل الأخير، فى إنتاج وإعادة إنتاج الحياة المباشرة … فمن جهة إنتاج وسائل العيش، والطعام، والكساء، والمأوى، والأدوات اللازمة لذلك؛ ومن جهة أخرى إنتاج البشر أنفسهم، إعادة إنتاج النوع. والنظم الاجتماعية التى يعيش فى ظلها البشر فى عصر تاريخى بعينه وبلد بعينه مشروطة بكلا هذين النوعين من الإنتاج …(87). 

وكان مورجان، قد توصل بشكل مستقل تماما عن ماركس و إنجلس إلى استنتاج مماثل إلى حد ما(88). 

البشر هم الكائنات الوحيدة التى يمكن أن يقال إنها حققت سيطرة مطلقة على إنتاج الطعام … وبدون وضع أساس العيش ما كان بمستطاع البشر إعادة إنتاج أنفسهم فى مناطق مختلفة … وفى نهاية المطاف على كل سطح الأرض …

وبالتالى فإن من المحتمل أن العصور الكبرى لتقدُّم البشر قد تميزت بشكل مباشر إلى هذا الحد أو ذاك بالتوسع فى مصادر العيش (89).

وقد حذا إنجلس حذو مورجان فى تقسيم تاريخ البشر إلى ثلاث مراحل كبرى – الوحشية، والبربرية، والحضارة. وكانت لكل مرحلة منها “ثقافة متميزة وأسلوب حياة خاص إلى هذا الحد أو ذاك وفريدا من نوعه” وقامت على أسلوب خاص لتحقيق وسائل العيش(90). 

الوحشية- الفترة التى ساد فيها امتلاك المنتجات الطبيعية، الجاهزة للاستخدام؛ وكانت الأشياء التى ينتجها الإنسان أدوات تُسهِّل هذا الامتلاك، بصفة رئيسية.

البربرية – الفترة التى تم فيها اكتساب المعرفة الخاصة بتربية الماشية وزراعة الأرض، حيث تم تعلُّم طرق زيادة إنتاجية الطبيعة من خلال النشاط البشرى.

الحضارة – الفترة التى تم فيها اكتساب المعرفة بالمزيد من تحسين المنتجات الطبيعية، وبالصناعة بمعناها الدقيق وبالفن (91). 

وقد عكست المصطلحات ذاتها الأحكام المسبقة لأواخر القرن التاسع عشر، المتعلقة بفكرة ما يسمى بالمجتمعات “البدائية” على أنها “وحشية” و”بربرية”. غير أن مورجان و إنجلس اللذين رفضا إلى حد كبير تلك الأحكام المسبقة، كانا قادرين على استخدام هذه التمييزات من أجل فهم ما هو رئيسىّ لأىّ دراسة علمية للتطور الاجتماعىّ للبشر: التمييز بين مجتمعات يحصل فيها البشر على معاشهم من خلال جمع التوت، والجوز، والجذور، وصيد المخلوقات البرية (ما يسمى بمجتمعات “الجمع-الصيد” أو مجتمعات “البحث عن الطعام” “foraging” societies)؛ ومجتمعات يزرع فيها البشر الأرض ويرعون قطعان الثدييات (“مجتمعات زراعية”)؛ ومجتمعات على قدر يكبر أو يصغر من الحضرنة (“الحضارة” بالمعنى الحرفى للقيام على المدن) (92). وقد مكَّن هذا بدوره إنجلس من تحدى أحكام مسبقة أرثوذكسية عديدة حول المجتمع.

ويزعم أغلب المفكرين الرجعيّين أن “المجتمعات البدائية” هيراركية بشكل ملحوظ، تحت هيمنة الذكور الوحشيين العدوانيين القتلة(93). وبما أن هذه المجتمعات كانت موجودة لفترة أطول من “الحضارة” بكثير، يقال إنه ينتج عن ذلك أن الطبيعة البشرية وحشية وعدوانية وقاتلة كذلك.  

وكان رأى إنجلس مختلفا للغاية. فقد أكد أن المجتمعات المبكرة كانت منظمة على أسس مختلفة تماما عن المجتمعات الطبقية، مستخدما كنموذج له وصف مورجان عن الإيروكوا Iroquois فى أمريكا الشمالية. ولم تكن هناك ملكية خاصة عندهم ولا انقسام إلى طبقات. ولم توحِّدهم دولة بمعنى “سلطة عامة محدَّدة منفصلة عن مجموع أولئك المعنيين فى كل حالة”. وبدلا من ذلك، كانوا منظمين من خلال تجمعات ممتدة، ومتشابكة من ‘قربى الدم’” (أىْ من أشخاص أقارب لبعضهم البعض، أو يعتقدون ذلك على الأقل) – تجمعات أطلق عليها إنجلس اسم چنتيز (جمع: چينز) [مجموعة عائلات ينحدر أفرادها من سلف ذكورى مشترك] أو “عشائر”، أو “قبائل”، أو “أخويات” ويطلق عليها الأنثروپولوچيون الحديثون عادة اسم “بَدَنات” lineages (ج: بَدَنة) [جماعة قرابة ذات سلف مشترك – المترجمة]: 

هذا التكوين العشائرى رائع فى كل بساطته الشبيهة ببساطة الأطفال. كل شيء يجرى بسلاسة بدون جنود، أو رجال درك، أو شرطة (پوليس)؛ بدون نبلاء، أو ملوك، أو حكام، أو أمراء الشرطة، أو قضاة؛ بدون سجون وبدون محاكمات. وكل الخصومات والنزاعات يقوم بتسويتها مجموع أولئك المعنيين جميعا … ورغم أن هناك شئونا مشتركة عديدة أكثر مما فى الوقت الحاضر – تقوم بإدارة الأسرة الحيازية بصورة مشتركة وشيوعية عدة عائلات، والأرض ملكية قبلية، حيث يتم بشكل مؤقت فقط تخصيص الحدائق الصغيرة للأسرة – وكان ما يزال الأمر لا يحتاج إلى أىّ قطعة صغيرة من آلتنا الإدارية الضخمة المعقدة.

ولا يمكن أن يكون هناك فقراء ومحتاجون – تعرف الأسرة الحيازية الشيوعية الطابع و”الچينز” مسئوليتهما تجاه كبار السن والمرضى وأولئك المعاقين بسبب الحرب. والجميع أحرار ومتساوون، بما فيهم النساء. ولا يوجد بَعْدُ مجال للعبيد ولا، كقاعدة، لإخضاع قبائل أجنبية …

هكذا كان البشر والمجتمع البشرى قبل ظهور التقسيمات الطبقية …(94). 

وقد أيدت الدراسات الحديثة لمجتمعات الصيد-الجمع والمجتمعات الزراعية المبكرة الباقية المحتوى الأساسىّ لتفسير إنجلس. إذْ تعيش شعوب الصيد-الجمع فيما يسمى عادة ﺒ “مجتمعات الزُّمر” “band societies” [المجموعات الصغيرة البسيطة البنية الاجتماعية]” – التى تقوم على مجموعات ضيقة مفتوحة من 30 أو 40 شخصا والتى قد تدخل، من حين لآخر، مع مجموعات أخرى فى تجمعات أكبر تصل قوتها العددية إلى مائتىْ شخص. ولا توجد قيادة رسمية، وناهيك بالتقسيم الطبقى داخل هذه المجتمعات. 

وكان اتخاذ القرارت الفردية ممكنا لكل من الرجال والنساء، فيما يتعلق بشئونهم الروتينية اليومية … والرجال والنساء على السواء أحرار فى حسم الطريقة التى سيقضون بها كل يوم: سواء الذهاب إلى الصيد أو الجمع، ومع مَنْ(95) … 

ولم يكن هناك وصول متمايز إلى الموارد من خلال الملكية الخاصة للأرض ولا تخصُّص فى العمل أكثر من ذلك الخاص بالنوع [الذكر والأنثى] … وكان المبدأ الأساسىّ لمجتمعات الزُّمَر المساواتية يتمثل فى أن الناس كانوا يتخذون القرارات حول الأنشطة التى كانوا مسئولين عنها(96). 

يتمتع الأعضاء الأفراد لمجتمعات الزُّمَر بمستوى من الاستقلال الذاتىّ بشكل أكبر بما لا يقاس من جماهير الناس فى المجتمعات الطبقية. غير أن هذا غير مصحوب بالأنانية فى علاقاتهم ببعضهم البعض. وعلى العكس، يكون التركيز على الكرم، على مساعدة الأفراد لبعضهم البعض: 

لا يتم مطلقا استهلاك الطعام بصورة منفردة من جانب عائلة واحدة: يجرى دائما تقاسُمُه بين أعضاء مجموعة أو جماعة معيشية … ويتلقى كل عضو فى المعسكر نصيبا منصفا … وكان مبدأ التشارُك المعمَّم هذا هو ما تؤكده التقارير عن مجتمعات الصيد-الجمع فى كل قارة وفى كل نوع من البيئة(97). 

وهناك ازدراء شديد جدا لمفاهيم المنافسة التى تعتبر أمرا مسلَّما به فى مجتمعنا. وكما يخبرنا ريتشارد لى عن شعب !كونج !Kung (98) فإن شعب صحراء كالاهارى (الذين يطلق عليهم اسم “البوشمان” Bushmen): 

!كونج شعب مساواتىّ بشدة، وقد طوروا مجموعة من الممارسات الثقافية المهمة للحفاظ على هذه المساواة، أولا عن طريق الحد من أهمية الغطرسة والتفاخر، وثانيا عن طريق مساعدة أولئك الذين لم يحالفهم الحظ ليعودوا إلى الدخول فى اللعبة … ويتم تشجيع الرجال على الصيد بأقصى قدر يستطيعونه، ولكن السلوك الصحيح للصياد الناجح هو التواضع وعدم التفاخر(99). 

ويخبرنا أحد أفراد !كونج: 

نفترض أن رجلا يصطاد. إنه لا يجب أن يعود إلى البيت ويعلن مثل فَشَّار. “قتلت فريسة كبيرة فى الغابة!” يجب أولا أن يجلس فى صمت حتى آتى أنا أو شخص آخر ويصل إلى ناره ويسأل “ماذا فعلت اليوم؟” ويجيب بهدوء، “آه، أنا لا أُجيد الصيد. لم أر شيئا على الإطلاق … ربما مجرد فريسة صغيرة”. ثم أبتسم أنا، لأننى أعرف أنه قتل فريسة كبيرة(100). 

وقد لاحظ شخص يسوعى مبكر عن شعب صيد-جمع آخر، هو شعب إينو “الجبليين” فى كندا أن: “الطاغيتين اللذين يذيقان كثيرين من إخوتنا الأوروپيين المعاناة والعذاب لا يسودان فى غاباتهما الضخمة – أعنى الطموح والجشع … وحيث إنهم راضون بالكفاف، لم يبع أحدهم نفسه للشيطان للحصول على ثروة”(101). وليس هناك زعماء أو رؤساء فى مثل هذه الزُّمَر. وهكذا كان أقزام مبوتى Mbuti فى الكونغو: 

لم يكن لديهم زعماء مطلقا … وفى كل جانب من جوانب حياة الأقزام ربما كان هناك رجل أو رجلان أو امرأة أو امرأتان كانوا أكثر بروزا من آخرين، ولكنْ غالبا لأسباب عملية معقولة … كانت المحافظة على القانون شأنا تعاونيا … وكان يتم التعامل مع الجرائم الأكثر خطورة، مثل السرقة، من خلال علقة ساخنة كانت تُمارَس بشكل تعاونى من جانب كل مَنْ يشعرون بالميل إلى المشاركة، ولكن فقط بعد أن يشارك المخيم بأكمله فى مناقشة القضية … والحقيقة أن الأقزام يكرهون السلطة الشخصية ويتجنبونها (102). 

وبين شعب !كونج “توجد بالفعل نماذج للقيادة”، ولكنها مختلفة جدا عن السلطة كما نعرفها. وفى المناقشات تميل آراء بعض الأفراد إلى أن تكون مؤثرة أكثر من أخرى. “يكون أولئك الأفراد فى العادة أشخاصا كبار السن عاشوا هنا أطول فترة … ولديهم بعض الملكات الشخصية الجديرة بالذكر كمتحدثين أو مجادلين أو متخصصين طقسيين أو صيادين”. ولكنْ، 

مهما كانت مهاراتهم فإنه ليس لدى قادة !كونج سلطة رسمية. إنهم يستطيعون فقط إقناع الآخرين، لكنهم لا يفرضون إرادتهم على الآخرين مطلقا … ولا أحد منهم متغطرس أو متسلِّط أو متفاخر أو منعزل. ومن بين مواضعات !كونج، أن هذه السمات تَحرم الشخص تماما من أن يكون قائدا … وهناك سمة أخرى لا توجد قطعا بين قادة المخيمات التقليدية وهى الرغبة فى الثروة أو حب التملك(103).

والأهم من هذا – وكان إنجلس مخطئا فى هذه النقطة – أنه لم يكن هناك سوى القليل جدا من المجهود الحربى بين الصيادين-الجامعين. وربما كانت هناك بين الحين والآخر صدامات بين زُمَر مختلفة، ولكنها كانت ذات أهمية هامشية(104). وبين شعب !كونج، على سبيل المثال، يوجد تصوُّر تكون بموجبه بئر ماء ومساحة الأرض التى حولها “ملكًا” لمجموعة وتنتقل من جيل إلى جيل. غير أن مجموعات أخرى قد تستخدم الأرض، شريطة أن تطلب الإذن. “والنزاعات بين المجموعات على الطعام ليست غير معروفة بين شعب !كونج، ولكنها نادرة …”(105). 

وتدحض مثل هذه الأدلة تماما المزاعم القائلة بأن كامل ما قبل تاريخ البشرية، من زمن الأوسترالوپيثيسينين وصولا إلى ظهور القراءة والكتابة، قام على “واجب القتل”، وبأن “زُمَر الصيد-الجمع تقاتلت على آبار الماء التى كانت تميل إلى الاختفاء تحت الشمس الأفريقية الحارقة”، وبأننا جميعا “أبناء قابيل”، وبأن” تاريخ الإنسان ظل يدور حول تطور الأسلحة المتفوقة … بحكم الضرورة الچينية”، وبأنه، لهذا، فإن مظهرا براقا فقط “للحضارة” يحجب “الابتهاج بالمجزرة ، والعبودية، والإخصاء، وأكل لحوم البشر” بصورة فطرية(106). 

ولايمكن فهم خصائص “الشيوعية البدائية” عند مجتمعات الزُّمَر بالنظر إلى الطريقة التى يدبرون بها معيشتهم. والحجم الطبيعى للزُّمَر مقيد بالحاجة إلى الحصول على الطعام الكافى كل يوم فى منطقة مخيمهم. وداخل هذه المنطقة سوف يتحرك الأعضاء الأفراد بصورة مستمرة، من مصدر للطعام النباتى إلى مصدر آخر أو فى مطاردة الحيوانات. وسيكون على الزُّمرة بأكملها أن تتحرك بصورة متواصلة، عندما يتم استنفاد إمدادات الطعام فى موقع بعينه. وتحول الحركة المستمرة دون أى تراكم للثروة لأى عضو فى الزُّمرة، حيث يجب أن يكون كل شيء سهل الحمل. وفى معظم الأحيان قد يكون لدى فرد رمح أو قوس وسهم، وحقيبة للحمل أو القليل من الحلىّ الصغيرة. “والقيمة القصوى هى حرية الحركة … الرغبة فى التحرر من العبء والمسئوليات التى قد تتعارض مع الوجود المتنقل المجتمع”(107).

وينتج التركيز على قيمة الكرم عن الطريقة التى يعتمد عليها الصيادون والجامعون بشكل مكثف على بعضهم البعض. ويقوم الجامعون فى العادة بالإمداد ﺒالمصدر المعتمد عليه أكثر للطعام، ويقوم الصيادون بالإمداد بالمصدر الأكثر قيمة. ولهذا يعتمد أولئك الذين يتخصصون فى الصيد من أجل بقائهم اليومى على كرم أولئك الذين يجمعون، على حين يعتمد أولئك الذن يتخصصون فى الجمع – وأولئك الذين لا يكونون ناجحين مؤقتا فى الصيد – على إضافات ذات قيمة إلى نظامهم الغذائى من أولئك الذين ينجحون فى قتل الحيوانات. كذلك فإن الصيد نفسه لا يتألف فى العادة من الفرد الذكر البطل الذى يتوجه للعودة بصيد، بل بالأحرى من مجموعة من الرجال (وأحيانا مع المساعدة الإضافية للنساء والأطفال) يعملون معا لمطاردة واصطياد فريسة.

وهناك دائما تقريبا تقسيم للعمل فى هذه المجتمعات بين الرجال والنساء، حيث يقوم الرجال بمعظم أعمال الصيد والنساء بمعظم أعمال الجمع. وهذا لأن امرأة حاملا أو تُرضع طفلا لا يمكن أن تشارك فى الصيد إلا بتعريض نفسها للأخطار – مهدِّدة بذلك تكاثر الزُّمرة. غير أن هذا التقسيم لا يعادل سيادة الذكور كما نعرفها فى مجتمعنا الحالى. ويشارك كل من الإناث والذكور فى القرارات الرئيسية، مثل متى يُنقل المخيم أو ما إذا كان ينبغى ترك زُمرة ما والانضمام إلى أخرى. والوحدة الزوجية نفسها منظمة بصورة فضفاضة. ويمكن للأزواج فى أىّ مجتمع من هذه المجتمعات أن ينفصلوا دون أن يعرِّضوا فجأة مصدر رزقهم هم أو أطفالهم للخطر(108).

وهكذا كان إنجلس مُحقا فى الإصرار على أنه لم تكن توجد سيطرة منهجيّة على النساء فى هذه المجتمعات. ومن ناحية أخرى فإن من المحتمل أنه كان مخطئا فى تفصيلة واحدة مهمة – لقد بالغ فى تقدير الدور الذى لعبته البَدَنات فى معظم مجتمعات الصيد-الجمع. ذلك أن زُمَر الصيد-الجمع الباقية فضفاضة ومرنة. فالناس أحرار فى دخولها وتركها. وهم غير موجَّهين بإحكام بمجموعات بَدَنات. مع أن أعضاء زُمرة ما يكونون غالبا على قرابة ببعضهم البعض ولديهم، من خلال التزاوج، روابط فضفاضة مع زُمَر أخرى(109).

وكان اعتقاد إنجلس فى قوة الچينز أو العشيرة بين “المجتمعات البدائية” الموجودة كلها نتيجة للمعرفة الأنثروپولوچية فى زمانه. فقد اعتمد بصفة رئيسية على وصف مورجان من المصادر الأصلية عن مجتمع الإيروكوا ووصفه من المصادر الثانوية عن المجتمع الپولينيزى – هذين المجتمعين الزراعيين (أو البساتينيين) المبكرين – أكثر من مجتمعات الصيادين-الجامعين، التى لم يعرف عنها لا إنجلس ولا مورجان الكثير جدا.

والحقيقة أن مجتمعات الصيد-الجمع الموجودة حاليا ليست مماثلة بالضرورة لتلك التى عاشت فيها كل البشرية ذات يوم. ولشعوب مثل !كونج وموبوتى والإسكيمو والسكان الأستراليين الأصليين، تاريخ بطول تاريخنا نحن – ولا بد أن تاريخهم وقع فى البداية تحت تأثير مجتمعات زراعية مجاورة ثم، بشكل صادم، بالاستعمار الغربى(110). ولهذا يمكن أن تكون نماذجهم للحياة الاجتماعية مختلفة من نواحٍ عديدة عن تلك الخاصة بأسلافنا المشتركين. وربما كانت لهذه المجتمعات أبنية بَدَنات قوية، كما اعتقد إنجلس، غير أننا لا نملك دليلا يثبت ذلك.

على أننا فيما يتعلق بمسألة المساواة، نقف على أرض أصلب كثيرا. ولا بد من أن التشديد على التقاسُم، وقيم التعاون القوية، والتكوين المرن للزُّمَر قد ميز حياة أسلافنا على مدى عشرات الآلاف من السنين، تماما كما يميز مجتمعات الصيد-الجمع الحديثة. وتتلائم هذه القيم تماما مع حاجات حياة الصيد-الجمع المتنقلة. وهى ليست أنواع القيم التى توجد فى المجتمعات الطبقية، وبالتالى فإنه لا يمكن أن يكون وجودها بين مجتمعات الصيد-الجمع الحالية نتيجة ضغوط خارجية. ويشدِّد لى عن حق تماما، على أن “الدولة الرأسمالية بكل قوتها الاقتصادية والعسكرية واحتكارها تقريبا للأجهزة الأيديولوچية، لم تنجح فى استئصال جيوب لا تحصى ولا تعد للمشاعية (الشيوعية البدائية)”(111). ويشير هذا فى حد ذاته إلى الشيوعية البدائية باعتبارها مرحلة أسبق على صعود المجتمع الطبقى، باعتبارها كل البشرية فى مرحلة من مراحل تاريخنا.

