لماذا أكتب؟

لماذا نكتب، وكيف نمتلك الجراءة على فعل الكتابة والتدوين، وماذا تعني الكتابة بالنسبة لمن يمارس طقوسها، وهل تطلق سحرها في عقل ناسكها؛ فيصبح مهووسا بها.. يصاب بعشقها ولا يشفى أبدا، وهل يمكن أن تصبح مرادفا للحياة والحب عند مشتغليها، هل تصلح أن تكون ونيسا وصديقا وعشقا، ما الفائدة التي تعود علينا من ممارسة هذا الفعل الإنساني؟ اسئلة كثيرة تحتاج لكتابة في حد ذاتها لمحاولة الإجابة عليها.
***
مثلا أنا اعتبر كتاباتي هي كل ما أمتلكه في حياتي، فيها أسجل لحظات شجوني وحزني وكآبتي الممتدة، وبعض أفراحي المحدودة، لذلك لا يمكن اعتبار الإهداءات التي أصدر بها تلك النصوص مجرد مجاملات رقيقة تجاه أشخاص أكن لهم تقديرا، أو إشارة إلى شعوري بالغضب تجاه آخرين أدفن بداخلي حنقا عليهم. فكل نص مرتبط معي بذكرى أو موقف أو شخص أثر في بالسلب أو بالإيجاب، وأدين له بتفجير فعل الكتابة بداخلي حتى لو كان تسبب لي في شعور بالألم.
***
النصوص تعني بالنسبة لي لحظات من الحكي والبوح الإنساني المتدفق، فبالتالي يكفيني فقط أن يقرأها أصدقائي كنوع من التعويض عما فاتني من وقت في لقاءهم والاستطراد في الحكي معهم. فالمسألة لا تعني لي أكثر من تفريغ شحناتي الإنسانية في كتابة تذكرني بهذه التفاصيل والمواقف إن نسيت وتحفظها من الزوال إن لم تقو ذاكرتي على استدعائها.
***
فالكتابة مساحة من الصداقة مع شخص وهمي، ربما أكون أنا هذا الشخص، أو الورقة التي تمتص أحبار قلمي، أو شاشة الكومبيوتر التي تحتضن كلماتي، أو شخص مفترض في مخيلتي، أو شخص كنت أتمنى أن أحكي له أو يقرأ ما اكتبه، وربما لشخص لا أقوى على الحكي أمامه لأسباب متعددة منها، بل أهمها على الإطلاق، خجلي وتلعثم لساني. ففي أوقات كثيرة أطلق لنفسي العنان فأجدني قادرا على سرد التفاصيل بلا منازع، وفي أخرى أجدني غير قادر على تجميع جملة واحدة مفيدة تعبر عما بداخلي، ولا يضاهيني أحد في خيبتي وقتها، لذلك أهرب للكتابة، فالكتابة تصلح ككهف اختياري أناجي فيه الحكايات وأداعب بداخله الكلمات فتشاغلني التعبيرات وتحنو عليا المعاني، تارة تصبح طيعة وأخريات ممتنعات عن المراوغة.
***
الكتابة أيضا مساحة لإعادة النظر للعالم من حولي ومحاولة تفسيره، هي وقفة مع الزمن والأحداث، وقفة تحاول الخروج بفهم أفضل ورؤية أكثر اتساعا، بالطبع لا يحدث هذا بشكل طبيعي، وربما لا يحدث من الأساس وتخرج الكتابة غارقة في السطحية، ولكن ما تتيحه الكتابة من مساحة للتأمل والنظر للأشياء بطريقة أعمق بعض الشيء بفصل العناصر وإعادة تجميعها بعكس ما كانت عليه متشابكة ومزعجة، تعطيني فرصة لإعادة ترتيب الموضوعات في حياتي حتى لو أخفقت عدة مرات فسوف أصيب ولو مرة.
***
أشعر أثناء الكتابة بحالة من التوحد أكثر مع نفسي، أبتغيها فتنصاع لي مسالمة رقيقة كالنسيم، ألمسها كالياسمين فتطرح عبيرها فواحا في قلمي. لا يمكنك أن تكتب مخاصما إياها، فالعشق أصل الكتابة، والكتابة مصالحة مع النفس، لذلك لا تغضب نفسك وأنت تكتب، اكتب بأريحية ونفس راضية، اقنعها عن حق بأنكما في مهمة مشتركة، لا يمكنكما الوصول لنتائجها منفردين. فثمرة عملكما ستعكس نفسها بالضرورة في راحة تخلدا إليها دون أي شعور بالاغتراب. فالكتابة تحقق وبلوغ عوالم لا يمكن تخيلها خارج مساحات الحركة والفعل. هي الوصول للحقيقة أو ما شابهها، هي العالم منقوص منه ما يمنعك من التألق والشعور بنشوة أنك كائن له قيمة ومنتج وسعيد بما وصلت إليه.
