حركة الطلبة في يناير 1972.. عندما انتفض الطلاب المصريون

Posted: 21 جانفي 2011 in مختارات سياسية, خبرات نضالية, عمال وجماهير
الوسوم:, , , , , , , , ,

“اللي عايز يفجر موقف في مصر يلاقي المادة المتفجرة في مكانين: في الطلبة باعتبارهم شباب مندفع لا يتروى في التفكير.. عايز يعيش وعايز يكون له كيان، والمادة الثانية هي العمال”. هذه هي كلمات أنور السادات بعد أسبوعين فقط من انتفاضة يناير 1977. بالطبع لم يكن السادات يقدم بهذه الكلمات -بغض النظر عن نبرتها المتعالية المتعجرفة- تحليلاً موضوعيًا لواقع سمع عنه أو حتى رآه، وإنما كان يفصح عن الهواجس والأشباح التي أقلقت نظامه ووضعته أكثر من مرة، هو ومعه الطبقة التي يحكم بإسمها، أمام اختيارات صعبة.

أحد أهم الاختبارات التي واجهت عهد السادات كانت الانتفاضة الطلابية في يناير 1972 التي اندلعت قبل خمس سنوات بالتمام والكمال من انتفاضة الخبز في 1977. كثفت المظاهرات الطلابية التي اشتعلت آنذاك أزمة النظام وفضحت أكاذيبه، سواء فيما يتعلق بادعائه معاداة الإمبريالية، أو فيما يتعلق بالمسحة الديمقراطية الزائفة التي حاول تجميل نفسه بها كأداة من أدوات تحقيق مصالحة في مواجهة خصومه السياسيين.

نتناول في هذا المقال أحداث يناير 72 التي هزت مصر بفعل النضال الطلابي. وما يحاول المقال أن يؤكده هو أن تلك الأحداث كانت حلقة في سياق تاريخي خاص وفريد اتسم بأزمة النظام وعدم استقراره، على خلفية تحول اقتصادي واجتماعي حاد أدارته الطبقة الحاكمة ظنًا منها أن هذا هو المخرج من مأزق رأسمالية الدولة الناصرية التي عانت خزي الهزيمة العسكرية والهوان السياسي جنبًا إلى جنب مع التراجع الاقتصادي الواضح.

مقدمات الانتفاضة

كانت أزمة الناصرية هي الأرضية التي انطلقت منها كل الحركة الطبقية ـ السياسية التي شهدتها مصر في المرحلة من 1968 وحتى 1977. فمع انهيار استراتيجيات عبد الناصر على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، بدأت حركة جماهيرية جديدة في التبلور في أوساط العمال والطلاب. فبمجرد أن أصدرت محكمة عسكرية أحكامًا مخففة ضد ضباط الطيران المتهمين بالمشاركة في تسبيب هزيمة يونيو 67، خرج عمال حلوان اعتراضًا على الحكام الهزيلة الصادرة. رفع العمال شعارات “لا تسامح مع المذنبين” و “لا اشتراكية بدون حرية”. وتحولت حلوان وشبرا الخيمة إلى مراكز للإضرابات العمالية وتحرك الطلاب من الجامعات ليلاقوا العمال القادمين إلى وسط القاهرة من حلوان.

فيما بعد، وخلال شهري فبراير ونوفمبر 68، تحرك طلاب الجامعات في انتفاضتين متتاليتين، مرة تضامنًا مع العمال المتظاهرين ضد المتسببين في الهزيمة، ومرة أخرى ضد السياسة الجديدة في مجال التعليم التي تقضي بتضييق فرص النجاح في الثانوي وفي الجامعات.