ولهذا أهمية هائلة لأى مناقشات حول “الطبيعة البشرية”. ذلك أنه إذا كانت مثل هذه الطبيعة موجودة فإنها قد تشكلت عبر الانتخاب الطبيعى، خلال العهد الذى يبلغ طوله 2.5 مليون سنة من الصيد والجمع بين الظهور الأول ﻠﻠ هومو هابيلس والزراعة الأولى للمحاصيل على يد الإنسان العاقل بحلول الألفية الثامنة قبل الميلاد. و لى محق تماما فى الإصرار على أن:

التجربة الطويلة للتقاسُم المساواتىّ هى التى شكلت ماضينا. ورغم تكيُّفنا الظاهر مع الحياة فى المجتمعات الهيراركية، ورغم سجل المسار الكئيب فى الواقع لحقوق الإنسان فى أجزاء عديدة من العالم، هناك علامات على أن البشرية تحتفظ بإحساس راسخ بالمساواتية، وبالتزام راسخ بمعيار العون المتبادل، وبإحساس راسخ بالجماعة(112). 

المزارعون الأوائل 

يعيش أكثر من 99.9 فى المائة من البشرية اليوم فى مجتمعات تشكلت نتيجة تغيُّر بدأ منذ حوالى 10 آلاف سنة. وكان هذا التغير يشمل بناء قرى مستقرة، واستخدام مجموعات أدوات جديدة أكثر تنوعا وأكثر تعقيدا من العظم والخشب والحجر (ومن هنا مصطلح neolithic [نيوليثى] الذى يعنى the new stone age [العصر الحجرى الحديث])، واستخدام الأوانى الطينية للتخزين والطبخ، وربما وهو الأهم الفلاحة الأولى للتربة.

ويشار اليوم إلى هذا التغيُّر فى العادة بمصطلح جوردون تشايلد “الثورة النيوليثية/ثورة العصر الحجرى الحديث”. وقد اعتبرها إنجلس مساوية للانتقال من “الوحشية” إلى “البربرية”. وأكد أنها بدأت مع إدخال الفخار ثم استمرت فى نصف الكرة الشرقى (أوراسيا وأفريقيا) “مع استئناس الحيوانات”، وفى الأمريكتين “مع زراعة النباتات الصالحة للطعام بوسائل الرى ومع استخدام طوب الطمى (قراميد مجففة فى الشمس) والحجر للبناء”(113). وفى نصف الكرة الشرقى ولكنْ ليس فى الأمريكتين، أعقبت ذلك “مرحلة عليا من البربرية” … “بدأت مع صهر الحديد”. وهنا نلتقى لأول مرة بالنصل الحديدى للمحراث الذى تجره الماشية، وهذا ما جعل من الممكن زراعة الأرض على نطاق واسع و، فى شروط ذلك الزمن، زيادة غير محدودة تقريبا فى وسائل العيش. و”فى علاقة بهذا نجد أيضا إزالة الغابات وتحويلها إلى أراضٍ صالحة للزراعة ومراعٍ – وهو مرة أخرى ما كان يمكن أن يكون مستحيلا بدون الفأس والمعزقة الحديدييْن. ولكنْ جاءت مع هذا أيضا زيادة سريعة فى السكان والكثافة السكانية فى مساحات صغيرة …”(114). وقد أرست هذه التغيرات فى الإنتاج خلال “البربرية”، كما واصل إنجلس مؤكدا، الأساس لأول تطور للمجتمع الطبقى:

إلى مَنْ كانت تنتمى هذه الثروة الجديدة؟ لا شك فى أنها كانت تنتمى فى الأصل إلى الچينز. غير أن الملكية الخاصة لقطعان الماشية لا بد أنها تطورت فى مرحلة مبكرة … وعلى أعتاب التاريخ الثابت نجد فى كل مكان أن قطعان الماشية هى بالفعل الملكية المنفصلة لرؤساء العائلة، تماما بنفس الطريقة التى كانت بها كذلك المنتجات الفنية للبربرية، والأوانى المعدنية، والمنتجات الترفية و، أخيرا، الماشية البشرية – العبيد.

ومن الآن أيضا تم اختراع العبيد أيضا. وكان العبد بلا قيمة [حيث] لم تكن قوة عمل الإنسان تُدرّ فى هذه المرحلة أىّ فائض له وزنه فوق تكلفة إعالته. ومع إدخال تربية الماشية، والأشغال المعدنية، والنسج و، أخيرا، الزراعة الحقلية، تغيَّر هذا …(115).

وكان تفسير إنجلس خاطئا فى عدد من النقاط المهمة. ذلك أن المجتمع الطبقى والحضارة تطورا بالفعل فى أمريكا الوسطى والجنوبية كما فى أوراسيا وأفريقيا. وقد بدأت زراعة الأرض (رغم عدم استخدام المحراث)، تقريبا فى نفس الوقت الذى جرى فيه استئناس الحيوانات، وليس بعده. ولم يكن الشكل الأول للمجتمع الطبقى هو العبودية، التى يبدو أنها كانت شكلا هامشيا لاستغلال الطبقات المضطهدة حتى العصر الإغريقى-الرومانى. غير أن الصورة الكلية التى يقدمها عن ظهور المجتمع الطبقى صحيحة من الناحية الأساسية.
لقد مر التنظيم الكلى للمجتمع بتغيُّر جذرى حيث طورت المجموعات البشرية أساليب جديدة للحصول على موارد عيشها. ففى أزمنة مختلفة انتقلت من الصيد-الجمع إلى الزراعة، بشكل مستقل عن بعضها البعض (فى أقاليم عديدة من الأمريكتين، وثلاث مناطق مختلفة على الأقل فى أفريقيا، ومرتفعات العراق، ووادى الإندوس، والهند الصينية، ووديان وسط پاپوا–غينيا الجديدة، والصين(116)). 

وحيثما ذهب التغيُّر التراكمى إلى مدى أبعد أدى إلى أول انقسام إلى طبقات، وإلى الدول الأولى، وإلى أول اضطهاد منهجى للنساء. غير أن التغيُّر الكامل حدث على مدى فترة طويلة جدا من الزمن – أربعة آلاف أو خمسة آلاف سنة فى الحالة المدروسة أكثر، أىْ حالة بلاد ما بين النهرين (العراق الحالى). وفى معظم المجتمعات لم يذهب التغير مطلقا بعيدا إلى هذا الحد، إلى حد أنه حتى منذ قرن ونصف كان ملايين الناس ما يزالون يعيشون فى مجتمعات زراعية غير طبقية.

وقد اقتضى الشكل الأول للزراعة (المسمى فى العادة ﺒ “البستنة”) تنظيف الأرض (عن طريق قطع الغابات والأدغال بالفئوس ثم إحراق الباقى)، ثم زرع وحصد الحبوب أو الدرنات، باستخدام معزقة أو عصا للحفر. وفى العادة كانت خصوبة الأرض تغدو مستنفدة بعد عامين. وكان يُسمح بالعودة إلى البرية ويتم تنظيف مساحة جديدة للزراعة. ولم يكن إنتاج المحصول من مساحة بعينها من الأرض من زراعة “القطع والحرق” المتنقلة هذه تصل تقريبا إلى حجم الزراعة من الأشكال اللاحقة القائمة على الرى أو المحراث، ولكنه كان أكبر إلى حد بعيد من ذلك الذى يتم الحصول عليه من معظم أشكال الصيد والجمع.

وكانت لهذا فى حد ذاته عواقب اجتماعية مباشرة. فلم يعد الناس بحاجة إلى التنقل طوال الوقت، كما كان الحال مع الصيد والجمع؛ والواقع أن التنقل بين البذر والحصاد كان سيغدو مدمرا. وللمرة الأولى، صار من المعقول صُنْع الأوانى الطينية الثقيلة وتخزين الأشياء فيها. وكان إمداد الطعام المحلى كافيا فى أغلب الأحيان لإعالة خمسة أو عشرة أضعاف الناس أكثر من قبل، الأمر الذى سمح بالحياة القروية للمرة الأولى.

وحدثت أيضا، بالضرورة، تغيرات فى التركيب الداخلى لكل مجموعة اجتماعية. من ناحية، صارت الأسرة الحيازية، أقل اعتمادا على التعاون مع باقى المجموعة للحصول على موارد عيشها: كانت هناك حاجة إلى التعاون على النطاق الواسع للمجموعة فى تنظيف الأرض، غير أن كل أسرة كان يمكن أن تبذر وتحصد قطعة الأرض الصغيرة الخاصة بها التى قامت بتنظيفها بنفسها. ومن ناحية أخرى كان لا مناص من أن تكون هناك طرق لتأمين تقديم العون من الأسر التى كان لديها قدر كبير من العمل ولكنْ القليل من الأفواه إلى تلك التى لديها قدر كبير من الأفواه ولكنْ القليل من العمل – خاصة تلك التى كان لديها الكثير من الأطفال الصغار(117). ذلك أن الأطفال كانوا يمثلون إمداد العمل فى المستقبل للقرية ككل، وإنْ لم تتم العناية بهم بالقدر الكافى فإنه كان لا مناص من أن تنقرض المجموعة نفسها فى نهاية المطاف. 

والواقع أن الانتقال إلى الزراعة قد أحدث تغيُّرا مهما جدا فى حاجات المجموعة فيما يتعلق ﺒ الإنجاب reproduction. وفى ظل الصيد والجمع، أدت الحاجة إلى حمل الأطفال، فى كل من الجولة اليومية للجمع وفى الانتقالات الدورية لكل المخيم، إلى تقييد صارم لمعدل المواليد. ولم تكن النساء قادرات على تحمُّل أن يكون لديهن أكثر من طفل واحد يحتاج إلى الحمل فى وقت واحد، ولهذا كان يتم الفصل بين الولادات بثلاث أو أربع سنوات (إذا اقتضت الضرورة من خلال الامتناع الجنسى، أو الإجهاض، أو قتل المولود). أما مع الحياة القروية المستقرة القائمة على الزراعة، على النقيض، فإن الطفل كان لم يَعُدْ بحاجة إلى الحمل بعد أن يبلغ عمره عدة أشهر، بل إنه كلما زاد عدد الأطفال، كانت تزيد مساحة الأرض التى يمكن تنظيفها وزراعتها فى المستقبل. وصار الإمداد بالطعام واللوازم الأخرى من أجل الإنجاب شيئا رئيسيا لديناميات المجتمع.

وهناك شيء آخر كان ينبغى توفيره إذا كان للمجموعة أن تزدهر – آلية جديدة ما للسيطرة الاجتماعية. وكان يمكن لنزاع كبير فى زُمرة صيد وجمع أن يُحَلّ ببساطة عن طريق انشقاق الزُّمرة عن طريق تركها من جانب أفراد. وكان من الصعب أن يكون هذا الخيار مفتوحا بالنسبة لمجموعة من المزارعين بمجرد قيامهم بتنظيف وزرع أرضهم. ولم يكن يمكنهم الاستمرار فى البقاء بعد الجدال، والصراعات، وانتهاكات المعاير الاجتماعية إلا إذا كانت هناك بنية فوقية للسيطرة أكثر تطورا بكثير من تلك القائمة بين مجتمعات الصيد-الجمع.

وهذا هو ما يمكن أن يفسر الدور الأكثر قيمة للبَدَنات. ذلك أنها تربط الناس فى المجتمعات الزراعية المبكرة بصورة أوثق بكثير من معظم مجتمعات الصيد-الجمع. فالناس يكونون قد بلوروا بوضوح مجموعة من الحقوق والواجبات إزاء أعضاء الأسر المعيشية الأخرى الذين يرتبطون بهم، إما بشكل مباشر من خلال القرابة أو بشكل غير مباشر من خلال المصاهرة أو روابط المجموعة العمرية. وكان يمكن للأعضاء الذين لا يملكون ما يكفى من الطعام أن يتوقعوا الحصول عليه من الذين يُسمّون “أعمامهم أو أخوالهم” أو “أولاد أعمامهم أو أولاد أخوالهم” فى بَدَنتهم (وليس فقط الأقارب المباشرون، بل أيضا أولاد أعمامهم وأخوالهم من الدرجة الثانية والثالثة وحتى الرابعة وهكذا). وقد تمثلت طريقة تحقيق الهيبة الاجتماعية فى امتلاك فائض كافٍ من الطعام تحت تصرف المرء لتمكينه من أن يكون بالغ العطاء.

وتكفل البَدَنات، من خلال منعها أن يجوع أىّ فرد من الأسرة المعيشية، إنجاب المجموعة ككل. غير أن هذا ليس كل شيء. فمثلما صارت مسئولة عن ممارسة السيطرة الاجتماعية على أعضائها، صارت أكثر تميُّزا بالطابع الرسمى بصورة أكبر بكثير فى طريقة عملها. ويبدأ اتخاذ القرار يتركز فى أيدى بعض أعضاء البَدَنات – وفى العادة أولئك الذين يكونون بين الأكبر سنا. وفى مجتمعات عديدة تمضى الأشياء إلى مرحلة أبعد بحيث تصير بعض البَدَنات ذات هيبة أكثر من أخرى. ويمكن حتى الوصول إلى المرحلة، كما فى تونجا Tonga حتى قبل الاتصال بالأوروپيين، حيث يكون الأشخاص القياديون (“الرؤساء”) فى البَدَنات ذات الهيبة قادرين على أن يتخلصوا من عبء العمل المنتج ويبدأوا فى تحويل أنفسهم إلى طبقة مستغلِّة(118).

المجتمعات الهيراركية الأولى 

لماذا حدث هذا التمايُز؟ ويتفق التفسير الأكثر احتمالا مع الأسس التالية: بمجرد أن تستقر مجموعات بشرية فى مكان واحد فإنها تستطيع أن تبدأ فى تخزين كميات كبيرة من الطعام وأشياء أخرى ذات قيمة. وسوف يكون بمستطاع تلك البَدَنات الأكثر نجاحا فى هذا – حتى إذا كان هذا لأسباب عارضة بصورة خالصة، مثل أن تكون أكثر حظا بما يكفى لزراعة الأرض التى تكون أكثر خصوبة من المتوسط – أن تقدم هبات أكبر من بَدَنات أخرى، وأن تكتسب هيبة أكبر. و، بصورة مماثلة، ستكون أُسَر معيشية بعينها داخل كل بَدَنة قادرة على أن تصير أكثر ثراءً من أخرى وستكسب من جديد هيبة أكبر. وتشجع نفس قِيَم الكرم الماثلة فى صميم بنية مثل هذا المجتمع على تمايز فى المكانة الاجتماعية. 

ويؤدى هذا إلى ظهور ما يسميه الأنثروبولوچيون “الرجال الكبار”، أىْ الأفراد الذين يكتسبون الهيبة الاجتماعية بسبب الثروة التى تحت تصرفهم. على أنه، وهذا مهم جدا، لا يستخدم هؤلاء الأفراد هذه الثروة لتحقيق رفاهيتهم الخاصة. إنهم يحققون الهيبة الاجتماعية لأنهم على وجه الدقة يعطونها لآخرين.

وفى أكثر أشكاله تطورا، ينشأ نظام كامل لتجميع الثروة والتخلِّى عنها. ويستخدم “الرجال الكبار” مكانتهم الاجتماعية ليجمعوا فى أيديهم أىّ فائض يُترك فى أيدى أعضاء آخرين فى بَدَنتهم. غير أنهم عندئذ يعززون هيبتهم الاجتماعية بإرجاع الفائض مرة أخرى من خلال مهرجانات احتفالية كبيرة إلى أولئك الذين يرتبطون بهم بشكل مباشر أو غير مباشر. ويمكن لبَدَنة بعينها أن ترفع هيبتها الاجتماعية فوق الهيبة الاجتماعية الخاصة ببَدَنات أخرى، ترتبط بها من خلال المصاهرة، عبر عمل مهرجانات تلك البَدَنات.

وهذا نظام يتمتع فيه بعض الأفراد وبعض البَدَنات بهيبة اجتماعية أعلى من أخرى، حيث تنتهى فى بعض الحالات إلى تأسيس حكام وراثيين وبصفة رئيسية بَدَنات حاكمة. غير أن هذا لم يكن نظاما طبقيا، يستهلك فيه قسم من المجتمع الفائض الذى ينتجه قسم آخر. ورغم تأسيس هيراركيات وراثية أو شبه وراثية على أساس الهيبة الاجتماعية، يبقى نمط الإنتاج مشاعيا، مع نماذج استهلاكية تتسم بالمساواتية والتقاسُم.

ويلاحظ ريتشارد لى أن “عددا كبيرا من المجتمعات الرعوية ومجتمعات البستنة فى العالم الثالث تشترك فى نفس السمات” الخاصة ﺒ “مفاهيم الملكية المشاعية” مثل مجتمعات الجمع-الصيد. “وفى رئاسات قبلية عديدة وصفها الأنثروبولوچيون فى أفريقيا، وجزر المحيط الهادئ ومنخفضات جنوب أمريكا، نلاحظ، على سبيل المثال، أن كثيرا من الجزية التى يتلقاها الحكام يُعاد توزيعها على الرعايا”، وتقيِّد وتُوازن سلطة الحكام قوى الرأى العام والمؤسسات الشعبية”(119). وهكذا فبين شعب النامبيكوارا Nambikwara فى أمريكا الجنوبية:

ليس على الزعيم الحاكم أن يعمل جيدا فقط. إن عليه أن يحاول، وستتوقع منه مجموعته أن يحاول، أن يعمل أفضل من الآخرين … ورغم أنه لا يبدو أن الزعيم الحاكم فى مركز متميز من وجهة النظر المادية، إلا أنه يجب أن تكون تحت سيطرته كميات كافية من فائض الطعام، والأدوات، والأسلحة، والحلىّ … وعندما يرغب أو يحتاج فرد، أوعائلة، أو زُمرة بأكملها، إلى شيء ما، فإن الالتجاء يكون للحاكم. إذن، فالكرم من المتوقع أن يتسم به الحاكم الجديد(120). 

ويمكن أن يؤدى هذا حتى إلى أن يمرّ القائد بوقت عصيب من الناحية المادية أكثر من أولئك الذين يحكمهم. هكذا فإن قائد منتدًى بين شعب بوساما Busama غينيا الجديدة “يكون عليه أن يعمل بجدّ أكثر من أىّ شخص آخر لكى يحافظ على مخزونه من الطعام … ويكون عليه أن يكدح طول اليوم – “ويداه لا تتحرران مطلقا من الأرض، وجبهته تتصبب عرقا بشكل مستمر”(121). وفى مثل هذه المجتمعات تظل قِيَم أساسية عديدة قريبة إلى قِيَم مجتمعات الصيد-الجمع أكثر منها إلى القِيَم التى نفترض وجودها فى المجتمعات الطبقية. وهكذا، لاحظ مراقب فى أوائل القرن الثامن عشر لمجتمعات البستنة عند قبائل الإيروكوا أنه “إذا قابل كوخ من الإيروكوا الجياع كوخا آخر لم يستنفد المواد الغذائية بصورة كاملة، فإن الأخير يتقاسم الطعام مع القادمين الجدد … دون انتظار أن يُطلب منه ذلك، رغم أن أعضاءه يعرِّضون أنفسهم بذلك لنفس مخاطر الهلاك مثل أولئك الذين ساعدوهم …”(122). وتظهر قصة مشابهة فى دراسة كلاسيكية عن شعب النوير الرعويين(123).

على أن هذه القيم المشاعية والمساواتية تواجه غالبا بدايات التحدى، مع محاولة الأسرة المعيشية التهرب من التزاماتها الأوسع بطريقة لا تحدث بين الصيادين-الجامعين. وتوجد غالبا – مختبئة تحت الأيديولوچية المشاعية المساواتية – ميول أولية لوضع حاجات الأسرة المعيشية فوق حاجات المجتمع. وعلى سبيل المثال فإن البيمبا Bemba فى شرق أفريقيا سوف يخفون البيرة عندما تحدث زيارة من قريب مُسنّ لهم، قائلين له “واأسفاه، نحن فقراء تعساء، وليس لدينا شيء نأكله”(124). وبين شعب المورى Maoris هناك قول مأثور: “اِشْوِ فأرك (وهو طبق مفضل) وعليه فروه، حتى لا يزعجك شخص ما”(125). وبعد أن أدى إعصار إلى نقص حاد فى الطعام بين شعب تيكوپيا Tikopia – وهو شعب مشهور بكرمه – بدأت الأسرة المعيشية تتجنب أن تأكل عندما يكون أشخاص كانوا يعتزمون تقاسُم الطعام معهم حاضرين(126). 

وليس هذا السلوك المتناقض نتيجة نوع من”طبيعة بشرية” أنانية بصورة متأصلة، بل هو تناقض ماثل فى صميم بنية نظام الإنتاج ذاته. كذلك فإن الإنتاج نفسه لا يعتمد على التعاون من جانب المجموعة بأكملها، كما هو الحال فى مجتمعات الصيد-الجمع، بل يقوم إلى حد كبير على العناية بالمحاصيل والحيوانات من جانب أفراد الأسرة المعيشية(127). وتهتم البَدَنة والمجموعة بالتوزيع وإعادة الإنتاج، بدلا من الإنتاج. وكما تعبِّر كارين زاكس Karen Sachs، هناك “تناقض” فى هذا “النمط للإنتاج” بين “علاقات الإنتاج” التى تقوم على أساس البَدَنة و”قوى الإنتاج” التى تعتمد بصفة رئيسية على الأسرة المعيشية(128).