***
الكتابة ايضا فعل إنساني، فرغم صدوره عن ذات مفردة، إلا أنه يغوص في حياوات بشر من لحم ودم ومشاعر وقدرات متفاوتة من التفكير وتراكم الخبرات،  ومن ثم فالعلاقة تبدو جماعية منذ الوهلة الأولى. فلا يمكن اعتبار أن ما يكتبه أو ينتوي كتابته شخص هو لنفسه أو للكتابة في حد ذاتها على غرار مقولة الفن للفن. ففي الكتابة ترغم، بصرف النظر عن خياراتك أو تحديداتك، أن تدخل في علاقات مع آخرين، إما أن تكتب عنهم أو عن نفسك في علاقتك بهم، فلا تستطيع الهرب من فكرة ان الكتابة تعبير عن علاقات متشابكة بينك ككاتب وبين أخرين كعناصر تستخدم في الكتابة أو مستهدف الوصول لها. لكن ليست إنسانية فعل الكتابة في التعبير عن علاقتها بالبشر كمادة خام للكتابة وكأهداف لها فقط، بل، وهو الأهم، في إنها إعادة اكتشاف لأبعاد إنسانية جديدة لتلك العلاقات لم يكن من السهل اكتشافها في مجريات الحياة الطبيعية.
***
الكتابة منطقة محررة، فهي المساحة التي لا تضطر فيها لفعل أي شيء خارج عن إرادتك، فليس لأحد الحق في أن يمارس عليك فيها أي ضغوط، بل لا يوجد فيها من الأساس أي ضغوط.. لأنه ببساطة لا أحد فيها غيرك، فهي لك وحدك دون منازع. لكل شخص يكتب منطقته الخاصة المعزولة عن الآخرين ومناطقهم أيضا الخاصة. في عالمك الخاص ليس للعوالم الأخرى الحق في أن تقحم نفسها عنوة، فعالمك الذي صنعته بنفسك ورسمت ملامحه بأناملك واخترت أدق تفاصيله بذهن صاف، ليس لأحد الحق في أن يرغمك على استقباله به. وبالمثل لا يوجد أي احتياج لديك لاقتحام عوالم أخرى خارجك، فالعوالم نفسها تأتيك طواعية حسبما تريد وفي الوقت الذي تحدده عبر التوارد وانسياب الخيالات، والعكس صحيح تماما.. فليس من حقك مطلقا اقتحام عوالم أخرى تخص أناسا آخرين، ستستدعيك إن شاءت، فلكل منا جميعا خصوصيته ومساحته التي يمتلكها وحده، فالكتابة هي الملكية الوحيدة المباح بها والتي لا تجعل منك شخصا أنانيا أو مستغلا. حتى الكتابة نفسها حين تتوحد معها في حالة عشق تمارس عليك إلحاحها بلطف دون أن تجبرك على إنجاز شيء لست مؤهلا بعد لإنجازه، أو لا تود عمله الآن أو لأي أسباب ترتئيها.
***
الكتابة إبداع في حد ذاتها، فإذا لم تكن قد مارست هذا الفعل من قبل، فاكتب بصرف النظر عما تكتبه، وما إذا كنت ستستخدمه في حياتك أو في أيا من أعمالك أم لا. ليس بالهام على الإطلاق أن تكتب لكي تنظم ما كتبته في عمل يقرأه آخرون، أو يقيم بمعايير لم تشارك أنت وأمثالك في وضعها. اكتب بالأساس بلا أي معايير، اكتب لأنك تريد فقط أن تكتب.. أن تحكي، حتى لو كان حكيك لنفسك، للورقة التي تخط عليها، فالكتابة صديق حميم عاد لك في التو بعد غياب يفتح لك ذراعيه، بالتأكيد تشتاق إلى حضنه ورائحة الذكريات بينكما، ارتمي في صدره دون أي تحفظات، دون مراعاة لنظرات المارة أو لكم الدموع التي ستنهمر منكما على الطريق. امنحه الحب والحياة، ابعد عنه الشعور بالوحشة والغربة في عالم قاس، اعطه كل ما تملك من الشعور بالأمان.