كانت هذه المظاهرات والانتفاضات الصغيرة بمثابة أجراس إنذار للطبقة الحاكمة. فبعد سنوات طويلة من السيطرة السياسية شبه الكاملة، وبعد عهد كامل من الهيمنة، بدأت بوادر الحركة الجماهيرية تلوح في الأفق. وباقتران الحركة من أسفل مع الشروخ التي ظهرت في أوساط رجال الحكم والسلطة، أصبحت هناك ضرورة ملحة للبحث عن استراتيجيات بديلة ولذا، وفي محاولة لتجنب استفحال الأزمة، بدأ النظام في الاعتراف ببعض أخطائه ليختار في الحكومة أهل الخبرة بدلاً من ضباط الجيش وأهل الثقة. وأعطى المزيد من الحريات للطلاب والعمال (بيان 30 مارس) كان خيار النظام آنذاك هو إعادة تمتين البرجوازية للمعركة القادمة من خلال منح بعض الحريات التي تسمح بامتصاص الغضب وإضفاء قدر من الحيوية على البيروقراطية المريضة.

في نفس الوقت، أنشأ عبد الناصر قوات الأمن المركزي عام 1968 لقمع مظاهرات الطبلة والعمال، في علامة أكيدة على أن النظام قد دخل في مرحلة جديدة تمزج بين القمع السافر وهامش من التنازلات المحسوبة. وفيما يتعلق بالمسألة الوطنية ـ مواجهة الإمبريالية والصهيونية ـ أعلن عبد الناصر إشارة البدء لما أطلق عليه حرب الاستنزاف، ورفع شعار تحرير الأرض السلبية. على أن قبوله لمبادرات التهدئة التي قدمتها الإمبريالية الأمريكية ـ مبادرة روجرز ـ عكست الضعف الذي اعترى سلطته واعترافها بدور أكيد للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط، وبالتالي في تدشين أي تسوية مقبلة بين البرجوازيات العربية وبين الدولة الصهيونية.

وعندما أتى السادات إلى السلطة ـ ضعيفًا وناقص الشرعية وفي خضم صراع سلطة استمر قرابة العام ـ استثمر ما فعله سلفه وبنى عليه. فقد لعب لعبة الديمقراطية بحنكة لإضعاف خصومه ثم للإجهاز عليهم في تمثيلية ثورة التصحيح في مايو 1971. ثم أنه أعلن ولائه لهدف تحرير الأرض الذي رفعه عبد الناصر. وفي هذا السياق كانت الأرضية ممهدة لاشتعال الحريق. فها هي السلطة مصابة بالضعف ومليئة بالشروخ والانقسامات، ثم أن أقسامًا من ممثلي التيار اليميني تنفخ في النار وتحاول اقتناص الفرصة محاولة توسيع هامشها في الوجود والصعود.

وقد انعكس هذا كله على الحياة الجامعية في الفترة ما بين 68 وحتى يناير 72. فقد كانت الجامعة في أوج نشاطها في تلك المرحلة. غذ استخدم الطلاب مزيج من الأساليب المختلفة للعمل تنوعت بين المعارض ومجلات الحائط وتكوين الأسر الجامعية وعقد المؤتمرات الطلابية المفتوحة. وكانت مجلات الحائط ـ كما أكد أحد الطلاب ـ هي الصحافة الحرة الوحيدة في مصر أما الأسر الجامعية فلم تشتمل فقط على تلك ذات الصبغة السياسية. وكان أبرزها جماعة أنصار الثورة الفلسطينية التي أنشأها بكلية الهندسة مجموعة من القيادات الطلابية التي سبق لبعضها زيارة المخيمات والمعسكرات الفلسطينية بالأردن. أما بالنسبة للمؤتمرات الطلابية فغالبًا ما كانت تبدأ بمناقشة موضوع معين، وبمواصلة النقاش في جو من الحماس والصوت المرتفع، تتفرع القضايا ويتولد رأي عام منسجم حول مسألتي الديمقراطية وتحرير الأرض.

بدء الانتفاضة

كما أثبتت أحداث التاريخ غير مرة، كثيرًا ما يطرح الطلاب أنفسهم في مقدمة القوى الاجتماعية التي تنيط بنفسها مهمة مواجهة الأزمة الاجتماعية الشاملة التي تلف المجتمع. فبسبب وضعيتهم الطبقية الانتقالية، وفي سياق حساسيتهم الشديدة إزاء أكاذيب الطبقة الحاكمة، يطلق الطلاب في حركة عارمة تلعب دور المفجر للنضال الطبقي. هذا بالضبط ما حدث في 1919، وفي 1935، وفي غيرها من اللحظات في مصر وغير مصر.