ويعتمد بقاء المجتمع على كل من الاهتمامات الفردية الخاصة للأُسَر المعيشية التى تعزز الإنتاج والتقاسم التعاونى الغيرى داخل المجموعة الذى يقوم بتأمين إعادة الإنتاج التشاركى. ويعنى هذا أن الأسرة المعيشية تُبْدِى المقاومة لالتزاماتها تجاه المجتمع الأعرض فى حالة نشوء أوضاع تكون فيها حياتها هى نفسها فى خطر. إنها ليست مسألة منفعة فردية ضد الرفاهية الاجتماعية، بل هى مسألة تصادُم حاجات عنصر واحد فى نمط الإنتاج مع عناصر أخرى.

وفى العادة تنجح الأسرة المعيشية فى التوفيق بين الضغوط المتعارضة، ولا ينهار النظام. غير أنه ليس من الصعب أنْ نرى كيف يمكن لتغيرات لداخلية (تقنيات إنتاجية جديدة) أو لضغوط لخارجية (كوارث طبيعية، إنهاك الأرض، تأثير المجتمعات الأخرى) أنْ تخلق شروط أزمة حادة لا يعود فيه النظام القديم قادرا على الاستمرار، مما يؤدى بأسرة معيشية غنية ما أو بَدَنات إلى الإحجام تماما عن التزاماتها القديمة. وهكذا فإن ما كان ثروة تُوهَب للآخرين فى مقابل الهيبة الاجتماعية صارت عندئذ ثروة يجرى استهلاكها بينما يعانى الآخرون. و”فى الأشكال المتقدمة من الرئاسة القبلية … فإن ما يبدأ بقيام رئيس قبلى بالتخلى عن إنتاجه لمنفعة الآخرين ينتهى، بشكل ما، إلى أن يتخلى الآخرون عن إنتاجهم لمنفعة الرئيس”(129).

هناك تغير آخر بالغ الأهمية فى الانتقال من مجتمعات الجمع-الصيد إلى الزراعة. وللمرة الأولى صار هناك معنى لنشاط حربى منهجى. والثروة التى يجرى تخزينها هى الثروة التى يمكن سرقتها من مجموعات أخرى من المزارعين. وعلى حين أن الصدامات بين الزُّمَر المتنافسة نادرة جدا بين مجتمعات الصيد-الجمع، “يغدو النشاط الحربى المنظم بهدف الدفاع عن الأرض أو توسيعها مرضا متوطنا … بين مجتمعات البستنة”(130).

ولكن الحرب تسمح ﻠبعض الأفراد والبَدَنات باكتساب هيبة اجتماعية عظيمة لأنها تركز النهب والجزية من مجتمعات منافسة فى أيديها. وتصير الهيراركية أكثر حدة، حتى إذا بقيت هيراركية مرتبطة بالقدرة على منح أشياء إلى الآخرين. وإلى هذا الحد، يكون النشاط الحربى عاملا يفتح الباب أمام إمكانية نشوء علاقات طبقية فى مواجهة أزمة اجتماعية كبرى بعينها. 

وهكذا تقترح كريستين وارد جيلى اعتبار أن محاولات المجموعات ذات المكانة العالية من الرؤساء فى تونجا بين سنتىْ 1100 ميلادية و 1400 ميلادية للتحلل من التزاماتهم تجاه الناس ذوى المكانة المتدنية – لمحاولة تشكيل أنفسهم فى الطبقة الحاكمة – كانت نتيجة لانتصارهم فى المعركة على سكان جزر أخرى.

أصل الزراعة 

هناك مشكلة حيرت زمنا طويلا أولئك الذين درسوا الانتقال من الصيد-الجمع إلى الزراعة. لماذا قام الناس بالتغيير؟ وكان من المعتاد اعتقاد أن التغيير قد أدى بالضرورة إلى تحسينات فى حياة الناس جعلتهم يقبلونه بسهولة. غير أنه فى الوقت الحاضر هناك الكثير من الأدلة التى تدحض أىّ مفهوم بمثل هذه البساطة. وفى كثير من مجتمعات الصيد-الجمع والبستنة كان الناس يعملون أقل بالفعل وكانوا على الأقل يتغذون جيدا فى مجتمعات تقوم على الزراعة الكثيفة. وهكذا يمكن أن يبدو أن شعب !كونج فى صحراء كالاهارى عاشوا فى منطقة تخلو من أى موارد كبيرة لمواصلة حياة البشر. غير أنهم تمتعوا بنظام غذائى متوازن ومُدْخَل imput من السعرات الحرارية أكثر فى الواقع من المتوسط فى الهند الحديثة – ولم يحتاجوا إلى العمل أكثر من ثلاث أو أربع ساعات فى اليوم. ويبدو أنهم عاشوا فيما سماه مارشال سالينز Marshall Sahlins “مجتمع الوفرة الأصلى”(131). 

ويفسر هذا لماذا رفضت مجتمعات صيد-جمع كثيرة القيام بالانتقال إلى الزراعة، حتى عندما كانت على إدراك كامل لتقنيات زراعية بعينها. فقد اعتبروا الزراعة تتطابق مع عبء عمل ثقيل بصورة غير ضرورية.

وتركز تفسيرات أحدث للانتقال من مجتمعات الصيد-الجمع إلى مجتمعات زراعية بدلا من ذلك، على كيف أن تغيرات بعينها استطاعت أن تخلق توترات فى مجتمعات الصيد والجمع قبل الانتقال إلى الزراعة. وبوجه خاص، أكدت أنه ليست كل مجتمعات الصيد-الجمع فى حالة تنقُّل بشكل مستمر. وقد جد بعضها مصدرا ثابتا إلى حد ما للطعام لتغذيتهم فى مخيمات مستقرة، تتطور أحيانا إلى قرى تصل قوتها العددية إلى مئات عديدة. وينطبق هذا، على سبيل المثال، على السكان الأصليين للساحل الپاسيفيكى الشمالى الغربى لأمريكا، الذين يتغذون من إمدادات السمك الوفيرة. ومما له دلالته، أنه يوجد فى مثل هذه المجتمعات بالفعل انقسام طبقى اجتماعى ما: لأنه يمكن تخزين فائض ولأن على مجموعة اجتماعية كبيرة نسبيا أن تتماسك فإن بعض الأشخاص يحصلون على هيبة اجتماعية (ومع ذلك ليس على سلطة أو على مستويات معيشة أكثر ارتفاعا) من خلال تحقيق هذه المهام(132). على أن هناك، فى الوقت نفسه، مزايا للحياة بالنسبة لغالبية الناس أكثر من حياة مجتمعات الصيد-الجمع المترحلة. ولا يعود من الضرورى حمل الأطفال الصغار بصورة متكررة لمسافات طويلة، وبالتالى لم تعد هناك أى حاجة إلى إبعاد المسافة بين الولادات، إما عن طريق الإجهاض وقتل الأطفال أو من خلال الامتناع عن الجنس. وتقدم التجمعات الاجتماعية الدائمة الأكبر فرصا أكثر للتنشئة الاجتماعية، هذه الفرص التى تكون محصورة فى العادة بين سكان الصيد-الجمع الرحل إلى الأسابيع القليلة من العام التى تقيم فيها زُمَر مختلفة عديدة مخيماتها معا.

وإذا كانت الحياة بالنسبة إلى الصيادين-الجامعين الرُّحَّل أسهل منها بالنسبة إلى المزارعين، فإنها حتى أسهل من ذلك بالنسبة إلى الصيادين-الجامعين غير الرُّحَّل، بشرط أن يكون لديهم إمداد غذائى ضخم مستقر. وليس من المدهش أن يُؤْثر بعض الصيادين-الجامعين الرُّحَّل أسلوب الحياة الجديد وأن يكون هناك فى ظل مثل هذه الشروط نمو سكانى سريع.

غير أن أسلوب الحياة الجديد اعتمد على التوفر الفعلى لإمدادات محلية وفيرة من المواد الغذائية البرية. فإذا اختفت هذه الإمدادات لسبب ما، واجه الناس مشاكل هائلة. وكانت مجتمعاتهم أضخم من أن يعودوا إلى أسلوب للحياة يقوم على زُمَر متجولة صغيرة. كان ذلك سيقتضى قطيعة كاملة مع أسلوب حياة راسخ، وتمزقا اجتماعيا ضخما، وتعلُّم (أو إعادة تعلُّم) تقنيات الحياة – ومن المحتمل معاناة مجاعة على نطاق واسع فى البداية. وبالتالى كان لديهم حافز للتطلع إلى طرق جديدة للحصول على الطعام، حتى إذا اقتضى هذا تكثيفا للعمل.

هذا ما يبدو أنه حدث فى الهلال الخصيب فى الشرق الأوسط. فمنذ حوالى 11 ألف سنة قبل الميلاد تغيرت الأحوال المناخية فى المنطقة بطريقة توفر لشعوب “ناتوفيان” “Natufian” المحلية مصدرا وفيرا من كل من اللحوم (من قطعان الظباء) والحبوب البرية، بحيث إنه كان بإمكانهم أن يبدأوا العيش فى مجموعات مستقرة كبيرة (قرى)، دون أن يكون عليهم أن يتخلوا عن نمط الصيد-الجمع فى العيش. غير أنه بعد حوالى ثلاث ألفيات، تغيرت الأحوال الإيكولوچية مرة أخرى، فلم يعودوا قادرين على الاعتماد لوقت طويل على القطعان البرية والحبوب البرية لتغذيتهم. و”انعكس اختلال التوازن بين السكان والموارد فى الضيق الغذائى، ووأد الإناث، وتناقص استهلاك اللحوم”(133).

وعند هذه النقطة اعتمد بقاء البشر بالنسبة لسكان المجتمع على تغيير طريقتهم فى الحياة. وكان هناك اتجاهان يمكن أن يسير فيهما التغيير: نحو وضع الجهد فى زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات التى كانوا قد جمعوها واصطادوها من قبل، أو، بدلا من ذلك، نحو ترك حياة القرية بالانقسام إلى زُمَر صغيرة كان من الممكن أن تجوب الأرض باحثة عن الإمدادات الغذائية الموجودة بشكل طبيعى والتى لم تكن لتتوفر قريبة فى متناول أيديهم. ويبدو بالفعل أن الناتوفيان ساروا فى كلا الاتجاهين. استخدم البعض معرفتهم عن الحياة النباتية والحيوانية للشروع فى زراعة البذور واستئناس قطعان الماشية، وارتد آخرون إلى أسلوب حياة أجداداهم الرُّحَّل. ونحن لا نعرف على أى أساس قامت المجموعات المفردة باختياراتها. غير أن ما يبدو أكثر احتمالا هو أن أولئك الذين اتخذوا الزراعة فعلوا ذلك بالموافقة على إعادة تنظيم لاقتصادهم المحلى تحت إشراف أولئك الأفراد ذوى الهيبة الاجتماعية الذين كانوا مسئولين من قبل عن تجميع وإعادة توزيع الفوائض(134).

ويوضح مثل هذا التفسير لماذا حدث الانتقال إلى الزراعة، بشكل مستقل، فى أجزاء عديدة مختلفة من العالم(135). لقد كان ذلك نتيجة نشوء مجتمعات الصيد-الجمع التى صارت ناجحة فى استغلال الموارد الغذائية المحلية إلى حد أنها كانت أضخم من أن تتكيف معها حينها، بعد مئات أو آلاف السنين، عندما جفت تلك الموارد. وعند تلك النقطة كان عليها إما أن تتغير أو تموت.

وبمجرد أن حدث الانتقال إلى الزراعة بين أى مجموعة فى منطقة ما، حدث شيء ما لا رجعة فيه. فقد بدأ سكان تلك المجتمعات التى تمارس الزراعة فى النمو بشكل أسرع بكثير من سكان المجتمعات التى كانت لا تزال تعتمد على الصيد والجمع. ووفرت الفوائض التى مكَّنهم أسلوب حياتهم المستقر من تخزينها الأساس للتخصص المتزايد فى صُنْع منتجات الإنسان، فى البداية من الحجر، وفيما بعد من النحاس والنحاس الأصفر. وبين منتجات الإنسان الجديدة كانت الأسلحة التى صنعوها وكدَّسوها لمحاربة بعضهم البعض – أسلحة يمكن استخدامها أيضا لإزاحة جيرانهم الصيادين-الجامعين من التربة الأكثر إنتاجا. وبدأت المجتمعات الزراعية الجديدة فى الانتشار خارجة من أماكنها الأصلية، لتمتد براعمها إلى أماكن جديدة حيث تنمو، فاتحةً أو محوِّلة مجتمعات الصيادين-الجامعين التى تحيط بها. ولهذا، على سبيل المثال، انتشرت الزراعة من مرتفعات الهلال الخصيب منذ حوالى 8 آلاف إلى 9 آلاف سنة عبر سهول المنطقة وعبر جنوب شرق أوروپا منذ حوالى 7 آلاف إلى 8 آلاف سنة ثم إلى شمال أوروپا منذ 4 آلاف إلى 4 آلاف وخمسمائة سنة(136). 

ولم يختف الصيد والجمع فى كل مكان فقد بقيت ملاذات إيكولوچية ذات حياة حيوانية برية وفيرة وسط مناطق زراعية، فسمحت بالبقاء آلاف السنين لمجتمعات آثرت أن تواصل الصيد والجمع. وفى بعض الأحيان وجدت المجموعات الزراعية أن من الضرورى أن تعود إلى الصيد والجمع فيما كانت تنتقل إلى مناطق جديدة. ومع ذلك فإننا لا يمكن أن نخطئ ملاحظة الاتجاه العام نحو سيطرة الزراعة على مناطق بأكملها، مع إزاحة الصيادين-الجامعين الباقين إلى المناطق غير الملائمة للزراعة – الغابات، الصحارى، المناطق القطبية الشمالية المقفرة.

المجتمعات الطبقية الأولى 

قليلة جدا هى المجتمعات الزراعية التى تطورت إلى مجتمعات طبقية كاملة نتيجة لتطورها الداخلى. وقد بدأ هذا فى الحدوث فى بلاد ما بين النهرين منذ حوالى 6 آلاف سنة، وفى مصر، وإيران، ووادى الإندوس، والصين، بعد ذلك بمئات عديدة من السنين، وفى النيل الأوسط (فيما يسمى الآن السودان) وشرق البحر المتوسط بعد هذا بألف سنة، وفى أمريكا الوسطى، والمنطقة الأنديانية [منطقة جبال الأنديس]، وهضاب أثيوپيا، وغرب وجنوب شرق أفريقيا بين ألفين وخمسمائة وألف سنة مضت(137). وفى كل تلك الحالات كانت الضغوط الرئيسية فى سبيل تطور نظام اجتماعى جديد متولِّدة داخليا. غير أنه فى معظم أنحاء العالم الأخرى، كانت الضغوط الخارجية ضرورية. ذلك أن مجتمعات البستنة أو المجتمعات الزراعية الخالصة القديمة واصلت الاستمرار إلى أن أدت التجارة الخارجية، أو الهزيمة العسكرية، أو الاستعمار، إلى التغير. وكان هذا صحيحا، على سبيل المثال، بالنسبة إلى أوروپا الشمالية حتى بين ألفين وخمسمائة وألف سنة مضت، وبالنسبة إلى هضبة غينيا الجديدة حتى أوائل ثلاثينيات القرن العشرين.

وقد ربط إنجلس ظهور المجتمع الطبقى بالزراعة الكثيفة والاستخدام الأول للمعادن. ووافق جوردون تشايلد على وجهة نظر مماثلة، مسمِّيًا عملية التغيير “الثورة الحضرية” (رغم أنه، بخلاف إنجلس، أدرك أنها أعقبت الزراعة المستقرة الأولى ﻠ “ثورة العصر الحجرى الحديث”) بآلاف السنين.

ومن ناحية، اصطدم النمو السكانى المرتبط بالزراعة المبكرة فى نهاية المطاف، فى كل مكان، بالحدود فى كمية الأرض التى يمكن فلاحتها باستخدام تقنيات قائمة. “كان نمو سكان العصر الحجرى الحديث مقيَّدا فى نهاية المطاف بالتناقض فى الاقتصاد الجديد”. وشجع هذا على لجوء متزايد إلى الصراع الحربى، ﺒ “فئوس القتال الحجرية وخناجر الصوان” التى صارت شائعة بشكل متزايد “فى المراحل اللاحقة من ثورة العصر الحجرى الحديث فى أوروپا”. ومن ناحية أخرى فإن قرية العصر الحجرى الحديث المكتفية ذاتيا لم يكن بمستطاعها مطلقا الإفلات من تهديد الكارثة الطبيعية:

كل جهودها وخططها يمكن أن تُحبطها أحداث ما تزال خارج سيطرتها: الجفاف أو الفيضانات، العواصف أو الصقيع، الآفات أو زوابع البَرَد، يمكن أن تدمِّر المحاصيل وقطعان الماشية … وكانت مخزوناتها أصغر من أن تُعينها على أىّ تعاقب ممتدّ للكوارث.

وفى نهاية المطاف قدمت الثورة الحضرية مخرجا من كلتا المشكلتين:

تم تجاوز أسوء تناقضات اقتصاد العصر الحجرى الحديث عندما صار المزارعون مقتنعين ﺒ، أو مجبرين على، انتزاع فائض من التربة فوق متطلباتهم المنزلية وعندما صار هذا الفائض متاحا لإعالة طبقات اقتصادية جديدة غير منخرطة بشكل مباشر فى إنتاج طعامها الخاص.
غير أن هذا، بدوره، اشترط تقدما تقنيا – “إضافات إلى رصيد العلوم”:

ربما كانت الألف سنة أو نحو ذلك السابقة مباشرة على عام ثلاثة آلاف قبل الميلاد أكثر خصوبة فى اخترعات واكتشافات مثمرة من أىّ فترة فى تاريخ البشرية السابق على القرن السادس عشر الميلادى. فقد جعلت منجزاتها من الممكن إعادة التنظيم الاقتصادية للمجتمع تلك التى أسميها “الثورة الحضرية”(138). 

وقد شملت التطورات فى التكنولوچيا اكتشاف طريقة صهر النحاس ثم طريقة خلطه مع القصدير لإنتاج البرونز، واستعمال المحراث بدلا من المعزقة وقوة الحيوانات (الثيران فى البداية) لجرها عبر التربة، واستخدام أولى العربات ذات العجلات (والعربات الحربية)، وبناء قنوات وسدود منتظمة للرى، وطرق جديدة لبناء وإبحار القوارب.

واقتضت كل هذه التغيرات ما يسمِّيه تشايلد “تعديلات فى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية” – تغيرات فى علاقات الناس ببعضهم البعض، وكذلك فى علاقاتهم مع الطبيعة. وكان صهر المعادن مهنة أكثر مهارة بكثير من صُنْع الأوانى الفخارية، وانتهى إلى الاعتماد على مجموعات من المتخصصين من ذوى المهارة العالية، الذين كانوا ينقلون أسرار تجارتهم من جيل إلى جيل. وكان استعمال المحراث يميل إلى زيادة تقسيم العمل بين النوعين (الذكر والأنثى)، لأنه كان شكلا من العمل الثقيل لا تقوم به بسهولة نساء حوامل أو يقمن برعاية أطفال. ذلك أن بناء قنوات رى منتظمة وصيانتها كانا يميلان إلى يعنيا تعاون عشرات أو حتى مئات الأسر المعيشية، وإلى تشجيع تقسيم للعمل بين أولئك الذين كانوا يُشرفون على العمل وأولئك الذين كانوا يباشرونه.

وشجع استعمال العربات ذات العجلات والمراكب الشراعية الصغيرة على نمو التجارة بين مجموعات المزارعين المنفصلين على نطاق واسع – مانحا الناس الوصول إلى مجموعة من الأشياء النافعة التى لم يكونوا يستطيعون إنتاجها بأنفسهم. كذلك فإن الانتاجية المتزايدة للعمل كنتيجة لهذه التغيرات مكَّنتْ الحجم الوسطى للمستوطنة من الصعود بصورة هائلة، إلى أنْ أفسحت قرى العصر الحجرى الحديث المجال فى بعض المناطق للمدن. وقدم الفائض الموسَّع الناتج عن الإنتاجية المتزايدة دافعا إضافيا لاستعدادات الحرب.

ويصف جوردون تشايلد التحول الذى حدث فى بلاد ما بين النهرين، عندما استقر الناس فى وادى نهرى دجلة والفرات. لقد وجدوا أرضا كانت خصبة جدا، غير أنه لم يكن من الممكن فلاحتها عن طريق “أعمال الصرف والرى”، المعتمدة على “الجهد التعاونى”(139). وتشير دراسة أحدث كثيرا عن بلاد ما بين النهرين أجراها ميزيلز Maisels إلى أن الناس الذين كانوا قد تعلموا بالفعل الزراعة على الأرض المروية بشكل طبيعى وجدوا، فى الألفية الرابعة قبل الميلاد، أن “قنوات النهر كانت تتدفق بين السدود [الضفاف الطينية] التى كان المطلوب فقط هو كسرها محليا لتوسيع إنتاجية المساحات المجاورة. وأمكن بالتالى تحقيق مستويات مرتفعة ومتواصلة من الإنتاج نظرا للشروط الزراعية الصحيحة”. غير أنه لم يكن يجرى استهلاك كل هذا الإنتاج المتزايد فى الحال. فقد كان يتم ادخار بعضه:

وكانت الفوائض مطلوبة للتبادل مقابل منتجات معيشية رعوية وأخرى، على حين كان يجب الاحتفاظ بمخزونات إضافية استعدادا لسنوات الجفاف، والآفات، والتلف الموسمى المتزايد، على سبيل المثال نتيجة العواصف … ومثل هذه الاحتياطيات … تعنى وسائل دائمة لتنظيم الإنتاج والاستهلاك بحيث يوجد دائما هامش أمان(140).

