ديسمبر 1999

في منتصف الثمانينات واجه نظام مبارك -حديث العهد-  أزمة اقتصادية وسياسية ذات أوجه متعددة. فمن ناحية كانت الأوضاع الاقتصادية في تدهور واضح: انخفاض متسارع لمعدلات النمو؛ ارتفاع لمعدلات التضخم والبطالة؛ ازدياد كبير للعجز في ميزان المدفوعات وفي مديونية الدولة الداخلية والخارجية. وتحت ضغوط صندوق النقد ومطالب البلدان الإمبريالية الدائنة وتحقيقًا لمصالح الطبقة الرأسمالية المصرية، لم يكن أمام النظام من مفر إلا بالإسراع في سياسة “الإصلاح” الاقتصادي بهدف الاندماج في السوق العالمي بالرغم مما يعنيه ذلك من عصف بحقوق الطبقة العاملة المصرية ومكتسباتها، وإفقار وتجويع لقطاعات واسعة من الجماهير المصرية. من ناحية أخرى واجه الحكام في نفس التوقيت موجة متصاعدة من النضالات الطبقية، استمرت على مدار النصف الأخير من الثمانينات، وشهدت مجموعة من الإضرابات العمالية الكبرى التي ناضل فيها العمال المصريون على مطالب اقتصادية، بالإضافة إلى عدد من التظاهرات الطلابية الواسعة على مواقف تتعلق بالقضية الوطنية. مثلث تلك النضالات العمالية والطلابية ردًا جماهيريًا على الأزمة التي هزت النظام، ولكنها – للأسف الشديد – لم تنجح في أن تصل إلى درجة من التوسع والتنظيم تمثل فيها تحديًا حقيقيًا وجذريًا لاستقرار النظام. وهذا ما أعطى النظام الفرصة لوأدها في مهدها بدبابات الجيش ومدرعات الشرطة. وقد كان واحد من أهم النضالات العمال في هذه الموجة إضراب سائقي السكة الحديد عام 1986. ولهذا السبب فهو يستحق منا النظر والدراسة لفهم ما تحمله تلك المرحلة – القريبة – من خبرات للنضال العمالي والثوري.

تاريخ من النضال والتنظيم

يعتبر عمال السكة الحديد في مصر من أقدم القطاعات العمالية المصرية ذات الوعي النضالي التضامني، بما يمتلكونه من خبرة واسعة في التنظيم. في مطلع القرن العشرين – وقت أن كان هناك تجريم التأسيس النقابات – أسس عمال السكة الحديد نقابة سرية عام 1908 أطلقوا عليها اسم “الجمعية السرية لبؤساء السكة الحديد”. هذه النقابات كانت لها عدد من المطالب الرئيسية تهدف إلى إصلاح الأحوال المعيشية لعمالها، وقامت بإصدار عدد من المنشورات والمطالبات، التي عبرت عن تذمر العمال وقتها من شروط عملهم، والتي دفعت الإدارة في النهاية إلى الاستجابة لبعض مطالبهم. وفي يناير عام 1911 – وبعد عدة أسابيع من الإضراب العفوي الواسع الذي نظمه عمال السكة في أكتوبر 1910 – أسس عمال السكة الحديد أول تنظيم نقابي علني لهم أطلقوا عليه اسم “جمعية عمال عنابر السكة الحديد بالقاهرة”.

وبعد الثورة 1919، وفي خضم النضال الواسع لعمال السكة الحديد في الثورة، تقدم وعيهم خطوات واسعة إلى الأمام، وشاركوا عام 1924 في تأسيس أول اتحاد النقابات عموم القطر المصري. وفي عام 1931 تظم عمال مطالبين بعودة الدستور والديمقراطية. هذا الإضراب شهد صدام واسع بينهم وبين قوات الشرطة، أدى إلى استشهاد 16 عامل منهم، وكان أحد أهم نتائجه قيام إسماعيل صدقي بحل نقابة عمال السكة الحديد.

ظل عمال السكة الحديد بدون نقابة حتى عام 1964. فجميع القوانين المنظمة لتأسيس النقابات التي صدرت قبل أو بعد يوليو 1952، كانت تمنع موظفي الحكومة – من بينهم عمال السكة الحديد – من تأسيس نقابات. إلا أن عمال السكة الحديد بوعيهم المتقدم تحايلوا دومًا على هذه القوانين، وقاموا على مدار تلك السنوات – استنادا إلى قانون الجمعيات – بتأسيس روابط لهم للدفاع عم مصالحهم المشتركة. كان أول ما أسسوه من روابط عام 1935 – بعد حل نقابتهم – هو: “رابطة العامة لسائقي ووقادي القطارات وعمال الحركة الميكانيكية والكهربائية”. هذه الرابطة الأخيرة بالتحديد هي التي تغير أسمها بعد ذلك ليصبح “الرابطة العامة لقائدي القطارات ومساعديهم بالهيئة القومية لسكك حديد مصر”، وهي التي قادت إضراب يوليو 1986.