وفي مصر في مطلع السبعينات كانت المسألة الوطنية هي القضية الأولى على جدول الأعمال. فقد حسدت هزيمة يونيو 67 أزمة النظام وانهيار مشروعه. ومن ثم التفت حركة الطلاب حول المطالب الوطنية والديمقراطية. وكان لهذا ما يبرره بسبب وضع الطلبة الطبقي الخاص.

ولأن التأزم كان يلف الأجواء، فقد كانت مسالة صغيرة كافية تمامًا لإشعال الحريق. ففي خطابه في 13 يناير 1972 برر السادات عجزه عن الوفاء بوعده في جعل عام 1971 عام الحسم مع إسرائيل باندلاع الحرب الهندية الباكستانية. وادعى أن العالم ليس فيه متسع لاندلاع حربين كبيرتين في آن واحد، وأن الحليف السوفيتي كانت تشغله الحرب الهندية الباكستانية للحد الذي لا يستطيع فيه تقديم مساعدة لمصر، وأن هذه الحالة كالضباب الذي يعيق القدرة على التحرك.

كان طلاب كلية الهندسة بجامعة القاهرة ـ تحت إشراف جماعة أنصار الثورة الفلسطينية ـ قد نظموا قبيل خطاب الرئيس بأيام قليلة معرضًا لمناصرة الثورة الفلسطينية بمناسبة الاحتفال بذكرى انطلاقها. أما بعد الخطاب والغضب الذي أشعله من حجة “عام الضباب”، فقد قرر الطلاب استمرار معرضهم والدعوى إلى مؤتمر موسع في يوم 15 يناير. وبالفعل تم تنظيم المؤتمر، وشهد تعليق فيض من مجلات الحائط والملصقات الحافلة بالتعليقات الناقدة لخطاب الرئيس وللحكومة.

وفي المساء تحول المؤتمر إلى اعتصام.ومع تصاعد الحركة الاحتجاجية، أوفدت الحكومة أمين الباب بالاتحاد الاشتراكي العربي د. أحمد كمال أبو المجد في محاولة للتهدئة ولكنه فشل في مهمته وفي الرد على أسئلة الطلاب مؤكدًا أن الرئيس وحده هو الذي يستطيع الرد عليها. ومن ثم خرج ممثل الحكومة من المؤتمر وسط صيحات الاستهجان والصفير. وسرعان ما انتشرت حالة الغضب الجماعي بين الطلاب وعقدت العديد من المؤتمرات التي كانت تختتم في الغالب بطبع وتوزيع بيانات وتوصيات. وتزايد إصدار مجلات الحائط والملصقات بصورة كثيفة. وأظهرت كل البيانات الصادرة عن مختلف الكليات عدم قبول الطلاب لتبريرات السادات لعدم خوضه “حرب التحرير” وفي مؤتمر عقد بكلية الاقتصاد دعى إلى مؤتمر أكبر داخل الجامعة يوم الخميس 20 يناير. واقترح أحد الطلبة دعوة الرئيس نفسه إلى مؤتمر 20 يناير، “ما دام هو الشخص الوحيد الذي يستطيع الرد على تساؤلات الطلبة”.

وفي 17 يناير نظم مؤتمر طلابي في كلية الهندسة بجامعة القاهرة. في هذا المؤتمر انقسم الطلاب إلى فريقين أولهم اليمينيين من الإسلاميين الذين كانوا متفهمين للرئيس وداعمين لوجهة نظره. أما الفريق الآخر فقد ضم الطلاب اليساريين وغالبية الطلاب العاديين. قد عبر هؤلاء عن غضبهم وحملوا الرئيس مسئولية الأزمة والهوان الذي يعاني منه المجتمع وسرعان ما سادت وجهة نظر هذا الفريق تحت تأثير غضب الطلاب.