وعلى مدى آلاف السنين تحولت المستوطنات الزراعية القائمة على طرق جديدة للرى إلى بلدات، والبلدات إلى مدن. وانتهى مخزون الغلال إلى أن يتطلب مبانى ضخمة ، بارزةً خارج الأرض المحيطة، ترمز للناس على استمرار وحماية الحياة الاجتماعية. وصار أولئك الذين أشرفوا على مخازن الغلال المجموعة الأكثر هيبة اجتماعية فى المجتمع. وباختصار، ظهرت معابد يُشْرف عليها كهنة(141). 

ومع تأسيس تجمُّع دائم من الإداريين الكهنوتيين ظهر شيء آخر ذو أهمية تاريخية هائلة: نسق من العلامات لحساب ثروة المجتمع، الألفباء الأولى. وكما عبَّر جوردون تشايلد:

لحساب إيرادات وإنفاق الإله ابتكرت الجماعات الكهنوتية التى تدير أراضى المعابد وأجازت نسقا من العلامات الاصطلاحية – على سبيل المثال الكتابة؛ وتمثل الوثائق المكتوبة الوحيدة [حتى سنة 2800 قبل الميلاد] جداول حساب. وبالتالى كان تراكم فائض اجتماعى كبير فى خزائن المعابد – أو بالأحرى مخازن الغلال – يمثل فى الواقع السبب فى التقدم الثقافى الذى اعتبرناه معيار الحضارة. 

ويمكن النظر إلى الإله على أنه ممثل أو إسقاط للمجتمع، ولهذا كان الكهنة الذين يخدمونه يصيرون خدم للمجتمع، مع أنه لا شك فى أنه كان يُدفع لهم أفضل من باقى شعب الله(142). 

وخلال الأجيال، صارت الطبقة الكهنوتية منفصلة بشكل متزايد عن باقى المجتمع، إلى أن كوَّنت طبقة ذات مصالح متميزة تماما. ويصف جوردون تشايلد كيف “مارس الكهنة المتميِّزون أشكالا متنوعة من الابتزاز (فارضين أثمانا فاحشة للمدافن، على سبيل المثال) وعاملوا أرض الإله (أىْ أرض المجتمع)، وماشيته، وخدمه، على أنها ملكيتهم هم الخاصة وعبيدهم الشخصيين”، مقتبسا من مرسوم مدينة Lagash منذ حوالى 2500 سنة قبل الميلاد:

دَخَل كبير الكهنة حديقة الفقراء وأخذ الخشب من هناك. وإذا جاور منزل رجل عظيم منزل رجل عادى، فإن الأول يمكن أن يستولى على المسكن المتواضع دون أن يدفع لمالكه أىّ تعويض ملائم.

“هذا النص العتيق”، يستنتج تشايلد، “يعطينا لمحات لا لبس فيها لصراع طبقى حقيقى … والحقيقة أن الفائض الذى أنتجه الاقتصاد الجديد كان يتركز فى أيدى طبقة صغيرة نسبيا”(143).

وفى بلاد ما بين النهرين، لم تكن الطبقة المستغَلة الأولى عبيدا مقهورين فى الحرب، كما أشار إنجلس فى الأصل (ووافق عليه جوردون تشايلد إلى حد ما)، غير أن شعب “إيرين” “erin”، الذين كانوا أسرا معيشية فلاحية مستقلة سابقا، تم إجبارهم على التبعية لتجمعات أقوى، خاصة المعبد، كانوا يعملون مقابل جرايات وأجور فى حفر القنوات، أو الفلاحة، أو فى الخدمة العسكرية(144).

وازداد حجم الاستغلال إلى أن صار ضخما. ويخبرنا ت. ب. چونز T.B. Jones كيف أنه فى لاجاش Lagash حوالى عام 2100 قبل الميلاد:

كانت دزينة أو أكثر من المعابد مسئولة عن فلاحة معظم الأرض الصالحة للزراعة. وكان حوالى نصف (المحصول) تستهلكه تكلفة الإنتاج (أجور العمال، تغذية حيوانات الجر، وما شابه ذلك) وكان الرُّبْع يذهب إلى الملك كضريبة ملكية. وكانت نسبة 25 فى المائة المتبقية تستحق للكهنة(145).

وكانت الإعاشة الطبيعية المعتادة للشغيل ثلاثة سيلات silla (حوالى 2.4 لترات) من الحبوب فى اليوم، بالإضافة إلى مكملات من البيرة والزيت. ومن المحتمل أن هذه الوجبة كان ينقصها الپروتين، والأملاح المعدنية، والڤيتامينات، ولكنها كانت مع ذلك تصل إلى ثلاثة آلاف سعر حرارى فى اليوم، أىْ أكثر بألف سعر حرارى فى اليوم مما يحصل عليه معظم الناس فى الهند أو أفريقيا جنوب الصحراء(146). هذا هو ما يسمَّى بمعجزات الرأسمالية بالمقارنة مع مجتمعات طبقية أخرى! 

ومن المحتمل أن بلاد ما بين النهرين كانت بلا شك المثال الأول – وبالتأكيد المدروس أكثر – للانتقال إلى “الحضارة”. ولكنها كما رأينا لم تكن الوحيدة. فقد حدثت الشروط التى قادت إلى العناصر الأولى للحياة الحضرية والانقسام الطبقى، كما رأينا، فى أنحاء عديدة من العالم. وقد ضلَّلت إنجلس الأدلة التى كانت متاحة فى زمنه عندما نظر إليها على أنها ناشئة عن استعمال الحديد من جانب الشعوب “الرعوية” السامية والشعوب الناطقة باللغات الهندو-أوروپية فى أوراسيا. والأهم، أنه كانت حالات عديدة لمجتمعات زراعية تطورت، من تلقاء نفسها، إلى مستوى كان يمكن فيه تعبئة مئات أو حتى آلاف الأشخاص لتشييد صروح حجرية مهيبة – كما كان الحال مع المعابد الحجرية فى مالطا فى الألفية الثالثة أو الرابعة قبل الميلاد، والدوائر الحجرية للألفية الثالثة قبل الميلاد التى تمثل ستونهنچ Stonehenge أشهر مثال عليها، وتماثيل القرن الثامن عشر الميلادى لجزيرة إيستر Easter island، وأرصفة تاهيتى Tahiti المدرَّجة(147) .

وفى بعض الأحيان كان التطور نحو “الحضارة” يتأثر بتطور حدث فى مكان آخر(148). غير أن هذا لا يُغير واقع أن العمليات المؤدية إلى تشكُّل بلدات ومدن، وفى كثير من الأحيان إلى اختراع الكتابة، بدأت بشكل مستقل فى مواقع عديدة مختلفة، بسبب الدينامية الداخلية للمجتمع حالما تكون الزراعة قد تطورت متجاوزة نقطة بعينها. وهذا يجعل أىّ محاولة للادعاء بأن مجموعة واحدة من شعوب العالم “متفوقة” بطريقة ما على مجموعات أخرى لأنها تصل إلى “الحضارة” أولاً محاولة عديمة المعنى.

فى مكان بعد مكان، وصلت شعوب مختلفة إلى نقطة نهاية متماثلة، أجملها جوردون تشايلد على أنها “تجمُّع أعداد كبيرة من السكان فى مدن؛ والتمايُز داخل هؤلاء المنتجين الأوليين (الصيادين، المزارعين، إلخ.)، والصناع المهرة المتخصصين المتفرغين للعمل، والتجار، والموظفين، والكهنة، والحكام؛ واستعمال الرموز الاصطلاحية لتسجيل ونقل المعلومات (الكتابة)، والمعايير التقليدية لأوزان ومقاييس الزمان والمكان المؤدية إلى بعض علوم الحساب والتقويم”(149). 

غير أن الطريق المحدَّد من الصيد-الجمع عبر البستنة والزراعة إلى الحضارة اختلف بشكل كبير من مجتمع إلى آخر(150).

وبالفعل تشير دراسات عن بدايات الانقسام إلى طبقات داخل مجتمعات زراعية “مشاعية” معاصرة إلى أن هذا يمكن أن يتخذ دروبا مختلفة – أحيانا مع بروز كبار السن فى البَدَنات متحوِّلين إلى رؤساء قبليين، وأحيانا مع تحوُّل “رجال كبار” إلى رؤساء قرى، وأحيانا مع تطور بَدَنات بكاملها إلى طوائف كهنوتية مغلقة، وأحيانا مع وصول أسرة معيشية ما إلى السيطرة على أسر أخرى. ويبدو أن بعض المجتمعات الطبقية الراسخة تماما قد تطورت بالفعل بالطريقة التى تحدث بها إنجلس عنها، من خلال النمو المباشر للملكية الخاصة فى الأرض، والمحاصيل، والحيوانات. غير أنه فى مجتمعات أخرى تشير الأدلة إلى طبقة حاكمة استغلت فى البداية باقى المجتمع بدون ملكية خاصة – على أُسُس أشار إليها ماركس وإنجلس (بشكل مضلل إلى حد ما) على أنها “نمط الإنتاج الآسيوى”(151). وفى تلك الحالات ظل الاستغلال الطبقى مموَّها داخل أشكال مشاعية قديمة للتنظيم الاجتماعى، أكثر منه مكشوفا بوضوح من خلال الملكية الخاصة. غير أنه كان استغلالا طبقيا مؤكدا بنفس القدر، حيث جرى تحويل التنظيم “المشاعى” القديم للإنتاج تحويلا كاملا فى الحقيقة من خلال الدفع الإجبارى للجزية للكهنة أو الپيروقراطيين المستغِلين. ولم يعد رؤساء التنظيمات المشاعية (سواء أكانت قرى، أو مجموعات بَدَنات، أو أسرا معيشية ممتدة) يسدُّون حاجاتهم وحدهم، بل صاروا بشكل متزايد أيضا الوسائل التى تُفرض من خلالها أوامر الطبقة الحاكمة على زملائهم(152). 

ولا ينبغى أن تجعلنا الأشكال المتباينة التى نشأ فى ظلها المجتمع الطبقى ننسى التشابهات الهائلة من مجتمع لآخر. وفى كل مكان كانت هناك، فى البداية، شيوعية بدائية. فى كل مكان، بمجرد أن استقرت مجتمعات زراعية تكونت بعض البَدَنات وكان بمستطاع كبار البَدَنات أو “الرجال الكبار” البدء فى كسب الهيبة الاجتماعية من خلال دورهم فى القيام بإعادة توزيع الفائض القليل الذى كان موجودا لمصالح المجموعة بأكملها. فى كل مكان، مع نمو الفائض، انتهى هذا القسم الصغير من المجتمع إلى السيطرة على حصة أكبر من الثروة الاجتماعية، واضعةً إياه فى مركز كان بمستطاعه فيه أن يبدأ فى التبلور متحوِّلا إلى طبقة اجتماعية.

والأهم أنه حتى حيثما تبلور فى طبقة اجتماعية جماعية، كان بوسعها، على مدى مئات السنين، أن تلد طبقات من أصحاب الملكية الخاصة. ولا شك فى أن هذا هو ما حدث فى بلاد ما بين النهرين(153). والهند القديمة، “حيث لم تكن هناك فقط أدلة تُثْبت وجود الملكية الخاصة، بل أيضا … تغيرات دور الملكية الخاصة بصورة كبيرة عبر القرون”(154)، وربما يكون قد حدث فى تيتوهواكان Titohuacan فى أمريكا الوسطى(155). وحتى فى مصر، حيث كانت سلطة الملكية هائلة، كان هناك مَيْل لدى كل من المعابد وحكام الولايات المحلية (“nomes”) إلى تطوير القوة الاقتصادية الخاصة بهم بحلول نهاية الدولة القديمة (حوالى عام 2000 قبل الميلاد)، وبحلول العصر البطلمى كانت طائفة مغلقة جديدة من المحاربين تملك حوالى نصف الأرض(156). وقد حاول الألمانى الأمريكى الماركسى سابقا ڤيتفوجل Wittfogel تطوير نظرية شاملة عن “الاستبداد الشرقى”، قابلة للتطبيق على كل تلك المجتمعات، التى كانت القوة الاقتصادية فيها بصورة كاملة فى أيدى طبقة حاكمة جماعية كلية الجبروت؛ غير أن دراساته المبكرة عن الصين تشير إلى صورة مختلفة، كانت فيها پيروقراطية دولة، طبقة عليا محلية، وتجار، منخرطة فى معارك مريرة من أجل السيطرة فى صين القرن الخامس قبل الميلاد.

 كيف بدأت الطبقة

رأينا إلى الآن أنه كان هناك، بالفعل، انتقال من مجتمعات الصيد-الجمع إلى مجتمعات حضرية، وأنه بالتوازى مع هذا حدث انتقال من مجتمعات شيوعية بدائية إلى مجتمعات طبقية. وليس هناك حول واقع هذا الانتقال أىّ شك فى الوقت الحالى. وهذا، فى حد ذاته، دفاع هائل عن إنجلس. كما أنه يدحض بعض وجهات النظر المعادية للاشتراكية الأكثر أساسية حول بشر أنانيين بصورة جوهرية فى سبيل جعل جماعة تعاونية مستحيلة.

غير أن نقطتين مهمتين ما تزالان غير محسومتين بشأن أصل الحكم الطبقى والدولة: لماذا انتقل الناس من الصيد-الجمع إلى الزراعة ثم إلى المدن؟ ولماذا قبلوا صعود طبقات حاكمة؟ ولماذا انتهى أولئك الحكام إلى أن يستغلوا بدلا من أن يخدموا باقى المجتمع؟

هذه أسئلة لم يُجب عليها إنجلس بصورة كاملة. وكما تشير جيلى، فإن تفسيره فى أصل العائلة يبدو فى بعض النقاط أنه يساوى مجرد إلقاء المسئولية على الجشع. فقد وجد بعض الناس أن فى أيديهم فائضا واستخدموه على حساب الآخرين(157). وفى ضد دوهرنج Anti-Dühring يقدم إنجلس تفسيرا أشمل، مع التشديد على المزايا الأولية للمجتمع ككل فى وضع الفائض جانبا بطريقة تجعل من غير الممكن استهلاكه فى الحال من جانب المنتجين. غير أنه يظل لا يفسر لماذا يجب إذن أن يكون الناس مدفوعين إلى استهلاك الكثير من هذا الفائض بأنفسهم، أو لماذا يجب أن يقبل آخرون هذا(158). 

وهناك وجهة نظر بين التطوريين الأكاديميين بشأن هذه المسألة على وجه التحديد. وقد طرح إى. آر. سرڤيس E.R. Service ما يمكن أن يُسمَّى نظرية “وظيفية” لنشأة الدولة (وبصورة ضمنية، نشأة الطبقات). وتقول هذه النظرية إن الحكام ظهروا لأنه كان فى مصلحة الجميع أن يظهروا. “حقق هذا التطور الإمكانات الكامنة الهائلة التى تكمن فى القيادة الممركزة …” وقد نشأت عن “المحاولات البسيطة للقادة البدائيين لتأبيد سيطرتهم الاجتماعية من خلال تنظيم مثل هذه المنافع لأتباعهم”(159). ومقابل هذا، يؤكد مورتون فريد Morton Fried أن تشكُّل الدولة لم يكن “وظيفيا” بالنسبة لكل المجتمع، بل كان جزءًا من عملية استغلَّ عن طريقها قسم من المجتمع وأكره الباقى (160). 

غير أن هذا لا يفسر لماذا كان ينبغى فجأة أن تقوم مجموعة لم تَستغل أو تضطهد من قبل فى القيام بذلك، ولا لماذا تحمَّل باقى المجتمع هذا الاستغلال والاضطهاد الجديدين. 

وتكمن الطريقة الوحيدة للإجابة على مثل هذه الأسئلة فى تشديد ماركس على التفاعل بين تطور علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج(161). فالطبقات تنشأ عن الانقسامات التى تحدث فى المجتمع مع ظهور طريقة جديدة لدفع الإنتاج إلى التقدم. وتكتشف مجموعة أنها تستطيع زيادة الثروة الاجتماعية الكلية إذا ركزت الموارد فى أيديها، منظمةً الآخرين على العمل تحت قيادتها. وهى تنتهى إلى النظر إلى مصالح المجتمع ككل على أنها تكمن فى سيطرتها هى على الموارد. وهى تدافع عن تلك السيطرة حتى عندما يعنى ذلك جعل الآخرين يعانون. وهى تنتهى إلى النظر إلى التقدم الاجتماعى على أنه يتجسد فيها هى ذاتها وفى حماية مورد رزقها هى ضد الانفجارات المفاجئة للندرة (بسبب ضعف المحصول، والآفات، والحروب، إلخ.) والتى تسبب ضائقة لجميع الآخرين.

وليس من الصعب أن نفهم كيف أدى انتشار الفلاحة إلى ضغوط من أجل تغيُّرات فى الإنتاج اشترطت إشرافا من أعلى. ومن المحتمل أن المجتمعات الزراعية الأولى وطدت نفسها فى مناطق ذات تربة خصبة بصورة استثنائية. غير أنه مع انتشارها انتهى البقاء إلى أن يعتمد على التغلب على شروط أصعب بكثير. وتطلَّب ذلك إعادة تنظيم أبعد للعلاقات الاجتماعية. وقد أكد رينفرو Renfrew أن:

سكان العصر الحجرى الحديث القليلين نسبيا استطاعوا فى الواقع أن يختاروا تُرْبات مثل المناطق الطميية الخصبة التى كان محصولها المحتمل أكبر عدة مرات من مناطق جرى استخدامها فيما بعد للزراعة … وعلى سبيل المثال فإن انتشار الاستقرار إلى مناطق تكون محاصيلها أكثر عرضة للتقلبات عند سقوط الأمطار، كان من شأنه أن يزيد الحاجة إلى آليات إعادة توزيع يمكن أن تسمح باستعمال الفائض المحلى بصورة كاملة(162).

وقد أبدى د. ر. هاريس Harris D.R. ملاحظات مماثلة فيما يتعلق بالزراعة المدارية فى أفريقيا وجنوب شرق آسيا. وكانت فى البداية،
نطاقا صغيرا ومعتمدا على التعامل البارع مع النظام الإيكولوچى بدلا من خلق أنظمة إيكولوچية صناعية عن طريق تحولات على نطاق واسع … والتقنيات … التى كانت فى العادة مقتصرة على العمل البشرى باستعمال أدوات بسيطة مثل الفئوس، والسكاكين، وعصىّ الزرع، والمعازق. وكانت “وحدة العمل” هى “العائلة”، ولم تكن هناك حاجة إلى “مستوى من التنظيم الاجتماعى” أكثر تعقيدا من التنظيم الاجتماعى للقبيلة المنقسمة البسيطة (163).

غير أن الزراعة التى تنتج أكثر تتطلب أيضا “وحدات عمل أكبر من العائلة” ومستوى “أكثر تعقيدا” من “التنظيم الاجتماعى” يتم تحقيقه عبر “وساطة رئاسات قبلية ذات منزلة ودول منقسمة إلى طبقات اجتماعية مع فلاحين مستقلين”(164). 

وكانت مجموعات ذات هيبة اجتماعية عالية، فى مجتمعات غير طبقية سابقة تشرع فى تنظيم العمل المطلوب لتوسيع الإنتاج الزراعى عن طريق إنشاء أعمال رى أو تنظيف مساحات واسعة من أراض جديدة. وكانوا ينتهون إلى النظر إلى سيطرتهم هم على الفائض – واستعمال بعضه لحماية أنفسهم ضد التقلبات الطبيعية – على أنها فى مصلحة الجميع. وكذلك كانت تفعل المجموعات الأولى التى استعملت التجارة الكبيرة لزيادة المجموعة المتنوعة الكلية المتاحة للاستهلاك. كما كان هذا هو الحال مع تلك المجموعات التى كانت الأكثر خبرة فى انتزاع الفوائض من مجتمعات أخرى عن طريق الحرب. وبهذه الطريقة، كان تقدم قوى الإنتاج فى أى منطقة يحوِّل المجموعات والأفراد الذين كانوا يحققون هيبة اجتماعية فى السابق عن طريق القيام بوظائف إعادة توزيع وووظائف احتفالية إلى طبقات فرضت مطلب انتزاع الفائض على باقى المجتمع.