في عام 1964 صدر قانون يسمح لعمال الحكومة بما فيهم عمال السكة الحديد بتأسيس نقابات. وتشكلت طبقًا لهذا القانون النقابة العامة لعمال السكة الحديد المقسمة إلى 28 لجنة نقابية. وبالطبع لعبت هذه النقابة، كغيرها من نقابات اتحاد العمال، دورًا أصفر متواطئا مع الدولة الرأسمالية وفي عداء مع العمال على طول الخط. أما رابطة سائقي القطارات التي تمتعت باستقلالية أوسع عن سيطرة الدولة وأجهزتها، فقد لعبت – في لحظات تصاعد النضال – أدوارًا أكثر إيجابية في تنظيم التضامن العمالي الذي ظهر كأوضح ما يكون في إضراب 1986. وبعد أسبوع واحد من الإضراب صدر من نائب محافظ القاهرة قرار بحل الرابطة، بناءًا على طلب من وزير النقل المواصلات باعتبارها المحرض على الإضراب.

أحداث الإضراب

لا تخلف كثيرًا ظروف وأحوال عمال السكة الحديد عن الأحوال المتردية عمومًا لمجمل قطاعات الطبقة العاملة المصرية. إلا أن التراث النضالي والوعي والخبرة التنظيمية اللذين امتلكوهم، دفعوهم لكي يصبحوا واحدا من القطاعات القائدة داخل صفوف الطبقة العاملة. لقد شهد النضال العمالي في مصر انحسار وتراجع شديد بعد انتفاضة يناير 1977، ولعدة سنوات تالية. وفي مطلع الثمانينات عادت النضالات العمالية إلى الساحة بوتيرة مترددة في البداية، إلى أن تصاعدت من جديد مع منتصف الثمانينات. وكان عمال السكة الحديد من الطلائع المناضلة داخل الطبقة العاملة منذ اللحظة الأولى.

في عام 1982 نظم سائقو القطارات – اللذين بلغ عددهم في ذلك الوقت حوالي ستة آلاف سائق ووقاد – إضراب تباطؤ لمدة ساعتين. وأعلنوا عن عدد من المطالب لإصلاح أحوالهم، في سيل من البرقيات لكافة مسئولي الدولة. وكانت لهم قائمة واسعة من المطالب هي: عودة الكادر الخاص لهم، ورفع حافز الكيلو متر، والحصول على نسبة من الغرامات المقررة على التذاكر، والتأمين الصحي عليهم ضد الحوادث والتشريك، ووقف تحميل السائقين تعويضات الحوادث، وعدم الطرد من المساكن بعد سن المعاش، وتوفير مساكن للمغتربين، وتحسين الاستراحات ورفع البدلات والمكافآت وتوفير الزي المناسب. وسنلاحظ إلى جانب اتساع قائمة المطالب، أنها جميعًا كانت مطالب من أجل تحسين الوضع القائم. أي أن عمال السكة الحديد وقتها كانوا في موقف هجومي يناضلون من أجل فرض وضع أفضل، وليسوا في موقف الدفاع ويناضلون من أجل وقف هجوم الرأسمالية. وهذا الميل الهجومي هو ما دفعهم إلى تطرير النضال عام 1986.

وعلى مدى ثلاث سنوات تالية لم يستجب أحد لمطالب السائقين. وتحت الضغط اجتمع وزير النقل مع ممثلين لهم لعرض مطالبهم في ديسمبر 1985. ووافق الوزير مبدئيًا على مطلب الحصول على نسبة من الغرامات، ووعدهم بعرض مطلب الحافز الخاص على مجلس الوزراء. لكن مرت الشهور دون أدني استجابة، مما دفع العمال إلى القيام بحملة جديدة من إرسال البرقيات.

بعد هذا التسويف، تيقن السائقون أنه لا مفر من تطوير النضال. ولعبت رابطة سائقي القطارات دورًا محوريًا في ذلك. ففي الاجتماع الشهري للرابطة في 2 يوليو 1986، احتشد أكثر من 300 سائق في مقر الرابطة وأعلنوا اعتصامهم بالمقر لحين. حضور وزير النقل ليناقش معهم مطالبهم، وأرسلوا عددا من البرقيات بهذا المضمون. سارع ساعاتها عددًا من كبار المسئولين بوزارة النقل ووزارة الداخلية بالحضور، واعتذار عن انشغال الوزير في هذا اليوم. وحددوا معهم موعد أخر للقائم بالوزير يوم 7 يوليو، على أن يفضوا اعتصامهم الآن. ووافق السائقون وفضوا الاعتصام بالفعل.