***
في الكتابة مساحة أوسع من الحرية في التنقل ما بين أساليب عدة، فاستخدم أية لغة وأي أسلوب وأية طريقة للتعبير، تجول كيفما شئت بين الشعر والنثر والسرد، بين القوالب الأدبية أو العلمية أو الصحفية أو اختر لنفسك قالبك الخاص، فليس هناك أي قوالب جامدة ترغمك على الحركة مكبلا بأساليب بعينها، ولا توجد أي تصورات مسبقة وضعها آخرون تجبرك على استخدامها لبلوغ ما تريد، بل اكتب خارج كل السياقات.. كل القوالب.. كل الأساليب.. حتى لو اخترعت لنفسك لغة جديدة لا يتحدث بها غيرك، ولا يفهمها سواك.. فأنت حر فيما تكتب ما دمت صادقا فيما يخطه قلمك، ما دام قلبك وأحاسيسك ومشاعرك وذهنك هم من يملون على الأحبار كيفية تلوين صدر الصفحات البكر.
***
لا تحتاج شيئا كي تكتب، دون حيثما شئت، الكتابة هي الوحيدة التي لا تحتاج إلى موهبة أو تعلم طالما لم تطرح على نفسك مهام أكبر من حدود تسجيل تجاربك الذاتية، لكل منا حياته الثرية بالتفاصيل والمواقف، بعضها لا نقوى على تذكره إما لعاديته أو لأننا قررنا بشكل قصدي أو غير واع إسقاطه من حياتنا، أما البعض الأخر فأنهار الحزن والشجن والفرح التي حفرت في ذكرياتنا مجراها جديرة بأن تلون مياهها كتابات لتبقى وتخلد بعد أن تنتهي رحلتنا. لن يستطع أحد مهما كانت موهبته أن يكتب ما تشعر أنت به فقط، ربما يستطيع كتابته بشكل حرفي أمهر منك آلاف المرات، لكن لن تعلو هامته بجوار صدقك وشعورك الحي بنفسك وبأحاسيسك. داخل كل منا قدرة على الحكي لا يكتشفها إلا إذا قرر بعناد وصلابة أن يزيح عنها كل ما يخفيها أو يبخس قيمتها، لذلك ليس ضروريا أن نكون قادرين على فعل الكتابة بأنفسنا، فمنا من لا يستطع أن ينقش حروفا لأسباب لا دخل له بها، عليه في هذه الحالة أن يسجل ما يريده بأي طريقة، أن يستخدم مسجلا للصوت، أن يستدعي أحد معارفه ليكتب له ما تمليه عليه أحاسيسه، أن يحكي وسط أحبائه فربما يحفظ أحدهم منها شيئا، تماما كما نحفظ الحكايات والأغاني والنكات والأشعار والآيات والأسفار.
***
الكتابة داء ودواء في ذات الوقت، تماما كالحب، لا يمكنك التخلي عنه رغم آلامه، هي أقرب لسلاح ذي حدين، أحدهما يجرحك والآخر يكوي جرحك، وبالقطع لا يمكنك تفادي الجراح، فهي ما تجعلك تشعر بالحياة حلوها ومرها وبجدليتها غير المتناهية بين عناصر متوافقة أحيانا ومتباينة أخرى ومتعارضة معظم الوقت، هكذا تسير الأمور كتابات حزينة وثانية شجية وثالثة مبهجة وأخريات كثيرات معبرات عن حالات شتى. هذا ما يفسر تأثرنا بحالات مختلفة عبر القراءة، فلماذا نطير من السعادة أو نذرف دموعا أو نتأسى أو نشعر برجفة في أوصالنا أو تملؤنا الحماسة والإصرار عند التعرض لقراءة أعمال؟ هذا بالضبط ما أقصده بالداء والدواء، فالكاتب مريض بالكتابة وفعلها مصدر شفائه منها، تظل الأفكار تتفاعل بداخله، وإن لم يطلقها من محبسها بعد أن تنضج فسوف تؤرقه ليل نهار، وبعدها ستتغذى على خلاياه فيصيبه الوهن والاكتئاب لأنه لم يبح بما جال بخاطره. تماما هذا ما نصل إليه عندما نقرأ ما كتبه أي شخص.. يدمينا ويضمدنا في ذات الوقت.. يفرحنا ويبكينا.. يتحفنا ويطرح علينا تساؤلات جديدة.
***
الكتابة عملية قد تظن للوهلة الأولى أنها صعبة ومعقدة، لكنها غير ذلك وإن بدت، وفي كل الأحوال الحل الوحيد لخوض غمارها هو الشروع فيها دون أي تردد.. فاكتب.. لا تتردد.. اكتب كي لا تكون وحيدا.
يناير ـ فبراير 2010
التعليقات
  1. sido كتب:

    أكتب كي تكون سعيدا ،متحررا ، صريحا مع ذاتك ، منبعثا من داخلك ، متبحرا في عالمك ، معبرا عن قدراتك ، تشعر أنك فجرتا ما بي دخلك من مشاعر صادقة و أحاسيس معبرة و أحلام مجرد ما خطها القلم دخلت في برنامجك بدون ما تشعر ، و تعبيرات عن صورة العالم في شخصيتك . فعلا أنجزت عملا اليوم كتبت ثلاثة أسطر ، بعدها آه تنفست نفسا عميقا من أعماق قلبي ، وقلت لماذا أنا لا أكتب لأني لم أكتب منذ عشرة سنوات في آخر إمتحان في الجامعة يالها من عطلة حبست بها عقلي وفكري و ذاتي في سجن الملل و الروتين و الحيرة .
    نشكرك صاحب المقالة على إطلاق صراحنا من هذا الحبس الأليم

    إعجاب

  2. Amr Gawaly كتب:

    ==اكتب بالأساس بلا أي معايير، اكتب لأنك تريد فقط أن تكتب..
    فاكتب.. لا تتردد.. اكتب كي لا تكون وحيدا.==

    اقتبست من عباراتك بالأعلى ما أعجبني جدا. عبارات قصيرة وقوية،، تصيب مرمى القلب بدقة، وأسلوبك سهل جميل مليء بالإحساس الصادق الذي لا يخطئه من كان مبتلً بالحب والأدب.

    صدقت عندما قلت: اكتب حتى لا تكون وحيدا. حقا لا يكون وحيدا من قرر ان يكتب.. كي لا يكون وحيدا..

    تحياتي واتمنى لك المزيد من الانتاج المتميز..

    إعجاب

  3. hind كتب:

    اكتب حين يصبح الكلام ضجرا وتصبح الاحلام قفرا وحين لا يجيبني سوى الدى ان انا صرخت باعلى صوتي اكتب حين تصبح الكلمات فوهة بندقة تطلق رصاص الوحدة لكل هذا اكتب

    إعجاب

  4. Bachir كتب:

    sهل البحث عن معنى الحقيقة يستوجب التوجه باتجاه واحد ام أن كل التوجهات مصدر من طيف نور الحقيقة المركبة كما الأنسان؟

    إعجاب

  5. أعجبنى “بيان الكتابة” الخاص بك, كما أعجبنى أسم المدونة (اكتب كى لا تكون وحيدا ) فهو يلخص الكثير. أعتقد انها مدونة مميزة, سأبدا بمتابعتها. تحياتى لك.

    إعجاب

  6. emaghrapy كتب:

    بسم الله ما شاء الله مدونة ف منتهي الروعه

    إعجاب

  7. asmaa كتب:

    nice words
    very impressive 🙂

    إعجاب

  8. فتاح كتب:

    انت كاتب حقيقي واع باالكتابة…رائع ما خطته يداك….استمر في إتحافنا بهذه التحف….شكرا أيها الجميل من أعماق القلب

    إعجاب

  9. الله بجد على الكتابة وصداقتك لحروفك وكلماتك ،
    بجد انا اسم المدونة دى خلانى فعلاً احب اكتب
    واصبحت الكتابة بمثابة اقرب واوفى صديق ليا
    أشكرك يا رفيق 🙂

    إعجاب

  10. nedal كتب:

    من انت؟؟؟؟؟؟؟

    إعجاب

  11. girltalksloud كتب:

    Writing is a world of its own
    Plz enjoy it 🙂
    wish u all luck in the world
    Zaina

    إعجاب

  12. sara كتب:

    excellent description for this process

    إعجاب

  13. الكتابة عالم الفرار ..من ارض الانام ….

    الكتابة صرخة …تحينا من دياجي الاحزان

    بوق نعزف به الاشجان …لعل الحزن يتبخر
    ويرحل كقطرات المطر ….

    شكوى لاتستطيع قولها للناس …
    ندعاء نبتهل به لله ….

    هي عالم فريد وسط هذا العالم الكبير …
    ….

    إعجاب

تسعدني تعليقاتكم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.