وفى أنحاء كثيرة من العالم كانت المجتمعات قادرة على الازدهار حتى العصر الحديث بدون اللجوء إلى أساليب العمل الكثيفة مثل استعمال المحاريث الثقيلة أو الأشغال الهيدروليكية الكثيفة. وكان هذا صحيحا فيما يتعلق بجانب كبير من أمريكا الشمالية، وجزر المحيط الهادئ، وپاپوا-غينيا الجديدة فى المناطق الداخلية، وأنحاء من أفريقيا وجنوب شرق آسيا. غير أنه فى شروط أخرى انتهى البقاء إلى اعتماد تقنيات جديدة. وقد نشأت طبقات حاكمة من تنظيم مثل تلك الأنشطة، وهكذا نشأت مدن، ودول، وما نسميه عادةً بالحضارة. ومن هذه المرحلة فصاعدا، كان تاريخ المجتمع دون شك تاريخ الصراع الطبقى.

ولم يكن بمستطاع مثل هذه المجموعات الاحتفاظ بالفائض فى أيديها فى أزمنة كان المجتمع بأكمله يعانى فيها ضائقة هائلة ما لم تجد طرقا لفرض إرادتها على باقى المجتمع، وما لم تكن قد أسست هياكل إكراهية، ودول، ومدونات قانونية، وأيديولوچيات تدعمها. غير أنه بمجرد أن تكون مثل هذه الهياكل ومثل هذه الأيديولوچيات قائمة، فإنها كانت تؤبد سيطرة مجموعة بعينها على الفائض حتى عندما كانت لا تعود تخدم هدف دفع الإنتاج إلى التقدم. وهكذا فإن طبقة نشأت لتكون حافزا على الإنتاج تستمر حتى عندما لا تعود تمثل حافزا كهذا. وستحميها بنية فوقية عسكرية-قضائية-أيديولوچية يمكن أن تشكِّل عبئا متزايدا على إنتاج المجتمع ككل.

وقد ظهر هذا بشكل دراماتيكى مع جميع الحضارات الكبرى الأولى عندما، بعد فترة تطول أو تقصر، انهارت وسط سخط داخلى هائل: الأزمات الكبرى للمجتمع السومرى فى حوالى بداية الألفية الثانية قبل الميلاد، التحلُّل المؤقت للدولة المصرية فى أواخر الدولة القديمة حوالى عام 1800 قبل الميلاد، انهيار الحضارتين الميسينية والكريتية بعد منتصف الألف الثانى قبل الميلاد، انهيار حضارة تيوتيهواكانTeotihuacan  فى أمريكا الوسطى حوالى عام 700 الميلادى. وقد ثبت هذا بصورة متكررة منذ ذلك الحين، منذ سقوط الإمپراطورية الرومانية إلى الأزمة الحالية للرأسمالية العالمية.

وكانت الطبقة فى ذلك الحين، كما أصر ماركس وإنجلس دائما، تطورا ضروريا بمجرد أن تواجه الندرة المجتمع. غير أنه كما أصرَّا أيضا، بمجرد أن تكون الطبقة قد توطدت فى السلطة، اعتمد المزيد من التقدم على النضال ضدها. وقد كتب إنجلس عن سقوط الشيوعية البدائية قائلا:

كان محكوما على هذا التنظيم بالانقراض. فقد … اقتضى شكلا متخلفا تماما للإنتاج، إذ إن سكانا قليلين متفرقين للغاية انتشروا على أرض واسعة، وبالتالى السيطرة الكاملة تقريبا على الإنسان من جانب طبيعة خارجية، غريبة، معادية، غير مفهومة بالنسبة له …

وقد تحطمت قوة هذه المجتمعات الأصلية … نتيجة تأثيرات تبدو لنا من البداية تدهورا، سقوطا من العظمة الروحية البسيطة للمجتمع … القديم. وتبدأ أحقر المصالح – الجشع المنحط، الشهوانية الوحشية، البخل الدنيئ، النهب الأنانى للممتلكات العامة – فى المجتمع المتحضر الجديد، المجتمع الطبقى … والمجتمع الجديد … لم يكن مطلقا شيئا آخر سوى تطور الأقلية على حساب الأغلبية الساحقة المستغَلَّة والمضطهَدة؛ وهى كذلك فى الوقت الحاضر أكثر من أىّ وقت مضى(165).

ونحن لا نستطيع العودة إلى الشيوعية البدائية حتى لو كان ذلك هو ما نريده. إن هذا سيعنى محو 99.9 فى المائة من البشرية (كان عدد سكان جنوب فرنسا الباحثين عن الطعام منذ 30 ألف سنة حوالى 400 وكان عدد سكان العالم بأكمله منذ 10 آلاف سنة حوالى 10 مليون). غير أن ماركس وإنجلس أصرا على أن هذا غير ضرورى. فقد خلقت الرأسمالية ثروة كبيرة جدا بحيث صار من الممكن، للمرة الأولى فى تاريخ البشرية، أن نتصور، ليس شيوعية بدائية، بل “شيوعية متقدمة”. والأهم أننا إذا لم نتحرك نحو هذا، فإننا لن نشهد استمرارا بسيطا للمجتمع القائم بل سنشهد نكوصا من خلال “التدمير المتبادل للطبقات المتصارعة”. وكما يعبِّر إنجلس فى أواخر أصل العائلة، فإننا نصل إلى “مرحلة فى تطور الإنتاج لن يكفّ فيها وجود الطبقات عن أن يكون ضروريا فحسب، بل سيصير عائقا إيجابيا أمام الإنتاج”(166).            

 إشارات القسم الثاني

82: E. Leacock, Women in Egalitarian Society, in Myths of Male Dominance (New York, 1981), p.31.

83: انظرْ B. Trigger, V. Gordon Childe.

84: E. Gellner, Plough, Sword and Book (London, 1991), p.16.

85: C. Ward Gailey, From Kinship to Kingship (Austin), p.16.

86: كان هذا صحيحا فيما يتعلق ببعض التفسيرات الستالينية. غير أنه كان صحيحا أيضا فيما يتعلق ببعض الأشخاص من اليسار الحقيقى. وهكذا فإن تفسير إيڤيلين ريد Evelyn Reed فى Women’s Evolution [تطور النساء]، رغم أنه انتقادى للغاية فى كثير من الأحيان للأرثوذكسية القديمة المعادية للتطورية، يخطئ عن طريق إساءة التفسير بصورة جدية لمعطيات أنثروپولوچية بحيث يجعلها تتلاءم مع إنجلس فى نقاط بعينها فى أصل العائلة. وينطبق هذا، على سبيل المثال، على تأكيداتها بخصوص “التنافس” المرير بين ذكور البشر المبكرين، حول الدور المزعوم “أكل لحم البشر” cannibalism بين ذكور البشر المبكرين فى المجتمعات “البدائية” وحول العلاقة المزعومة بين التوريث على أساس خط الذكر والاعتراف بالأبوة. وللاطلاع على نقد شامل لعمل ريد، انظرْ عرض إليانور ليكوك النقدى فى Eleanor Leacock, Myths of Male Dominance (New York, 1981), pp.183-194. 

87: F. Engels, The Origin of the Family, Private Property and the State (Moscow, n.d.), p.6.

88: رغم أنه فى حالة مورجان كانت هذه الرؤية المادية ممتزجة بنظرة مثالية، تؤكد أن “المؤسسات الاجتماعية والمدنية، بمقتضى ارتباطها بحاجات بشرية دائمة، تطورت من جذور أولية قليلة من الفكر”، L.H. Morgan, Ancient Society, p.5. كما ينبغى أن نضيف أن مورجان لم يكن ثوريا. وكان يعتقد أن الديمقراطية البرچوازية كانت الشكل الأعلى للمجتمع البشرى الذى كانت كل المجتمعات تسعى جاهدة إليه.

89: Ibid., p.24.

90: Ibid., p.18.

91: Engels, The Origin of the Family, op. cit., pp.42-43.

92: فى الواقع، يوسِّع علماء الآثار المحدثون هذا التعريف قليلا ليشمل مجتمعات بعينها لا تلعب فيها المدن الدور الرئيسى، مثل مصر القديمة المبكرة وثقافة المايا Maya فى أمريكا الوسطى، لأنها تشتمل على معظم السمات الأخرى المرتبطة فى العادة بمجتمعات حضرية – مجموعات مستقلة من الحرفيِّين والإداريِّين، والاستعمال الواسع النطاق للمعادن، ومعرفة القراءة والكتابة، وإلخ. وبالطريقة نفسها يُدْرجون فى العادة مجتمعات مثل مجتمعات الإنكا أو المجتمعات قبل-الإسلامية فى غرب أفريقيا، التى كانت توجد فيها مدن ودول ولكنْ دون ألفباء.

93: رغم أن أحد كبار خبراء الثاتشرية Thatcherism، هايك Hayek، قد اختلف مؤكدا أن آلاف السنين من الشيوعية البدائية أنتجت ما نظر إليه على أنه “غرائز فطرية” خطِرة للغاية، تؤدى بالناس فى الوقت الحاضر إلى الرغبة فى “توزيع عادل، تُستعمل فيه السلطة المنظمة فى أن يُخصَّص لكل شخص ما يستحقه”، “للإقناع بالأهداف المشتركة المتصوَّر أنها مرغوبة” و “لتحقيق منفعة للأشخاص المعروفين”.

94: Engels, The Origin of the Family, op. cit., pp.157-159.

95: E. Friedl, Women and Men, the Anthropologist’s View (New York, 1975).

96: E. Leacock, Women’s Status in Egalitarian Societies, Myths of Male Dominance, op. cit., pp.139-140.
97: R. Lee, The !Kung San (Cambridge, 1979), p.118.

98: تدل علامة “!” فى بداية !Kungعلى صوت “نقر” click غير موجود فى اللغات الهندو-أوروپية.

99: R. Lee, op. cit., p.244.

100: Guago, quoted in Richard Lee, op. cit., p.244.

101: Le P.P. Lejeune (1834), quoted in M. Sahlins, Stone Age Economics (London, 1974), p.14.

102: Colin Turnbull, The Forest People (New York, 1962), pp.107, 110 and 124-5.

103: R. Lee, op. cit., pp.343-345.

104: E. Friedl, Women and Men, op. cit., p.15.

105: R. Lee, op. cit., p.336-338.

106: كل العبارات المقتبسة من R. Ardrey, op. cit., pp.300, 30 and 399.

107: W. Lloyd Warner, A Black Civilisation (New York, 1964), quoted in Sahlins, Stone Age Economics, op. cit., p.12.

108: E. Friedl, Women and Men, op. cit., p.14.

109: انظرْ R. Lee, op. cit., p.55. انظرْ أيضا C. Turnbull, The Forest People, op. cit., p.127; M. Sahlins, Stone Age Economics, op. cit., p.123.

110: كما لاحظ م. سالينز M. Sahlins، “ملتقطو الطعام الباقون أشخاص متفرقون … يعيشون فى مآوٍ هامشية … غير نموذجيِّين مع نمط الإنتاج … محجوزين عن المناطق الأفضل على الأرض، فى البداية عن طريق اقتصادات زراعية، وفيما بعد عن طريق اقتصادات صناعية”. وهناك “إمكانية أن تكون إثنوجرافيا الصيادين وجامعى الثمار سِجِلَّ ثقافات ناقصة. وكان من الممكن أن تختفى المجموعات الهشة للطقوس والتبادل بلا أثر، ضائعة فى المراحل الأولى من الكولونيالية، عندما هوجمت وأُربكت العلاقات بين المجموعات التى تتوسط بينها”: Stone Age Economics, op. cit., p.8 and p.38. وللاطلاع على أدلة على أن بعض المبادئ المختلفة للتنظيم الاجتماعى ربما كان قد جرى تطبيقها بين شعب اﻠ !كونج the !Kung منذ قرن وإلى الآن، انظرْ R. Lee, op. cit., p.340. وللاطلاع على تفكير بشأن الطريقة التى ربما كانت مجتمعات الصيد-الجمع فى العصر الحجرى القديم تختلف بها عن مجتمعات الاعتراف، انظرْ R. Foley, Hominids, humans and hunter-gatherers, in T. Ingold, D. Riches and J. Woodburn, Hunters and Gatherers, Vol.I (London, 1988, p.207-221. 

111: R. Lee, Reflections on primitive communism, in T. Ingold, D. Riches and J. Woodburn, Hunters and Gatherers, Vol.I (New York, 1991), p.262.

112: R. Lee, Reflections on primitive communism, op. cit., p.268.

113: F. Engels, The Origin of the Family, op. cit., p.37.

114: Ibid., p.41.

115: Ibid., p.87.

116: انظرْ J.V.S. Megaw (ed.), Hunter Gatherers and the First Farmer Beyond Europe, and the essays by M. Dolukhanov, G.W.W. Baker, C.M. Nelson, D.R. Harris and M. Tosi in C. Renfrew (ed.), Explaining Cultural Change, op. cit.

117: هذه واحدة من وجهات النظر الرئيسية فى M. Sahlins’ Stone Age Economics.

118: C. Ward Gailey, Kinship to Kingship (Austin 1987), pp.67.

119: R. Lee, Reflections on primitive communism, as above, p.262.

120: C. Levi Strauss, quoted in M. Sahlins, Stone Age Economics, op. cit., p.132.

121: H.I. Hogbin, quoted in M. Sahlins, ibid., p.135.

122: J.F. Lafitau, quoted in R. Lee, Reflections on primitive communism, op. cit., p.252.

123: E. Evans-Pritchard, quoted in R. Lee, Reflections on primitive communism, op. cit., p.252.

124: A Richards, quoted in M. Sahlins, Stone Age Economics, op. cit., p.125.

125: R. Firth, quoted in M. Sahlins, Stone Age Economics, op. cit., p.125.

126: R. Firth, quoted in M. Sahlins, ibid., p.129.

127: وهكذا يُحيل م. سالينز M. Sahlins إلى نمط الإنتاج المنزلى the domestic mode of production، انظرْ Stone Age Economics, op. cit.. وعلى النقيض تُحيل ك. زاكس K. Sachs إلى نمط الإنتاج المشترك the corporate mode of production، انظرْ Sisters and Wives, op. cit., p.109.

So M. Sahlins refers to “the domestic mode of production”, Stone Age Economics, op. cit.. By contrast, K. Sachs refers to “the corporate mode of production”, see Sisters and Wives, op. cit., p.109.

128: K. Sachs, ibid., op. cit., p.116-117.

129: M. Sahlins, op. cit., p.140.

130: E. Friedl, Women and Men, an Anthropologist’s View (New York, 1975), p.51.

131: انظرْ M. Sahlins, op. cit., chapter one, R. Lee, !Kung San, op. cit., and C. Turnbull, The Forest People, op. cit..

132: هذه ملاحظة أبداها أ. تيستار A. Testart, Les chasseurs-cuedleurs ou l’origin des inegalités, Paris 1982.

133: D.O. Henry, From Foraging to Agriculture (Philadelphia, 1989), p.227.

134: يؤكد د. أو. هنرى D.O. Henryأن انهيار الشروط الإيكولوچية من أجل البحث “المعقد” عن الطعام كان يتسبب عن التغيرات المناخية. غير أن من الجائز أن السبب كان يتمثل فى الأثر التراكمى على البيئة نتيجة زيادة أعداد الباحثين عن الطعام. وربما كان لتزايد السكان أثر هائل على حجم القطعان الثديية البرية التى كانوا يتغذون عليها، مما أحدث نقصا حادا مفاجئا. ويمكن لهذا أن يفسر السبب فى وجود حالات تاريخية متكررة، فى أنحاء مختلفة من العالم، لمجتمع يقوم على البحث المعقد عن الطعام (أحيانا، كما فى بعض أنحاء أمريكا اللاتينية ذات اللجوء المحدود إلى البستنة) أن يقوم فجأة إما بالاتجاه بصورة كاملة إلى الزراعة أو بالعودة إلى الصيد والجمع المتنقلين.

135: للاطلاع على تفاسير الانتقال إلى الزراعة فى الأمريكتين، انظرْ، على سبيل المثال، R. McAdams, The Evolution of Urban Society (London, 1966), pp.39-40; F. Katz, Ancient American Civilisations (London, 1989), pp.19-22; W. Bray, From Foraging to Farming in Mexico, in J.V.S. Megaw (ed.), Hunters, Gatherers and the First Farmers outside Europe, p.225-234.

136: وفقا ﻠ P.M. Dolukhonov, The Neolithisation of Europe:a chronological and ecological approach. فى C. Renfrew (ed.), Explaining Cultural Change op. cit., p.331-336. وهذه التواريخ، كما فى كل مكان آخر، تقريبية ويمكن تماما أن تكون موضوعا للمراجعة فى ضوء معرفة أحدث.

137: للاطلاع على تقديرات التواريخ، انظرْ C.K. Maisels, The Emergence of Civilisation (London, 1990); M. Rice, Egypt’s Making (London, 1990); M.I. Finlay, Early Greece: the Bronze and Archaic ages (London, 1981); F. Katz, Ancient American Civilisations, op. cit.; and G. Connah, African Civilisations (Cambridge 1987). 

138: V. Gordon Childe, What Happened in History, op. cit., pp.59-62.

139: Ibid., p.80-81.

140: C.K. Maisels, The Emergence of Civilisation: from hunting and gathering to agriculture, cities and the state in the Near East (London, 1993), p.297.

141: C.K. Maisels, ibid., p.297.

142: V. Gordon Childe, Social Evolution (London, 1963), pp.155-6.

143: V. Gordon Childe, What Happened in History, op. cit., p.88.

144: See C.K. Maisels, op. cit., p.146.

145: T.B. Jones, quoted in C.K. Maisels, op. cit., p.184.

146: T.B. Jones and J.W. Snyder, quoted in C.K. Maisels, op. cit., p.186.

147: للاطلاع على مناقشة بشأن هذه المنشآت الحجرية قبل الحضرية، انظرْ C. Renfrew, Before Civilisation (Harmondsworth, 1976).

148: من المؤكد بالتالى أن التطورات فى بحر إيچه شجعها ما حدث فى البر الآسيوى إلى الجنوب الشرقى والبر الأفريقى إلى الجنوب، ومن المرجح أن بعض التطورات فى مصر (أنواع الغلال التى كانت تُزرع، وبعض القطع الأثرية) قد تأثرت، إلى درجة محدودة، باتصالات مع حضارة ما بين النهرين الأسبق تطورا؛ ومن الممكن تماما أن حضارات أمريكا اللاتينية كان لها اتصال ما مع حضارات شرق وجنوب شرق آسيا. 

149: V. Gordon Childe, Social Evolution, op. cit., pp.160-161.

150: Ibid., pp.160-161. ويؤكد جوردون تشايلد أنه: “لا شك فى أنه فى العالم القديم كانت حضارة المحراث قد حلت محل حضارة المعزقة قبل ظهور الحضارة. غير أن المحراث كان غير معروف عند المايا المتحضرين، الذين لم تكن لديهم أىّ حيوانات مستأنسة على الإطلاق … وفى كريت وأوروپا المعتدلة المناخ وكذلك فى المناطق القريبة من آسيا كانت المركبات ذات العجلات مستعمَلة قبل تحقيق الحضارة، غير أن مثل هذه المركبات لم تكن معروفة على النيل على مدى 1500 سنة بعد ظهور الحضارة … وفى مصر وكريت وبين السلتيِّين كانت الحضارة مسبوقة بارتقاء مكانة الملوك المقدسين الذين يتركز فى أيديهم الفائض الاجتماعى. وفى بلاد مابين النهرين، على النقيض، كان المعبد الخاص بإله فوق بشرى هو الذى يؤدى هذه الوظيفة … على حين أن ‘القبور الملكية’ لم تتميز إلا لاحقا …”

151: نظرات ماركس النافذة إلى إمكانيات مجتمع تحوز فيه طبقة حاكمة بيروقراطية أملاكا عقارية وتستغل باقى المجتمع بصورة جماعية من المحتمل أن يكون قد أسيئ تطبيقها فى كتاباته عن هند أوائل القرن التاسع عشر، حيث كانت توجد ملكية خاصة واسعة النطاق للأرض على مدى أكثر من ألف عام. انظرْ R. Tharpar, Ancient Indian Social History (Hyderabad, 1984).

152: ملاحظة أبدتها جيلى C. Gailey, op. cit., p.22.

153: انظرْ، على سبيل المثال، C.K. Maisels, op. cit., p.269. 

154: R. Tharpar, Ancient Indian Social History, op. cit., p.19.

155: انظرْ المناقشة الخاصة بهذه المسألة فى F. Katz, Ancient American Civilisations, op. cit., p.70.

156: تقديرات واردة فى A.B. Lloyd, The late period, in B. Trigger, Kemp, O’Connor and Lloyd, Ancient Egypt, A Social History, op. cit., p.310.

157: C. Gailey, op. cit.

158: And, to be honest, Gailey does not succeed in such explanation either.

159: E.R. Service, Classical and modern theories of the origins of government, in R. Cohen and E.R. Service (eds.), Origin of the State.

160: M.H. Fried, The state, the chicken and the egg, or what came first?, in R. Cohen and E.R. Service, ibid., p.35.

161: خاصةً فى المقدمة الشهيرة ﻠ The Critique of Political Economy.

162: C. Renfrew, The emergence of civilisation, in C. Renfrew (ed.), Explaining Cultural Change, op. cit., p.421 and p.424. والأهم أن الزراعة ذاتها يمكن أن تُزعزع استقرار البيئة – عن طريق خفض مستوى المياه الجوفية أو استنفاد التربة – مما يؤدى إلى “مزيد من زعزعة الاستقرار” فى المجتمع و”الضغوط المحلية على السكان”، مما يؤدى إلى التغيير، انظرْ C. Renfrew, op. cit., p.427. 