في مساء 6 يوليو استدعى مساعد وزير الداخلية قادة الرابطة، وأبلغهم بضرورة تأجيل موعدهم مع الوزير لانشغاله في اليوم التالي!! ومنذ صباحي 7 يوليو بدأ مئات من السائقين في التوافد على مقر الرابطة. وعند حلول الظهر وصل عددهم هناك إلى ما يزيد على الألف، حين فوجئوا بخبر تأجيل اللقاء. وحضر عدد من كبار المسئولين حاولوا فض التجمهر، إلا أن السائقين رفضوا الانصراف. وقام مجلس الرابطة – في الساعة الثانية ظهرًا – بإرسال برقية إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الداخلية، طالبوا فيها بحضور وزير النقل إلى مقر الرابطة وهددوا ببدء الإضراب ووقف جميع القطارات بدءًا من الساعة السادسة مساءًا. ووقع على هذه البرقية ثلاثة من أعضاء مجلس الرابطة، الرئيس والسكرتير وأمين الصندوق.

وفي السادسة مساءًا بدأ السائقون إضراب واسع، شمل جميع سائقي منطقة القاهرة، وأوقفوا حركة القطارات على جميع خطوط السكك الحديدية داخل القاهرة الكبرى أو المنطلقة منها. وقام بعض السائقين بترك قاطاراتهم على السكك، بعد غلق الجرارات وأخذ مفاتيحها، لضمان سريان الإضراب. وتم تحويل السكك في اتجاهات مخالفة لخيط السير واستخدام الجبس في تعطيلها، كذلك تم إشعال حرائق في نباتات الحلفا التي تنمو على جانبي خطوط السكك الحديدية.

مع بدء الإضراب توافد عدد أكبر من المسئولين في وزارة النقل إلى مقر الرابطة، محاولين إنهاء الإضراب. ثم حضر إلى المقر أحمد طه نائب مجلس الشعب عن دائرة الساحل – التي يقع بها مقر الرابطة – واصطحب وفدا من السائقين للقاء وزير النقل في منتصف الليل. وفي هذا اللقاء اشترط الوزير أن يقوم العمال بفض الإضراب والاعتصام، حتى يبدأ حوار معهم حول مطالبهم!! وفي الواحدة والنصف صباحًا عاد الوفد إلى مقر الرابطة، ليعرض على العمال موافق الوزير على الاجتماع بهم ظهر اليوم التالي، بشرط إنهاء الإضراب الآن. ورفض السائقون هذا الشرط وأصروا على استمرار الإضراب.

وفي فجر 8 يوليو، قامت جحافل من قوات الأمن المركزي بمحاصرة السائقين المعتصمين حول مبنى الرابطة وأوسعوهم ضربًا، وقاموا باقتيادهم إلى سيارات السجون التي كانت تحيط بالمقر. وتم نقل السائقين المعتصمين إلى أقسام  الشرطة القريبة، وظلوا في الحجز لمدة يومين كاملين. رغم ذلك واصل عدد من السائقين الإضراب حتى نهاية يوم 8 يوليو، إلا أنهم كانوا قد تشتتوا تمامًا بعد اعتقال القيادات ومعظم المضربين. بعد ذلك تم الإفراج عن معظم السائقين باستثناء 46 سائق، أصدرت نيابة أمن الدولة قرارا بإبداعهم السجن. وفي 30 يوليو أصدر النائب العام قرارا بإحالة 37 منهم إلى محكمة أمن الدولة العليا واستمرار حبسهم. وضم الـ 37 سائق المحالون إلى المحكمة قادة الرابطة، التي تم حلها بعد ذلك بقرار إداري، كما ذكرنا. أيضًا صدرت عدة قرارات إدارية تعسفية ضد عدد كبير من السائقين المشاركين في الإضراب. وبالطبع كان موقف النقابة العامة لعمال السكة الحديد وقادة اتحاد العمال المتواطئ، هو إدانة الإضراب والتشهير بالمضربين!!