أقر مؤتمر 17 يناير اقتراحًا بتشكيل “اللجنة الوطنية العليا للطلاب في جامعة القاهرة” من ممثلين من مختلف الكليات، وطالب بضرورة تسليح الطلاب وتدريبهم عسكريًا، مع وقف كل مبادرات التهدئة (فتح قناة السويس، مبادرة روجرز… ألخ) وأعطى الطلاب الحكومة مهلة مدتها يومان للرد على المطالب الطلابية. وفي ساعة متأخرة من نفس اليوم وضعت مسودة بيان يلخص مطالب الطلاب، ويناشد الرئيس الاستجابة لدعوة الطلاب وحضور المؤتمر المعلن عنه في 20 يناير، وغلا فإن اعتصامًا مستمرًا سينظم داخل الجامعة حتى يستجيب.

أثناء هذه التطورات كان السادات قد بدأ في التحرك باتخاذ إجراءات هدفها التهدئة وامتصاص الغضب. فقد أجرى تغييرات في الحكومة وعين وزير الصناعة عزيز صدقي رئيسًا للوزراء ليرأس ما سمي بـ”وزارة المواجهة الشاملة”. كما عين سيد مرعي (الذي لقبه الطلاب بالإقطاعي لكونه من كبار ملاك الأراضي الزراعية) أمينًا للاتحاد الاشتراكي العربي.

لم تفعل الحكومة الجديدة شيئًا يذكر.فقط أعلنت عن تنفيذ إثنى عشر إجراءًا “حاسمًا” بهدف إعداد اقتصاد البلاد “للمعركة القادمة”! وأعلنت أن الرئيس قرر تنظيم ترشيد للاستهلاك، خاصة فيما يتعلق بمنع استيراد السلع الاستهلاكية وأعلنت أيضًا أن الرئيس قرر العفو عن 12 ألف شخص كانوا قد حرموا من حقوقهم السياسية في عام 1961 أيام قرارات التأميم أما وزير الدفاع فقد أعلن عن فتح باب التطوع للجيش أمام الطلاب، بينما رفضت الحكومة بالطبع فكرة تسليح الطلاب والجماهير لخوفها من العواقب الوخيمة لذلك على طبقتها.

لم يكن مستغربًا أن يعتبر الطلاب إجراءات الحكومة والرئيس محض دجل سياسي لا معنى له. وبالرغم من تجاهل الرئيس للطلاب، تم عقد المؤتمر لمنتظر وحضره حوالي 20 ألف طالب. وكان بعض الطلاب قبلها قد ظلوا محتلين الجامعة طوال الليل. وفي المؤتمر قرر الطلاب إرسال ممثلين لهم لرئاسة الجمهورية لمطالبة الرئيس بالحضور إلى الجامعة للرد على أسئلة الطلاب. وفي بداية المؤتمر تم الإعلان عن تشكيل اللجنة الوطنية العليا للطلاب، تم توسيع اللجنة بتمثيل باقي الكليات التي بدأت كل منها في تشكيل لجنتها الوطنية الخاصة كبديل للاتحادات الطلابية الموالية للحكومة. واختار المؤتمر لجنة لصياغة وثيقة طلابية تضم التوصيات والمطالب التي طرحت في مختلف كليات الجامعة. وبعد أن علم الطلاب أن اجتماعات طلابية أخرى مماثلة تم تنظيمها في بعض جامعات الجمهورية بدءًا بجامعة الأزهر وعين شمس والإسكندرية، أعلنوا عن تقديرهم وشكرهم لنشاط طلاب الجامعات الأخرى التي بدأت في التفاعل مع حركتهم ومطالبها.

وفي المؤتمر أيضًا تم تشكيل وفد طلابي لتوصيل الوثيقة إلى الرئيس في منزله مع دعوته للحضور إلى الجامعة للإجابة على تساؤلات الطلاب. ولكن الوفد لم يتلق أي إجابة شافية من سكرتارية الرئيس، فاستمر الاعتصام لليوم التالي.

في صبيحة اليوم التالي تواصل انعقاد المؤتمر الطلابي بحضور عشرة آلاف طالب. وأرسل وفد جديد إلى رئيس الجمهورية عاد صفر اليدين كسابقه. كما تم إصدار منشور بإسم الطلاب ليوجه لعمال مصر، وذهب وفد طلابي إلى حلوان لتسليم المنشور.