163: D.R. Harris, The prehistory of tropical agriculture, in C. Renfrew (ed.), Explaining Cultural Change, op. cit., p.398-9.

164: Ibid., p.399.

165: F. Engels, The Origin of the Family, op. cit., p.160-161.

166: Ibid., p.286.


القسم الثالث

أصل اضطهاد النساء

  لم يكن أصل العائلة يدور، بطبيعة الحال، حول ظهور الطبقات والدولة فحسب. لقد كان أيضا حول أصل اضطهاد النساء. وتتمثل وجهة نظر رئيسية فى أن النساء لم يَكُنَّ خاضعات للرجال حتى ظهور الطبقات، وأن “أول تناحر طبقىّ ظهر فى التاريخ يتزامن مع تطور التناحر بين الرجل والمرأة فى الزواج الأحادىّ، وأن أول اضطهاد طبقىّ يتزامن مع اضطهاد نوع الذكر لنوع الأنثى”(167).

ولا شك فى أن إنجلس كان محقا فى هذا. والأدلة التى جمعتْها إليانور ليكوك وآخرون بكل تدقيق تؤكد أنه لم تكن هناك سيطرة للرجال على النساء بين المستوطنين الأوروپيِّين الصيادين-الجامعين الرُّحَّل الذين نلقاهم فى القرون من السابع عشر إلى التاسع عشر(168). وكان هناك تقسيم عمل بين الرجال والنساء، حيث كان الرجال يقومون بمعظم الصيد والنساء بمعظم الجمع. غير أنه ما دام الجمع يُنْتِج فى العادة من الوجبة الوسطية أكثر من الصيد، فإن هذا لم يؤدِّ بالضرورة أىِّ تقييم للرجال وعملهم أعلى من النساء وعملهنّ. وتوافق عالمة الأنثروپولوچيا إيرنستاين فريدل Ernestine Friedl على أن الرجال، فى مجتمعات قليلة، على سبيل المثال بين السكان الأستراليِّين الأصليِّين، حيث كان اللحم هو المكوِّن الرئيسىّ للوجبة، كانوا يتمتعون بمكانة أعلى من النساء(169). غير أنها تصرّ على أن:

القرارات الفردية ممكنة لكل من الرجال والنساء فيما يتعلق بحياتهم اليومية المعتادة … والرجال والنساء على السواء أحرار فى أنْ يقرِّرُوا كيف سيقضون كل يوم: ما إذا كانوا سيذهبون للصيد أو الجمع ومع مَنْ …

وهى تشير إلى أنه عندما ينتهى الأمر، على سبيل المثال، إلى مناقشة ما إذا كان ينبغى نقل المخيَّم إلى منطقة جديدة، فإن النساء والرجال يشاركون على السواء(170). وما تزال النساء يمارسن سلطات هائلة على مسئوليتهنّ. وهكذا، على سبيل المثال، فإنه بين السكان الأستراليِّين الأصليِّين، “تمارس النساء الأكبر سنًّا نفوذا على مهامهنّ الزوجية، وعلى المهام الخاصة بأبنائهنّ وبناتهنّ”، وفى كثير من الأحيان تكون للنساء المتزوجات علاقات غرامية مع شبان غير متزوجين – هذا الوضع للأمور الذى يُعَدّ لعنة وفقا لقواعد السلوك الجنسىّ فى تقريبا كل المجتمعات الطبقية(171).

بل يذهب الأنثروپولوچيون من مدرسة إليانور ليكوك إلى أبعد من هذا. فهم يقلِّلُون من شأن الأدلة التى تقبلها لتأكيد أن الرجال كانوا دائما أعلى مكانة من النساء، مؤكدين أن هذا يعكس ببساطة الأحكام المسبقة للمراقبين الغربيِّين الذين قاموا بجمعها(172).

كذلك فإن أفكار المجتمع الطبقىّ عن “مكانة النساء” غائبة فى مجتمعات تقوم على البستنة. وتوجد فى بعض فى الأحيان البداية لهيراركية تمنح الرجال مركزا أعلى من النساء، تماما كما يمكن أنْ توجد البداية لهيراركية بين البَدَنات والأُسَر الحيازية. فقد تكون للرجال (أو على الأقل، بعض الرجال) سلطة لاتخاذ القرارات أكبر من النساء. غير أنه لا يوجد مع ذلك أىّ اضطهاد منهجىّ للنساء. ذلك أن النساء يحتفظن بمجالاتهنّ الخاصة لاتخاذ القرارات، ويمكن أنْ يقاومن القرارات التى يتخذها أقرانهنّ.

وتوجد عادةً أبنية تقيِّد مَنْ يمكن أنْ يتزوجهم الأشخاص، وتقوم المدرسة البنيوية القوية النفوذ للأنثروپولوچيا، التى تستلهم كلود ليڤى ستروس Claude Levi Strauss، بتفسير هذا على أنه يعنى أن النساء تجرى معاملتهنّ ببساطة كموضوعات للتفاوض بين الرجال. غير أنه، كما شدد كلٌّ من كارين ساكس Caren Sachs، و كريستين جيلى، و إيرنستاين فريدل، وآخرون، لا يكون الرجال بوصفهم كذلك هم الذين يحددون مَنْ هم المسموح للأشخاص بالزواج منهم، بل بَدَنات “العشائر المشتركة”. وفى العادة تكون للنساء المسنات وكذلك للرجال المسنين كلمة فى هذه القرارات.

ومن الجلىّ تماما أن هذا هو الحال فى مجتمعات يصفها الأنثروپولوچيون على أنها matrilineal (مرتبطة بخط الأصل الأمومىّ) و matrilocal (مرتبطة بالإقامة عند أهل الزوجة). وفى مجتمعات الخط الأمومىّ يجرى تتبُّع الأصل على خط الأنثى: لا تكون أهم روابط شخص ما مع أبيه (الذى ينتمى إلى بَدَنة مختلفة)، بل إلى أمه وأخى أمه؛ وبنفس الطريقة، لا تكون المسئولية الرئيسية لرجل إزاء أطفاله البيولوچيِّين بل إزاء أطفال أخته. وفى مجتمعات الإقامة عند أهل الزوجة لا يدير رجل أسرته هو، بل ينتقل إلى أسرة أخرى تديرها زوجته، وأخواتها، وأمها.

وحيثما يكون المجتمع منظما على خط الأصل الأمومىّ وعلى الإقامة عند أهل الزوجة فى آنٍ معا، يمارس الرجال سلطة ضئيلة جدا فى الأُسَر الحيازية التى يعيشون فيها بالفعل. أما حقوق رجلٍ ومسئولياته فإنها تكون دائما مع أسرة حيازية أخرى، هى جزء من بَدَنة أخرى – بَدَنة زوجته، وأختها، وأطفالها. وهناك يمكنهم أنْ يمارسوا سلطة ما – وهذا هو السبب فى أن هذه المجتمعات ليست “أموميات”، مجتمعات تحكمها الأمهات. غير أن غيابها عن تلك الأسرة الحيازية يعنى بالضرورة أنها سلطة محدودة، وليست أكبر من سلطة النساء.

ومما له دلالته أن المدرسة البنيوية، بإصرارها على أن النساء هن فى كل مكان موضوع ترتيبات بين الذكور، قلما تشير إلى مثل هذه الحالات(173).

وليست كل مجتمعات خط الأصل الأمومىّ مجتمعات إقامة عند أهل الزوجة. وعلى سبيل المثال فإنه بين الأوهافيا Ohaffia، وهم شعب من شعوب الإيبو Ibo فى شرق نيچيريا، يتمّ تتبُّع الأصل على أساس الخط الأمومىّ غير أن الإقامة تكون مع أقارب الزوج. غير أنه حتى هنا لا تكون النساء خاضعات للأزواج(174). وفى هذا المجتمع، “يكون الطلاق ممنوحا بمجرد رغبة أىٍّ من الزوجين”، و”الابنات يُقَدَّرْنَ عاليا”، و”علاقة … الزوج والزوجة … تبدو علاقة احترام متبادَل وتوافق بينهما”(175).

وأخيرا توجد مجتمعات بستنة يكون فيها النَّسَب عبر خط الذكور وتكون الإقامة بعد الزواج مع عائلة الزوج. غير أنه حتى هنا يكون للنساء مع هذا نفوذ أكبر كثيرا مما هو عادىّ فى المجتمعات الطبقية. ويُمارَس هذا النفوذ عبر البَدَنات. ولا تكون امرأة مجرد زوجة، تابعة فى أسرة حيازية و بَدَنة غريبتين. فهى أيضا أخت، واحدة ذات نفوذ فى اتخاذ القرارات الخاصة ببَدَنتها هى. وسيرغب أقارب زوجها فى الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع تلك البَدَنة. ويعطى مركزها لأقارب زوجها (بما فى ذلك أمه وأخواته) بعض السيطرة على إنتاجيتها. غير أن مركزها كأخت يعطيها بدوره بعض الحق على محصول إخوتها وزوجاتهم. وفى أثناء حياتها، ستنتقل من أنْ يُنْظَر إليها بصفة رئيسية على أنها تابعة، باعتبارها “زوجة”، إلى أنْ يُنْظَر إليها بصفة رئيسية على أنها “أخت” و”أم”. وهى باعتبارها كذلك “مُوَجِّهة” ﻠ “العمل ووسائل الإنتاج”(176).

وليس هذا عالم عائلات نووية منعزلة تكون المرأة فيها موضوعا لنزوات شريك حياتها. كما أنه ليس عالم أُسَر حيازية پطريركية يحدد فيها الآباء القانون للزوجات، والأطفال، والخدم. إنه عالم يكون فيه كل فرد، ذكرا كان أم أنثى، مقيَّدا داخل شبكة من الحقوق والمسئوليات المتبادلة تختلف من مرحلة فى الحياة إلى أخرى، حيث تقوم بتعيين حدود حرية الناس من نواح شتى، ولكنْ تاركة لهم مع ذلك استقلالا ذاتيا أكثر بوجه عام مما فى المجتمعات الطبقية(177).

وينظر الأنثروپولوچيون البنيويون إلى انتقال المرأة من أسرة حيازية (أسرة أبيها)، إلى أسرة حيازية أخرى (أسرة زوجها) على أنه “تبادل” للنساء بين الرجال. غير أن المرأة لا تنتقل بين رجال، بل بين بَدَنتين، تشتمل كل واحدة منهما على نساء أخريات. ويتمثل مركزها فى أنه يُنظر إليها على أنها خسارة لأسرة حيازية ومكسب لأخرى. وفى كثير من الأحيان كان على أب الزوج أنْ يُسَلِّم سلعًا لأسرة أبويْها الحيازية (ما يسميه الأوروپيون bride-price = المَهْر [وحرفيا: “ثمن العروس”]) لتعويضها عن خسارتها، وهو موقف يختلف بصورة ملحوظة عنه فى مجتمعات تنتقص من قيمة النساء، حيث يكون على عائلات النساء أنْ تدفع دوطة للتخلص منها. وفى الزواج، يمكن أن تكسب المرأة ذاتها “زيادة فى المكانة والاستقلال الفرديَّيْن”، كما تخبرنا جيلى عن تونجا (178)Tonga. 

ويخلط البنيويون الالتزامات المتبادلة التى تربط مختلف البَدَنات ببعضها البعض فى المجتمعات قبل-الطبقية مع التبادل التجارىّ، وبالتالى موقفا فيه “تنتقل النساء إلى الوراء وإلى الأمام كشخصيات ذات قيمة، عاملات بنشاط داخل – ومؤثرات فى – شبكات العلاقات التى تخلقها انتقالاتهنّ” مع الهبوط بهنّ إلى سلع حقيقية(179).

ويصير الخلط أسهل باندماج اقتصادات تقريبا كل زارعى البساتين الباقين فى الاقتصاد العالمىّ باستخدام المال(180). والواقع أن حاجة الناس إلى المال للإنفاق على سلع السوق تؤدِّى بهم إلى النظر إلى العلاقات القديمة ذات الالتزامات المتبادلة بطريقة جديدة، كوسيلة لتحقيق النقود. وفى العادة يكون الذكور هم الذين يرتبطون بصورة مباشرة بالسوق خارج القرية ويميل هذا إلى منحهم قوة ومكانة لم يعتادوا مطلقا على أنْ تكونا لهم. ويجعل الاتصال بالعالم الرأسمالىّ مجتمعات البستنة تحاكى علاقاته الاجتماعية – وعندئذ يزعم الأنثروپولوچيون الغربيون أن هذا يبرهن أن تلك العلاقات الاجتماعية النموذجية للرأسمالية شاملة لكل المجتمعات.

وعلى كل تحليل علمىّ للمجتمعات الزراعية المبكرة أنْ تُزِيل مثل هذه التشويهات.

ويمكن ألا نعرف أبدا ما إذا كان أصل الخط الأمومى شاملا ذات يوم، كما تشير إليانور ليكوك، لأننا لا نملك أىّ طريقة لندرس بالتفصيل مجتمعات سابقة على معرفة القراءة والكتابة قبل تأثير الاقتصاد الرأسمالىّ. ولكن ما يمكن أنْ نقوله مع ذلك هو أنه لم يكن هناك وجود لأىّ تجربة شاملة لاضطهاد الأنثى وأنه لم يصبح مظهرا منهجيا للمجتمع إلا مع الانقسام إلى طبقات ونشأة الدولة. وفيما يتعلق بهذا كان إنجلس مصيبا 100 فى المائة.

أخطاء ثانوية

غير أن إنجلس كان مخطئا إلى أبعد حد بشأن مسألتين ثانويتين أخذهما هو نفسه بجدية إلى حد أنه جعل أصل العائلة عملا مضلِّلا إنْ لم يُقرأ قراءة نقدية.

فقد أخذ عن مورجان الرأى القائل بأن تصنيفات الأقارب الموجودة فى مجتمعات البَدَنات (حيث، على سبيل المثال، تسمَّى كل امرأة فى البَدَنة من نفس جيلك “أختا”، وكل رجل من جيل والديك “عمًّا/خالا”، وهكذا إلخ.) ترجع إلى شكل سابق، مختلف تماما للتنظيم الاجتماعىّ(181). وقد تمثل نظام تصنيف الأقارب، فيما اعتقد إنجلس، فى “أحفور اجتماعىّ” يمكِّننا من فكّ شفرة تاريخ العائلة. كما أخذ عن مورجان الاستنتاج القائل بأن هذه “الأحفورات” أثبتت أنه كانت توجد مرحلة “زواج جماعىّ”، عندما كانت مجموعة من الإخوة يتزوجون من مجموعة من الأخوات(182). وأكد أن هذه كانت “سمة مميِّزة للوحشية”، على حين أن “عائلة التزاوج” pairing family، كانت السمة المميِّزة للبربرية(183). 

والواقع ، كما سبق أنْ رأينا، أن الصيد والجمع المتنقلين (“الوحشية” savagery) لا يتميَّز ببَدَنات قوية وناهيك بالزواج الجماعىّ بل يتميَّز بالتنظيم المرن للأزواج وأطفالهم فى زُمَر(184). ونظر إنجلس إلى منظمات البَدَنة على أنها بقايا من زمن كانت فيه للعلاقات الجنسية “سمة غابية، بدائية، ساذجة”(185). والواقع أن آليات معقدة كانت هى التى تنسق المجتمع بمجرد أنْ سمحتْ الزراعة المبكرة بتكوين القرى من مئات من السكان – وكانت فى الواقع تعبيرا عن تطور قوى الإنتاج، وليست أثرا باقيا من “علاقات الإنتاج” القديمة. وكان إنجلس مخطئا، ليس لأن منهجيته الماركسية الأساسية كانت خاطئة، بل لأنه لم يطبقها بصورة متماسكة بالقدر الكافى.

وكان مخطئا أيضا لأنه حاول أنْ يفكّ شفرة حتى شكل أسبق من العائلة، هى تلك التى يشير إليها بأنها الجماع المختلط البدائىّ [دون تمييز] “primitive promiscuity”. وزعم أن مرحلة كهذه لا بد أن تكون قد وُجدتْ فيما كانت القِرَدة العليا الأسلاف تتحول إلى بشر، لأنها وحدها كان بمستطاعها أنْ تمنع “الذكور الغيورين” من تعطيل كل المحاولات الرامية إلى التعاون المطلوب لمواجهة الطبيعة. غير أن منطقه ينهار فقط بعد صفحة واحدة أو نحو ذلك، عندما يعلِّق، “الغيرة عاطفة ناشئة عن تطور متأخر نسبيا” – وهذا استنتاج تشير الأبحاث عن الغوريلا والشيمپانزى، كما سبق أنْ رأينا، إلى أنه صحيح(186). كذلك فإن تصوره عما كان يعنيه ﺒ “الجماع المختلط البدائىّ” غير واضح بحال من الأحوال، إذْ إنه يشير عند نقطة ما إلى أن كان أكثر قليلا مما نسميه اليوم “الزواج الأحادىّ المتسلسل” serial monogamy، القائم على “تزاوجات منفصلة لوقت محدود”(187).

والواقع أن إنجلس يرتكب هنا خطأ الوقوع فى التخمين الأعمى بشأن فترة طويلة للغاية (أكثر من 3 ملايين سنة) وهى فترة لا يعرف هو ولا نعرف نحن بشأنها أىّ شيء على وجه اليقين. فنحن لا نعرف ما إذا كانت القِرَدة العليا الأسلاف منظَّمة فى مجموعات متمحورة حول الذكور مثل قرود الشيمپانزى العادية أم فى مجموعات متمحورة حول الإناث مثل أقزام الشيمپانزى، ولا شك فى أننا لا نعرف كيف نشأ شكل التنظيم المميِّز للصيادين الجامعين المتنقلين الحديثين. ومن الأفضل أنْ نتمسك بما نعرفه بالفعل – وهو أن العلاقات بين النساء والرجال بين الصيادين-الجامعين الباقين، كانت مختلفة عن تلك التى تُعتبر أمرا مفروغا منه فى المجتمعات الطبقية والتى تتجسد فى معظم مفاهيم الطبيعة البشرية(188).

وهناك خطأ آخر لم يقع فيه إنجلس نفسه بالفعل، ولكنْ يَعزوه إليه كلٌّ من الأنصار والخصوم فى كثير من الأحيان. ويصدق هذا على استعمال لفظة “أمومية” matriarchy بمعنى فترة من حكم الإناث سابقة لفترة سيطرة الذكور. وأولئك الذين يستخدمونها يفترضون مسبقا أنه يوجد دائما شيء ما قريب من السيطرة الطبقية والدولة، ولكنْ أنه كان فى وقت ما تحت رعاية النساء وليس الرجال. وقد رفض إنجلس صراحةً أىّ مفهوم من هذا القبيل. وقد أخذ تعبير “حق الأم” عن الكاتب الألمانىّ باخوفين Bachofen لوصف حساب الأصل على أساس خط الأنثى الذى كان، فيما اعتقد، شاملا فى مرحلة ما. غير أنه أضاف “وأنا أحتفظ بهذا التعبير فى سبيل الإيجاز. على أنه اختيار غير ملائم، لأنه فى هذه المرحلة الاجتماعية لم يكن هناك أىّ شيء من قبيل حق بالمعنى القانونىّ”(189). ولا شك فى أن السمة المميِّزة لكل من مجتمعات الصيادين-الجامعين والمجتمعات الزراعية المبكرة كانت تتمثل فى تشارك النساء والرجال على السواء فى اتخاذ القرارات، وليس فى استبعاد أحد الطرفين للآخر.

زيارة جديدة لمناقشة إنجلس

يكون إنجلس فى أفضل حالاته عندما يصف نشأة اضطهاد النساء، “الهزيمة التاريخية العالمية لجنس الأنثى”، كما يعبِّر هو، وهو يربطه بنشأة المجتمع الطبقىّ. غير أن مناقشته تضطرب أحيانا عندما يحاول توضيح الآليات الماثلة وراء هذه الهزيمة. وهو لا يبيِّن لماذا كان الرجال بالضرورة هم الذين يسيطرون فى المجتمع الطبقىّ الجديد. ويقول إن الرجال انتهوا إلى إنتاج كلٍّ من الطعام وأدوات الإنتاج، وإن هذا منحهم بالضرورة حقوق الملكية والسيطرة على الفائض(190)، وإنهم أرادوا أنْ ينقلوا الملكية إلى أبنائهم، وليس إلى أقارب زوجاتهم. غير أنه لا يوضِّح لماذا كان ينبغى أنْ يشعروا فجأة بهذه الرغبة بعد آلاف من السنين كانت أوثق ارتباطاتهم فيها مع أطفال أخواتهم(191). وقد جرى القيام بنوعين من المحاولات لملء الفجوة فى هذه المناقشة.