التضامن وخبرة الإضراب

كان عام 1986 عام مشحون بالصراع الطبقي في مصر. فبالإضافة لإضراب عمال السكة الحديد، حدث في ذلك العام إضرابان كبير أن العمال شركة إسكو في شبرا الخيمة وعمال غزل المحلة، إلى جانب انتفاضة جنود الأمن المركزي التي انفجرت في ابريل من نفس العام. واتخذ نظام مبارك تجاه مختلف التحركات العمالية والجماهيرية، سياسة ثابتة ذات وجهين: الأول، القمع الشديد بهدف إرهاب العمال وإظهار قوة الدولة. والثاني، الاستجابة الوقتية لمعظم المطالب بهدف تهدئة العمال ثم سحبها بعد ذلك. فنظام مبارك لم يقدم تنازلات أبدًا تحت الضغط من أسفل إلا وربطها بقمع سافر، من أجل سحب البساط من تحت الحركة. ونجحت هذه السياسة مع الوقت، في إشعار العمال بعدم الثقة وعدم الجدوى في النضال. ونتج عنها التراجع الواسع الذي شهدته الحركة العمالية في مصر طوال التسعينات.

وطبق النظام سياسته هذه مع عمال السكة الحديد بوضوح. فمارس عنفًا شديدًا ضد الحركة، سواء بالاقتحام الوحشي لمقر الرابطة والضرب والتنكيل بالعمال، أو بالقرارات الإدارية المتعسفة ضد عدد واسع من المضربين، أو بالسجن والإحالة لمحكمة أمن الدولة بتهمة الإضراب التي كانت سابقة ذات شأن وقتها. في نفس الوقت الذي استجابت فيه هيئة السكة الحديد سريعًا لمعظم مطالب المضربين، ووعدت بالنظر في بقيتها.

لكن بالرغم من القمع السافر، بل وبسبب ذلك القمع، شهد إضراب السكة الحديد حركة تضامن إيجابية. كان يمكن لها في ظروف أخرى أن تتحرك بصورة أوسع. فتشكلت لجنة من سائقي الهيئة أطلقوا عليها أسم “السائقون الأحرار”، أصدرت بيانًا طالبت فيه بالإفراج عن السائقين المعتقلين وهددت بتنظيم إضراب شامل. كما أرسل العديد من عمال الهيئة برقيات إلى رئيس الجمهورية، مطالبين بالإفراج عن المعتقلين. بالإضافة إلى لجنة التضامن التي شكلها عدد من الأفراد والقوى اليسارية، والحشد الذي نظمته نقابة المحامين للدفاع عن قيادات الإضراب في المحكمة. أسفر ذلك جميعه عن صدور قرار محكمة أمن الدولة بالإفراج عن قادة الإضراب من أول جلسة للمحاكمة.

لكن بالرغم من قوة الإضراب النسبية والتضامن الواسع الذي تحقق مع العمال المضربين، إلا أنه افتقد بدرجة ملحوظة إلى تنظيم عدد أوسع من عمال الهيئة في الحركة ذاتها يعود ذلك بالطبع إلى غياب أي تكوين نقابي مستقل، ينظم كل عمال السكة الحديد ذوي المصالح المشتركة. فرابطة السائقين لم تستطع أن تحشد ورائها القطاعات الأخرى من عمال الهيئة، الكمسارية وعمال الصيانة. بل أنها لم تستطع لن تحشد يوم الإضراب إلا سائقي منطقة القاهرة الكبرى. ولعبت هذه العوامل دورًا رئيسيًا في ضرب الإضراب سريعًا وفضة. وفي الواقع، فإنه لولا الشكل التنظيمي المستقل عن النقابة الصفراء، وهو الرابطة، لما أمكن لعمال السكة الحديد – وهم الذين يعملون متفرقين في مواقع متعددة – أن ينظموا، في ظروف صعبة وضد دولة قمعية، إضرابًا بحجم وأهمية إضرابهم عام 1986.

إلا أن ذلك لا يقلل من شأن الحركة، فأهم ما فيها هو ذلك الميل الهجومي لدى عمال السكة الحديد الذي تحدثنا عنه من قبل. لقد نظم سائقو القطارات في القاهرة الكبرى، هجومًا مباغتًا ونضاليًا على الرأسمالية في يوليو 1986، يهدف إلى تحسين أحوالهم المعيشية وفرض مطالب يعينها. هذا الميل الذي افتقدناه بدرجة كبيرة في مصر، على مدار سنوات التسعينات. إلا أننا اليوم ونحن نستعبد الخبرات النضالية للطبقة العاملة المصرية، نستعيد الثقة في قدرة قطاعاتها المتقدمة – مثل عمال السكة الحديد – على العودة إلى الهجوم المباغت والنضال من أجل انتزاع حقوقها المنهوبة وفرض مطالبها.

تسعدني تعليقاتكم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.