هناك أولا تفسير أولئك الذين مثل إليانور ليكوك و كريستين جيلى اللتين شددتا على تأثير نشأة الدولة فى سحق البَدَنات القديمة التى مارستْ النساء فيها نفوذهن. وتُخْضِع الدولة باقى المجتمع للطبقة الحاكمة الناشئة الجديدة. غير أن ذلك يعنى تدمير “السلطة والاستقلال النسبيين” لمجتمعات القرابة القديمة. وبقدر ما تبقى [هذه المجتمعات] على قيد الحياة، فإنها تكون بمثابة أحزمة نقل من أجل فرض مطالب الدولة والطبقة الحاكمة على جماهير الناس. وينطوى هذا على اتخاذ ليس فقط القرارات الإنتاجية بل أيضا القرارات الإنجابية بعيدا عن أعضاء هذه المشاعات. والنساء، لكونهن المنجبات البيولوچيات، يخسرن(192).

غير أن هذا التفسير، فى حد ذاته، لا يوضح بأىّ صورة أفضل من تفسير إنجلس لماذا كان لا ينبغى أنْ يكون للنساء نصيب مساوٍ من السلطة والنفوذ مع الرجال فى الطبقة الحاكمة الجديدة والدولة – ولا لماذا كان لا بد أيضا من أنْ يجرى فى العادة الهبوط بالنساء إلى دور ثانوىّ بين الطبقة المستغَلة. وهو يشرح انهيار النظام القديم ولكنْ ليس هيراركية النوعين (الذكر والأنثى) التى توجد فى النظام الجديد.

ويشدد تفسير بديل، عبَّر عنه بطريقتين مختلفتين جوردون تشايلد، و إيرنستاين فريدل، على الدور الإنتاجىّ للنساء والدور الذى تلعبه البيولوچيا فى مراحل مختلفة فى التطور التاريخىّ.

ويوضح تشايلد أنه فى العصر الحجرىّ الحديث المبكر لعبتْ النساء دورا رئيسيا فى الإنتاج. وكان هناك تقسيم للعمل، كان الرجال فى إطاره يرعون الأسراب والقطعان. غير أن مفتاح فهم ثورة العصر الحجرىّ الحديث كان يتمثل ، كما أكد، فى:

اكتشاف نباتات مناسبة وطرق ملائمة لزراعتها، وابتكار أدوات خاصة لفلاحة التربة، وحصد وتخزين المحاصيل وتحويلها إلى طعام … وكانت كل هذه الاختراعات والاكتشافات، كما تؤكد الأدلة الإثنوجرافية، من عمل النساء. وإلى هذا النوع [النساء] أيضا قد تُعْزَى كيمياء صناعة القدور، وفيزياء الغزْل، وميكانيكا أنوال النسيج، علم نبات الكتان والقطن(193).

و، “بسبب دور إسهامات النساء فى الاقتصاد الجماعىّ، كان من الطبيعىّ أنْ تُحْسَب القرابة على أساس خط الأنثى وأنْ يسود نظام ‘حق الأم’”(194).

على أن كل هذا تغيَّر بمجرد أنْ حلّ المحراث محلّ المعزقة وعصا الحفر بوصفه الأداة الزراعية الرئيسية. وكانت تربية الماشية بالفعل مجالا للذكور، وحوَّل المحراث الزراعة الحقلية إلى مجال لهم أيضا، هابطا بحدَّة بمكانة النساء فى الإنتاج:

المحراث … خلَّص النساء من الكدح الأكثر إرهاقا غير أنه حرمهن من احتكارهن الخاص بالحبوب الغذائية والمكانة الاجتماعية التى كان يمنحه ذلك لهن. وبين البربريِّين فيما كانت النساء يعزقن عادةً قِطَع الأرض، كان الرجال هم الذين يحرثون. وحتى فى أقدم الوثائق السومرية والمصرية كان الحراثون بالفعل من الذكور(195).

وتؤكد إيرنستاين فريدل أن المركز النسبىّ للرجال والنساء فى مجتمعات البستنة يعتمد على إسهامهم فى الإنتاج. وهناك، على سبيل المثال، بعض مجتمعات البستنة التى تنتج النساء فيها المحاصيل الرئيسية ويكون الرجال فيها هم الذين يقومون بالتبادل، ومجتمعات أخرى ينتج فيها الرجال المحاصيل الرئيسية والنساء هن اللائى يقمن بالتبادل(196). والمجتمعات من النوع الأول هى التى يكون فيها للرجال المركز الأعلى. و”سيادة سيطرة الذكور نتيجة منطقية للتواتر الذى يمتلك به الرجال حقوقا أكبر من النساء فى توزيع السلع خارج الجماعة المحلية”(197).

وتشير فريدل إلى أن بعض الأنشطة تميل فى معظم المجتمعات إلى أنْ يقوم بها الرجال أكثر من النساء. وفى بعض مجتمعات الصيادين-الجامعين تقوم النساء بالصيد بالفعل، غير أنهن “يُمنعن من الصيد فى المراحل الأخيرة للحمل … [و] بعد الولادة نتيجة عبء نقل الطفل”(198). وفى المجتمعات الزراعية المبكرة، يمكن قيام أىٍّ من النوعين بالحِرَف، غير أن “العمل الذهنىّ يكون بالكامل تقريبا مهارة للرجل”(199). وفى معظم المجتمعات – ولكنْ ليس فيها كلها – يكون الرجال وحدهم هم المحاربين.

ويشكِّل تفاعل بين الضرورات البيولوچية والحاجات الاجتماعية أساس مثل هذه التغيرات فى تقسيم العمل. وعلى النوع البشرىّ أنْ يعيد إنتاج نفسه إذا كان لأىّ مجتمع أنْ يواصل البقاء. غير أن حجم إعادة الإنتاج (الإنجاب) – عدد الأطفال المطلوبين من كل امرأة بالغة – يختلف اختلافا هائلا. وفى مجتمع صيادين-جامعين متنقل، كما سبق أنْ رأينا، توجد مكافأة على المباعدة بين الأطفال بحيث لا تكون أىّ امرأة مسئولة عن أكثر من طفل واحد فى المرة الواحدة. وعلى النقيض، من المحتمل أنْ يكون أىّ طفل، فى المجتمعات الزراعية، مزارعا إضافيا، وهناك حاجة إلى التعويض عن معدل وفيات أعلى، نتيجة لتعرُّض أكبر للأمراض المعدية، وويلات الحروب التى لا نهاية لها(200). وهكذا فكلما كان معدل الإنجاب أعلى كان من المحتمل أنْ يكون ذلك المجتمع أنجح. ويكون هذا فى مصلحة المجتمع بأكمله (بما فى ذلك مصلحة نسائه) لكى لا تشترك النساء فى أنشطة (مثل المجهود الحربىّ وسَفَر المسافات الطويلة، والمهام الزراعية الثقيلة) تعرِّضهن لأشد مخاطر الموت، أو العقم، أو الإجهاض – أو تعرِّض للأخطار الأطفال الذين يعتمدون فى طعامهم على لبن أمهاتهم. 

ويوضح هذا السبب وراء أن النساء يقمن فى كثير من الأحيان بمعظم إنتاج الطعام فى مجتمعات تعتمد على المعزقة وعصا الحفر، ولكنْ ليس فى المجتمعات التى تعتمد على المحراث أو تربية قطعان الماشية. وقد تشتمل المجموعة الأولى من الأنشطة على عمل بدنىّ شاقّ ومرهق، غير أن من غير المحتمل أنْ تؤثر على معدل الإنجاب بصورة غير ملائمة بالطريقة التى تؤثر بها المجموعة الثانية. ونساء مثل هذا المجتمع لهن قيمة للقرية، أو البَدَنة، أو الأسرة الحيازية فيما يتعلق بإعادة الإنتاج المادية أكثر من الرجال – ولهذا يجرى الاحتفاظ بهن بعيدا عن الأنشطة التى قد تهددهن، أو تهدد قدرتهن الإنجابية على الأقل، بالخطر.

وتتمثل النتيجة فى أن النساء أساسيات للإنتاج، وكذلك للإنجاب، فى مجتمعات الصيد-والجمع والمجتمعات الزراعية المبكرة. غير أنه يجرى استبعادهن من أنواع الإنتاج التى تنتج الفائض الأكبر مع ظهور الزراعة الثقيلة، والثورة الحضرية، والانتقال من المجتمع “المشاعىّ” أو مجتمع “مشترك القرابة” kin corporate إلى المجتمع القبلىّ.

غير أن تفسيرا من حيث المحراث وتربية الماشية ليس كافيا، إذْ إن الطبقات نشأتْ فى العالم الجديد قبل أن يقود الفتح الأوروپىّ إلى إدخال المحراث بألفية ونصف(201). غير أنه كان هناك تحوُّل إلى نوع مختلف من الزراعة الثقيلة مع الاستخدام الأول لأعمال الرىّ المحلية. وكان هناك نمو لأنشطة أخرى كانت النساء مستبعدات منها عادة بسبب دورهن الإنجابىّ – تجارة المسافات البعيدة والمجهود الحربىّ. وقد زادت كل هذه الأنشطة الفائض المتاح لمجتمع محدَّد. وكانت كلها تميل إلى أنْ يؤديها رجال وليس نساء. وكانت كلها تشجع تحوُّل المجموعات المحترمة للغاية من الناس إلى طبقات مسيطرة.

ومعظم الرجال الذين أنجزوا عبء هذه الأنشطة الإنتاجية الجديدة لم يصيروا جزءا من الطبقة السائدة. ومعظم الحراثين لم يصيروا أمراء ومعظم الجنود لم يصيروا أمراء حرب، كما أن هؤلاء وأولئك لم يشكِّلوا الكهنة الذين انتهوا فى كثير من الأحيان إلى تكوين الطبقة الاجتماعية الأولى والذين لم ينخرطوا مطلقا فى عمل ثقيل من أىّ نوع. غير أن الأشكال الجديدة للإنتاج ساعدتْ على انهيار القرابة القديمة القائمة على الأشكال المشاعية للتنظيم، العنصر الأساسىّ فى تفسير جيلى و ليكوك.

  وطالما كانت النساء يقمن بالكثير من الإنتاج الغذائىّ كان من المعقول فى نظر الجميع أنْ تكون الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى تحت سيطرة البَدَنات التى كانت تديرها من خلال خط الإناث. وقد ضمن هذا استمرار الفلاحة عبر الأجيال. وكان بوسع امرأة وأخواتها وأزواجهن أنْ يتطلعوا إلى قيام بناتهم بزراعة أرض البَدَنة وأنْ يقمن بإعالتهم عندما يتقدم بهم العمر. وكان واقع أن الأرض لا تنتقل إلى الابن غير مهم لأىٍّ من الأم أو الأب، ما دام لن يكون مسئولا عن العبء الرئيسىّ للإنتاج الغذائىّ.

غير أنه بمجرد أنْ صار المنتجون الرئيسيون للغذاء هم الرجال، تغيَّر الحال. فقد صار الزوجان معتمدين على إنتاج الجيل التالى من الذكور لرعايتهما عندما لا يعودان قادرين جسمانيا على إعالة نفسهما بصورة كاملة. وانتهى بقاء أىّ أسرة محددة على قيد الحياة إلى أنْ يعتمد أكثر كثيرا على الصلة بين الذكور من جيل والذكور من الجيل التالى وليس بين الإناث. وكان الاعتماد على أبناء أخوات الأب، الذين يمكن أنْ يعملوا هم أنفسهم على أرض تسيطر عليها بَدَنات قرابة أخرى (بَدَنات الزوجات) أقل جدارة بالثقة كثيرا من محاولة الاحتفاظ بأبناء الزوجين مرتبطين بأسرة الوالديْن. وبدأ الخط الأبوىّ والإقامة عند أهل الأب يتلاءمان مع منطق الإنتاج أكثر كثيرا من الخط الأمومىّ والإقامة عند أهل الأم. 

وشجَّع إحلال الفلاحة المستمرة محل الزراعة المتنقلة (أو القطع والحرق) لنفس الأرض هذا التطور. فقد جعل ذلك من الضرورىّ إدخال تدابير لتحسين الأرض على مدى أكثر من جيل، تدابير كان من شأنها أنْ يقوم بها الرجال بصفة رئيسية ولهذا كان من شأنها أنْ يشجعها التشديد على علاقات بين أجيال متعاقبة من الزارعين الذكور، المرتبطين بنفس قطعة الأرض.

وأخيرا، شجَّع ظهور الطبقات والدولة على حساب البَدَنات على سيطرة الذكور بين الطبقات السفلى بمجرد أن صار الرجال المنتجين الرئيسيِّين للفائض. وإنما عليهم كانت السلطات الناشئة حديثا ستضع المسئولية عن تسليم جزء من المحصول. وكان عليهم أنْ يفرضوا هذه المطالب على وحدة الأسرة الحيازية ككل، بادئين إدارة عملها والسيطرة على استهلاكها.

 الطبقة، والدولة، واضطهاد النساء

لا يكاد يكون من المهم فى هذا المخطط ما إذا كانت أم لم تكن العلاقات المنتمية إلى خط الأصل الأمومىّ والمنتمية إلى خط الإقامة عند أهل الزوجة matrilineal-matrilocal شاملة فى الأصل. ذلك أنه حتى إذا كانت قد وُجدتْ فقط فى أقلية من الحالات، فقد حلَّتْ محلها فى كل مكان تقريبا علاقات منتمية إلى خط الأصل الأبوىّ patrilineal بمجرد أنْ تطورت الزراعة متجاوزة مرحلة بعينها. وبدأ تطور الطبقات والدولة، بدورهما، فى تحويل خط الأصل الأبوىّ patrilineality – النَّسَب عبر خط الذكور، المقيَّد بشبكة معقدة من علاقات القرابة – إلى الپطريركية، أىْ سيطرة الرجل الأكبر سنا على الأسرة الحيازية.

غير أن تطور الطبقات والدولة لم يحدثا بين عشية وضحاها. بل كان يتمثل فى عملية استغرقت مئات، وحتى آلاف السنين. وكان أولئك الذين تشكلت منهم أولى الطبقات الحاكمة هم أولئك الذين كان أسلافهم قد حققوا مراكز رفيعة فى المجتمعات اللاطبقية التى كانت موجودة من قبل. عن طريق تركيز موارد فى أيديهم، وإنْ كانت موارد يعاد توزيعها على باقى المجتمع. ولأن هذه المجتمعات كانت قد بدأت بالفعل فى تحقيق الانتقال إلى خط الأصل الأبوىّ فإنها كانت تميل إلى أنْ تكون ذَكَرية.

ولم يكن المعنىّ لحظة واحدة من الانتقال، بل عملية طويلة تطورية بصورة جدليّة. وكان من شأن الانتقال من خط الأصل الأبوىّ أنْ يشجِّع ظهور الرجال بوصفهم الشخصيات المسيطرة على موارد المجتمع. وكان من شأن هذا أن يشجِّع ، بدوره، ظهور الپطريركية داخل الأسر الحيازية. وكان من شأن الپطريركية داخل الأسرة الحيازية بالتالى أنْ تشجِّع سيطرة الذكور داخل الطبقة الحاكمة والدولة

. وقد بدأوا فى تحويل السيطرة القديمة للقرابات على ترتيب الزيجات لصالحهم، بحيث إن التزاوج بين البَدَنات الذى كان يربط ذات يوم كل المجتمعات ببعضها البعض عبر روابط التبادل التعاونىّ reciprocity جرى تحويله إلى “تبادل exchange النساء” بصورة واعية تهدف إلى تعزيز تدفق الموارد إلى أيدى خط الذكر السائد.

وعندئذ، صارت النساء، اللائى كُنَّ المنتجات الأساسيات بالإضافة إلى كونهن المنجبات، خاضعات للذكور على كل مستويات المجتمع. وبين الطبقات المستغَلة ظللن يعملن. بل حتى فى الحالات المتواترة التى كُنَّ ينتجن فيها بالفعل أكثر من الرجال بصفة عامة فإنهن لم يكُنَّ يُنتجن ويسيطرن على الفوائض الأساسية التى كانت تحدد علاقة الأسرة الحيازية بباقى المجتمع، وهكذا كُنَّ خاضعات للرجال (أو، بدقة أكثر، للرجل الواحد الذى كان يسيطر على كلٍّ من النساء والذكور الأصغر سنا فى الأسرة الحيازية الپطريركية الزراعية أو الحرفية). وكانت الاستثناءات الوحيدة تتمثل فى الحالات العرضية التى كان يؤدِّى فيها غياب الذكر عن الأسرة الحيازية (على سبيل المثال فى بعض مجتمعات الصيد أو بين بعض جماعات الحرفيِّين عندما كان يحدث الموت المبكر للزوج) أو مشاركة النساء فى بعض أشكال التجارة (على سبيل المثال فى غرب أفريقيا) إلى منحهن السيطرة على الفائض. فقد صارت المرأة، فى هذه الحالات، نوعا من الپطريرك الأنثى. غير أن هذه الحالات كانت الاستثناء بالضرورة، ولم تكن القاعدة على الإطلاق. وبطبيعة الحال فإنه فى الحالات التى كان يقوم فيها الإنتاج على أساس عمل جماعات gang labour العبيد، لم تكن هناك أىّ أسرة حيازية ولم يكن هناك ذكر يسيطر مطلقا فى قاعدة المجتمع.

وبين الطبقات الحاكمة صارت النساء مضطهَدات بطريقة مختلفة. فقد صِرْنَ دُمًى فى المناورة بين مختلف الحكام، يُستخدمن لتعزيز المركز الاجتماعىّ لشخص على حساب شخص آخر. وهكذا فإنهن بعد أنْ شاركن فى استغلال باقى المجتمع، نادرا ما كُنَّ متكافئات تماما مع رجال الطبقة الحاكمة، بحيث يبادرن بالأحداث على مسئوليتهن. وفى الأحوال القصوى، كُنَّ حبيسات عالم يخصهن وحدهن، عالم نظام الحجاب (الپوردا purdah) والحريم، الذى يكون فيه النوع الوحيد من المشاركة الذى كان بوسعهن أنْ يأملن فى القيام به فى العالم الأوسع من مسافة، من خلال استمالة مشاعر زوج أو ابن. ومرة أخرى، كانت هناك استثناءات خاصة بالملكة أو الأرملة الغنية التى أمسكت بالسلطة الكاملة فى يديها. غير أنه مرة أخرى، لم يكن الاستثناء يصير القاعدة مطلقا.

وبالتالى، يمكن أنْ يكون إنجلس مخطئا فى تفسير بعض العمليات المعنية فى نشأة العائلة الپطريركية. غير أنه كان محقا فى إلحاحه على حداثتها التاريخية وفى النظر إليها على أنها “هزيمة تاريخية عالمية” للنساء، وليس على أنها مجرد “ثورة”، بل على أنها “أكثر ثورة حسما جرت تجربتها مطلقا” فى تاريخ البشرية. كما كان محقا عندما أضاف أنها حدثت بطريقة “لم تكن بحاجة إلى إرباك عضو حىّ” فى المجتمع.

ذلك أن التحول فى الواقع على قمة وقاع المجتمع كان منعكسا بالضرورة فى تحولات فى الأيديولوچيا. وبين بقايا مجتمعات ما قبل التاريخ فى العصر الحجرىّ الحديث المبكر تكثر التماثيل الصغيرة، حيث تدلّ على عبادة الآلهات، على حين أن تماثيل عبادة القضيب لم تكن موجودة(202). وبمجرد تطور المجتمعات الطبقية، يكون التشديد بصورة متزايدة على دور الآلهة، حيث تميزت الديانات الكبرى التى سيطرت منذ القرن الخامس قبل الميلاد فصاعدا عبر معظم أوراسيا بالقدرة الكلية لإله واحد ذكر. وصارت أيديولوچيا الحكام والمحكومين أيديولوچيا سيادة الذكر، حتى إذا كان قد جرى السماح لشخصيات نسائية فى بعض الأحيان بدور ثانوىّ.

كما ألحّ إنجلس على شيء آخر. فالمزيد من تطور وسائل الإنتاج جلب معه المزيد من التغيرات فى شكل العائلة وطابع اضطهاد النساء. وقد زعم أن هذا قد حدث عندما حلَّ محلّ نمط الإنتاج العبودىّ القديم النظام الإقطاعىّ، الذى كان، وفقا له، مصحوبا بإحلال “العائلة الأحادية” monogamous family محل “الأسرة الحيازية الپطريركية” patriarchal household. “الزواج الأحادىّ الجديد … غلَّف سيطرة الرجال بأشكال ألطف وسمح للنساء بأن يشغلن،على الأقل فيما يتعلق بالمظاهر الخارجية، مركزا أكثر حرية وأكثر احتراما من العصور القديمة”(203).

ولاتهمنا هنا تفاصيل التغيير. والمهم هو بصيرة إنجلس النافذة التى تقرر أنه كانت هناك تغيرات، حتى داخل المجتمع الطبقىّ، فى طبيعة العائلة وطابع اضطهاد النساء. ولا يمكن إدراج العملية بأكملها تحت المقولة الوحيدة المتمثلة فى “الپطريركية” بالطريقة التى حاول بها الكثير من النظريِّين النسويِّين الحديثين أنْ يفعلوا. ذلك أنه كانت هناك دائما اختلافات هائلة بين عائلات الطبقة المستغِلة والطبقات المستغَلة: لا يمكنكم أنْ تساووا ببساطة بين عائلة مالك العبيد الرومانىّ وعائلة العبد الرومانىّ، ولا بين عائلة السيد الإقطاعىّ وعائلة فلاح العهد الإقطاعىّ. وكانت هناك اختلافات كبيرة فى العائلة كلما انتقلتم من طبقة حاكمة إلى أخرى. ذلك أن مجتمعا تلعب فيه نساء الطبقة الحاكمة دورا عاما ولكنْ ثانويا – كما فى أوروپا الإقطاعية كما شهدها تشوسر Chaucer أو بوكاتشيو Boccacio – يختلف من نواحٍ مهمة عن مجتمع يعشن فيه فى نظام الحجاب (الپوردا). كما أن مجتمعا يوجد فيه مهر العروسة [حرفيا: ثمن العروسة] يختلف عن مجتمع توجد فيه مدفوعات الدوطة dowry. ولا يعنى هذا تجاهل اضطهاد النساء فى كل حالة، بل يعنى الإلحاح على التغيرات التى يمرّ بها – وهذا شرط مسبق للإقرار بأن هذا ليس تعبيرا ما عن الطبيعة البشرية، بل هو نتاج تطورات تاريخية ملموسة، شيء ما يمكن التخلص منه عن طريق تطورات لاحقة.

وتبدأ مقاطع أكثر أهمية فى أصل العائلة فى إيجاز هذه التطورات اللاحقة. وشدد إنجلس على أنه حتى فى ظل الرأسمالية تدخل نساء الطبقة العاملة فى قوة العمل، وبهذا يحصلن على دخول خاص بهن – على نطاق لم يُعْرَف فى المجتمعات الطبقية السابقة:

منذ نقلت الصناعة الكبيرة المرأة من المنزل إلى سوق العمل والمصنع، وتجعلها، فى كثير من الأحيان، كاسبة الخبز للعائلة، فقدت البقايا الأخيرة لسيطرة الذكور فى البيت الپروليتارى كل أساس – ربما باستثناء شيء من الوحشية نحو النساء التى صارت راسخة الجذور مع تأسيس الزواج الأحادىّ. وعلى هذا النحو لم تَعُدْ العائلة الپروليتارية متسمة بالزواج الأحادىّ monogamian بالمعنى الدقيق، حتى فى حالات الحب المشبوب العاطفة للغاية والإخلاص الأكثر صرامة من جانب الطرفين … والحقيقة أن المرأة قد استعادت حق الانفصال، وعندما لا يستطيع الرجل والمرأة المضىّ معا فإنهما ينفصلان(204).

غير أنه إذا كان دخول النساء فى قوة العمل المدفوعة الأجر تقدم إمكانية كامنة للتحرر، فإن التنظيم المتواصل للإنجاب داخل العائلة الفردية يمنع تحقيق هذه الإمكانية الكامنة: 

عندما تفى [المرأة الپروليتارية] بواجبها فى الخدمة الخاصة لعائلتها، تظل مستبعَدة من الإنتاج الاجتماعىّ ولا يمكن أنْ تكسب شيئا؛ وعندما ترغب فى أنْ تلعب دورا فى الصناعة العامة وتكسب رزقها بصورة مستقلة، فإنها لا تكون فى وضع يسمح لها بالوفاء بواجباتها(205).

وهكذا تكون النساء فى المجتمع القائم فى موقف متناقض. إنهن لا يمكن أنْ يرين إمكانية المسواة التامة ولهذا يتحدَّيْن سيادة الذكور بثقة لم يسبق لها مثيل منذ دمار الإنتاج المشاعىّ. غير أنهن معاقات مع ذلك عن تحقيق هذه المساواة ما لم يتخلين عن تربية الأطفال. وما من قدر من التشريع يمكن أنْ يتغلب على هذا التناقض المؤلم، رغم أن التشريع، كما يلحّ إنجلس، كان ينبغى الترحيب به، لأنه كان من شأنه الإعلان على الملء للحاجة إلى تغيير ثورىّ لاحق.

وسيكون واضحا عندئذ أن المقدمة المنطقية الأولى لتحرير النساء يتمثل فى إعادة إدخال نوع الأنثى بالكامل فى الصناعة العامة؛ وأن هذا يتطلب من جديد إلغاء الصفة التى امتلكتها العائلة الفردية والمتمثلة فى أنْ تكون وحدة اقتصادية للمجتمع …

ومع انتقال وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة تكفّ العائلة الفردية عن أنْ تكون الوحدة الاقتصادية للمجتمع. ويتحول التدبير الخاص لشئون البيت إلى صناعة اجتماعية. وتصير رعاية وتعليم الأطفال شأنا عاما(206).

وسوف يحوِّل هذا بصورة كاملة العلاقات بين النوعين. وبمجرد أنْ يكون وسواس الإنجاب وحقوق الملكية قد ذهبا فإن الناس، كما أكد إنجلس، سيكونون أحرارا فى ارتباط أحدهم بآخر بطرق جديدة متحررة بصورة حقيقية. ويمكننا فقط أنْ “نحدس” بشأن ما ستكون عليه العلاقات الجديدة.

وسوف تتم تسوية ذلك بعد أنْ يكون قد كبر جيل جديد … وبمجرد أنْ يظهر مثل هؤلاء الناس، فإنهم لن يهتموا مطلقا بما نفكر اليوم فى أنهم ينبغى أنْ يفعلوه. وسوف يُقِيمون ممارستهم الخاصة ورأيهم العام على ممارسة كل فرد – وستكون تلك نهاية الأمر(207).

وإذا كانت أقسام أخرى من أصل العائلة تعانى من استعمال مادة عتيقة وأحيانا من استعمال حجج دائرية، فإن هذه المقاطع تتألق بفضل حداثتها. والواقع أن إنجلس كان متقدما كثيرا عن زمنه عندما كتب تلك المقاطع. وكما كتب ليندسى چيرمان Lindsey German وآخرون، فبعد أن جرى القضاء على العائلة تقريبا بين الطبقة العاملة فى المراحل المبكرة من الثورة الصناعية، سعت الرأسمالية إلى فرض شكل من العائلة البرچوازية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتأمين تنشئة الجيل الجديد من العمال(208). ومن هنا محاولات استعمال القانون والوعظ الدينىّ للحدّ من مشاركة النساء فى قوة العمل. غير أنه، منذ الحرب العالمية الثانية، اخترق الاندفاع بلا هوادة للتراكم الرأسمالىّ فى كل مكان هذه القيود، بحيث إنه فى بلدان يسيطر عليها المعايير الأخلاقية الكاثوليكية أو قوانين الشريعة الإسلامية، ارتفعت نسبة النساء فى قوة العمل بصورة متواصلة، على حين أنه فى بعض نواحى بريطانيا تشكِّل النساء الآن غالبية الطبقة العاملة الموظفة.

غير أن الإنجاب يظل مُخَصْخَصًا، حتى إذا كانت الدولة مجبَرة على أنْ تلعب دورا أكبر بكثير مما كان فى زمن إنجلس فى تقديم الخدمات الاجتماعية والتعليم. ومعظم النساء كاسبات أجر ويتوقعن، كما لم يحدث من قبل مطلقا، أنْ يعشن حياة استقلال، غير أنهن يجدن أنفسهن مرغَمات على العودة إلى حمل عبء رعاية الأطفال داخل حدود العائلة النووية. ونبعت من هذا مقاومة بين النساء والرجال على السواء لأشياء كثيرة كان يجرى التسليم بها فى السابق – الأجر المتكافئ، وتنميط الوظائف على أساس النوع، ومعاملة أجساد النساء باعتبارها سلعا، والعنف المنزلىّ، والزيجات المحبِطة والمحطِّمة للروح. وهى مقاومة توقظ فى كل مكان الحلم بحياة أفضل للجميع، ولكنْ داخل مجتمع يمنع ذلك الحلم من أنْ يصير واقعا.

الخلاصة

ما تزال كتابات علمية قليلة جدا من المائة سنة السابقة تلهم البحث الراهن. وليس فى هذا ما يُدهش، نظرا لانفجار البحث، والمعرفة، والتنظير، الذى صحب التراكم المحموم لرأس المال. وكان الدور الذى لعبه العمل، و أصل العائلة، والملكية الخاصة، والدولة، محاولتيْن للقيام فى آن معا بتطوير وترويج رؤى العلم فى زمانهما. وإنها لمفخرة هائلة ﻠ إنجلس وللمنهج الذى طوره ماركس فى منتصف أربعينيات القرن التاسع عشر أنهما ما يزالان يقدمان لنا رؤى غائبة فى كثير جدا من كتابات الوقت الحاضر حول نشوء نوعنا [البشرىّ] ومجتمعنا. وهى تشتمل على الكثير الذى ينبغى نبذه أو تعديله على أساس ما جرى اكتشافه منذ موت إنجلس. غير أن ما يبقى يظل هائل القيمة. فهو يشكل نقطة بداية لا تقدَّر بثمن لأىّ شخص يريد أنْ يفهم المادة الضخمة التى أنتجها بصفة يومية تقريبا أركيولوچيون وأنثروپولوچيون. وهكذا فإنها تساعدنا على دحض هراء “السوسيوبيولوچيِّين” ومنظِّرى “القرد الأعلى العارى” عندما يزعمون أن الرأسمالية لا يمكن تفاديها لأنها ترتكز على أسس “طبيعة بشرية” غير متغيرة.   

 إشارات القسم الثالث

167: F. Engels, The Origin of the Family, op. cit., p.105. ملاحظة: لا ينبغى إساءة فهم المقطع، كما يحدث فى بعض الأحيان، على أنه يقول إن أول اضطهاد طبقىّ هو اضطهاد نوع الذكور لنوع الإناث. والتعبير الرئيسىّ هو “يتزامن” coincides.

168: انظرْ Leacock, Myths of Male Dominance, op. cit…

169: هذه هى وجهة نظر E. Friedl, Women and Men, an Anthropologist’s View, op. cit., p.22.

170: Ibid., p.29.

171: Ibid., p.25.

172:  M. Etienne and E. Leacock, Introduction, in M. Etienne and E. Leacock, Women and Colonialism: Anthropological Perspectives, (New York, 1980).. “يعانى معظم وصف الثقافة الأسترالية من الانحياز للذكور … وقد اكتشف الإنتاج الأحدث … أدلة على استقلال الإناث: مشاركة النساء فى احتفالات صنع القرارات، وزواج نساء أكبر سنا من شبان أصغر سنا، وبناء تضامن الإناث بين المتصاهرات، والقسم الخاص بالنساء من المخيم الذى كان غير مسموح للرجال بدخوله والذى كان يمكن أن تقيم فيه النساء علاقات غرامية مع مَنْ يشأن من الرجال دون أىّ التزام بالزواج الرسمىّ”. انظرْ أيضا D. Bell, Descent politics، فى العمل نفسه.

173: تشير إ. ليكوك إلى أن ليڤى ستروس خصص صفحة ونصف فقط من مؤلَّفه الضخم The Elementary Structures of Kinship للمجتمعات المنتمية إلى خط الإقامة عند أهل الزوجة والمنتمية إلى خط الأصل الأمومىّ ويُدْلِى بأربعة تصريحات غير دقيقة فى سياق ذلك. انظرْ E. Leacock, Myths of Male Dominance, op. cit., p.235.

174: P.S. Nsugbe, Ohaffia: a Matrilineal Ibo People (Oxford, 1974), p.68. للنساء الراشدات هيئة لصنع القرار، Ikpirikpe، “وهى الهيئة الواحدة الوحيدة التى يمكن أن تتعامل مع الجرائم التى ترتكبها النساء”. وإذا كان على الرجال اتخاذ قرار لم توافق عليه النساء، فإنها [الهيئة] كانت تتخذ إجراءات مضادة – على سبيل المثال، كان يمكنها أن تحكم ﺒ “مغادرة ربات البيوت لمنازلهن وأزواجهن بالجملة، والتخلى عن كل أطفالهن مؤقتا، وعدم العودة ما لم تُسْمَع آراءهن”.

175: P.S. Nsugbe, ibid., pp.82, 83, 85.

176: K. Sachs, Sisters and Wives, op. cit., p.117 and 121.

177: للاطلاع على عرض أوسع حول هذه النقطة، انظرْ E. Leacock, Myths of Male Dominance, op. cit. p.120. 

178: Gailey, Kinship to Kingship, op. cit., p.12.

179: E. Leacock, Myths of Male Dominance, op. cit., p.217.

180: E. Friedl, Women and Men, op. cit., p.46.

181: F. Engels, The Origin of the Family, op. cit., p.47.

182: للاطلاع على آراء مورجان؛ انظرْ L.S. Morgan, Systems of Consanguinity and Knowledge of the Human Family (New York, 1871), p.487, and Ancient Society, op. cit., p.31.

183: F. Engels, The Origin of the Family, op. cit., p.85.

 184: انظرْ، على سبيل المثال E, Terray, Marxism and “primitive societies” (New York, 1973), p.139-40.
185: F. Engels, The Origin of the Family, op. cit., p.84.

186: Ibid., p.55.

187: Ibid., p.56.

188: يلاحظ سى. فلوير C. Fluer أن ماركس كان “ساخرا إلى حد ما بشأن مفهوم الاختلاط الجنسى البدائى دون تمييز primitive promiscuity”، انظرْ C. Fluer Lobban, Marxist reappraisal of matriarchy, Current Anthropology, June 1979, p.347.

189: F. Engels, The Origin of the Family, op. cit., p.65-6.

190: Ibid., p.88.

191: تعبر كارين زاكس على وجه الدقة عن وجهة النظر هذه، انظرْ K. Sachs, Sisters and Wives, op. cit., p.104.

192: هذا تلخيص لمناقشة جيلى. ومن الجائز أننى أضفت تفسيرى الخاطئ على مناقشة وجدتها، فى ذلك الحين، غامضة قليلا. انظرْ C. Gailey, Kinship to Kingship, op. cit., px.

193: V. Gordon Childe, What Happened in History, op. cit., p.52-3..

194: Ibid., p.59. يبدو أن تشايلد صار، فى وقت لاحق، أكثر تشككا فيما يتعلق بمرحلة المطريركية (الأمومية) matriarchy. انظرْ كتابه Social Evolution, op. cit., pp.66-67.

195: V. Gordon Childe, What Happened in History, op. cit., p.72.

196: E. Friedl, Women and Men, op. cit., p.54.

197: Ibid., p.9.

198: Ibid., p.17.

199: Ibid., p.59.

200: بسبب الكثافة السكانية الكبيرة. 

201: ملاحظة أبداها جوردون تشايلد فى Social Evolution, op. cit., p.159.

202: جرى تأكيد، على سبيل المثال، Gordon Childe (Social Evolution, ibid., p.67) أن هذا لم يكن يعنى، بالضرورة، مجتمعا كانت النساء فيه مساويات للرجال – وعلى كل حال، تشتمل الهندوسية الحديثة على إلهة ذات شأن وعند الكنيسة الكاثوليكية عبادة مريم العذراء. غير أنه يوجد اختلاف كامل بين أيديولوچيا يمكن أن تكون فيه الإلهات [الإناث] هن الأعلى شأنا وأيديولوچية تلعب فيه شخصيات الإناث دور الوساطة بين العباد وشخصية الذكر المسيطر. 

203: F. Engels, The Origin of the Family, op. cit.

204: Ibid., p.116.

205: Ibid., p.120.

206: Ibid., p.119.

 207: Ibid., p.134-5.

208: L. German, Sex, Class and Socialism, (second edition, Bookmarks, 1994) Notes to Chapter Four.
 
————————————————————–

 المؤلف فى سطور

كريس هارمان

كريس هارمان Chris Harman هو رئيس تحرير الفصلية اللندنية International Socialism “الأممية الاشتراكية”، وعضو اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا، وأحد كبار منظِّريه. وهو من أصول عمالية. وقد أصدر العديد من الكتب والكراسات والمقالات حول مجموعة واسعة من الموضوعات، نُشر الكثير منها فى المجلة المذكورة. ومن أعماله: “(تفسير الأزمة: إعادة تقييم ماركسية (1984)”، و “روسيا من الدولة العمالية إلى رأسمالية الدولة (1987)” بالاشتراك مع پيتر بنسPeter Binns و تونى كليف Tony Cliff، و “الماركسية التاريخ (1998)”، و “النبى والپروليتاريا: الأصولية الإسلامية، والطبقة، والثورة (1999)”. صدر له ضمن إصدارات المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، كتابه: انهيار النموذج السوڤييتى: الأسباب والنتائج، ترجمة: خليل كلفت.

المترجمة فى سطور

هند خليل كلفت

  • تخرجت من كلية الإعلام بجامعة القاهرة عام 2007.
  • عملت فى مجال إعداد المعاجم الثنائية اللغة: إنجليزى-عربى.
  • نشرت العديد من المقالات المؤلفة والمترجمة فى الصحف والمجلات المصرية.
  • وهذا كتابها المترجم الأول.
  •     رحلت عن عالمنا فى 26 مارس 2012

 المراجع فى سطور

خليل كلفت

خليل كلفت كاتب ومترجم مصرى، كتب العديد من مقالات النقد الأدبى وقليلا جدا من القصص القصيرة فى النصف الثانى من الستينيات. وفى النصف الثانى من السبعينيات كتب (باسم قلم) العديد من المقالات والكتب فى مختلف مجالات السياسة المصرية والعربية والعالمية والمسألة الزراعية فى مصر ومسألة القومية العربية وغيرها. يعمل منذ بداية الثمانينيات فى مجال إعداد المعاجم اللغوية، والترجمة عن الإنجليزية والفرنسية، حيث ترجم العديد من الكتب فى مجالات الأدب والنقد الأدبى والسياسة والفكر، كما نشر العديد من المقالات والدراسات السياسية والثقافية واللغوية. ومن ترجماته فى مجال السياسة والفكر “فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت: نشأتها ومغزاها -وجهة نظر ماركسية”، “راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية”، “توما كوترو وميشيل إسّون: مصير العالم الثالث”، “سيرچ لاتوش: تغريب العالم: دراسة حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم”، “إينياسيو رامونيه: حروب القرن الحادى والعشرين: مخاوف وأخطار جديدة”، “وثائق محكمة الشعوب الدائمة للرابطة الدولية لحقوق وتحرر الشعوب -جلسة بشأن أرتريا ميلانو، إيطاليا، 24-26 مايو 1980: قضية أرتريا”، “چوزيف ستيجليتز و أندرو تشارلتون: تجارة عادلة للجميع”، “أليكسى دو توكڤيل: النظام القديم والثورة الفرنسية”، وترجم (بالاشتراك مع على كلفت) “فيديريكو مايور و چيروم بانديه: عالم جديد “، كما شارك فى ترجمة: “إيڤ ميشو (إشراف) [محاضرات] جامعة كل المعارف”، “چيرار سوسان وچورچ لابيكا (إشراف): معجم الماركسية النقدى. 

كلمة الغلاف

يتناول هذا الكتاب ثلاث قضايا كبرى تتعلق بالتاريخ البشرى: الجدل حول أصل الإنسان، وأصل الطبقات والدولة، وأصل اضطهاد النساء. ويشتمل الكتاب على مراجعة دقيقة لمعاجة فريدريك إنجلس لهذه القضايا فى كتابه الشهير أصل العائلة، والملكية الخاصة، والدولة، ومقاله المهم ولكنْ غير المكتمل: الدور الذى لعبه العمل فى الانتقال من القِرَدة العليا إلى الإنسان.

وهو يبدأ بهذا النص الأخير: الدور الذى لعبه العمل ليناقش قضية أصل الإنسان، ثم ينطلق من: أصل العائلة ليناقش القضيتين الأخريين. وبطبيعة الحال فقد اعتمد إنجلس، كما يقول كريس هارمان، على معلومات تجاوزها التقدم العلمى على مدى القرن السابق: كان إنجلس يكتب قبل اكتشاف نظرية مندل Mendelian theory عن الچينات، وقبل العثور على البقايا المبكرة للهومينيد hominid فى أفريقيا، وفى وقت كانت فيه دراسة مجتمعات ما قبل اللغات المكتوبة فى طفولتها. ويؤكد المؤلف أن كتابات إنجلس ما تزال تحتفظ، مع ذلك، بأهمية هائلة، إذ إنه يطبِّق منهجا يُعَدّ ماديا دون أن يكون ميكانيكيا، ويواصل تحدِّيه لكل من المثالية والتوأم المفزع المتمثل فى السلوكية والسوسيوبيولوچيا.

وهذا هو السبب، كما يقول المؤلف، فى أنه يجدر بنا أنْ نتفحص وجهات نظر إنجلس فى هذين العمليْن وأنْ ندافع عما هو صحيح فيهما وأن نغربلهما فى الوقت نفسه لنستبعد ما تم تجاوزه. وهذا ما يحاول القيام به، متفحصا أولا تفسيره للتطور البشرى فى الدور الذى لعبه العمل، ثم تفسيره لنشأة الطبقات والدولة فى أصل العائلة، ثم، أخيرا تفسير هذا العمل نفسه لاضطهاد النساء. وفى كل حالة يحاول المؤلف معالجة الثغرات والتفاوتات فى وجهات نظر إنجلس عن طريق مناقشة بعض أهم المعلومات وأكثرها حداثة حول هذه المسائل.