استمرت الاعتصامات والمؤتمرات الطلابية على نفس الوتيرة والحماسة على مدى أربعة أيام متوالية.وكانت تتسم بوجود سيل من البيانات والمنشورات ومجلات الحائط والنقاشات. وفي ضوء استمرار الحركة لم تجد الدولة مخرجًا إلا الكذب واختلاق بيان بإسم طلاب جامعة الإسكندرية يؤيدها ويعلن تأييده لإغلاق جامعة الإسكندرية.كما لجأت الدولة أيضًا بالطبع لزبانيتها خدام ترويج أيديولوجيتها. فبدأت الصحف في ترويج أكاذيبها. ومثال ذلك ما أعلنته الأهرام من أن الرئيس وافق على مقابلة طلاب القاهرة والإسكندرية بناء على دعوة اتحاداتهم الطلابية. كما نشرت الأهرام صورة بالصفحة الأولى لياسر عرفات زعيم منظمة التحرير الفلسطينية يتبادل الحديث مع الطلاب بمقر الاتحاد الاشتراكي العربي. كل هذا بينما تجاهلت الصحف أي إشارة للوثيقة الطلابية، وتجاهلت أيضًا أحداث جامعتي القاهرة وعين شمس، والانتفاضة الجنينية بجامعة الإسكندرية.

بعد أن فشل الطلاب في حث الرئيس على مقابلتهم، وافقوا على صيغة تسوية اقترحا وزير الداخلية ممدوح سالم تشتمل على حضور وفد طلابي كبير إلى مجلس الشعب لتقديم مطالبهم وإنهاء الاعتصام. وبعد أن وافقت اللجنة الطلابية على الاقتراح حضر ثلاثة أعضاء بمجلس الشعب إلى الجامعة وأبلغوا القرار للطلاب وعادوا إلى المجلس للإعداد لاستقبال الطلاب. وخصص وزير الداخلية عددًا من السيارات لنقل وفد الطلاب الذي يمثل كل الكليات والذي بلع عدده 200 طالب.

وفي الاجتماع مع أعضاء المجلس عرض رئيس اللجنة الوطنيةالعليا للطلاب موقف الطلاب. ولكن أعضاء المجلس كشفوا عن همومهم الطبقية الحقيقية. إذ تركزت معظم تعليقاتهم على تملق الطلاب والتهكم عليهم، بينما رفضوا نشر الوثيقة الطلابية بالصحف بحجة السرية في وقت الحرب. وفي نهاية الجلسة تم التوصل إلى اتفاق هو إدخال عدد من التعديلات على الوثيقة حتى تنشر في صحف اليوم التالي في مقابل إنهاء الاعتصام المستمر منذ أربعة أيام.

لم يكن ذلك بالقطع ثمنًا كافيًا لإنهاء الاعتصام. ولكن حركة الطلاب ـ بسبب عدم قدرتها على التوسع في الأوساط العمالية والجماهيرية، وفي سياق عدم وجود قيادة سياسية منظمة ومدربة وموحدة ـ كانت غير قادرة على مواجهة ألاعيب الطبقة الحاكمة. ففي تكنيك تاريخي تستخدمه الطبقات الحاكمة في كل زمان ومكان، تم الاتفاق مع الطلاب على عودتهم للجامعة تاركين اثنين من الطلاب للقيام بالتعديلات بالاشتراك مع الدكتور جمال العطيفي عضو المجلس. وبعد ساعات من المساومات تم الاتفاق على نشر الوثيقة المعدلة. ولكن قبل انصراف الطالبين بدقائق أبلغهم الدكتور العطيفي أنه لن يتم نشر أي شيء، وأن السادات سوف يعقد اجتماعًا مع كل القوى الشعبية ومنهم الطلاب لمناقشة الوضع في غضون يومين تقريبًا! كما أبلغهم ـ في لعبة معروفة تتكرر كل يوم ـ أنه قد وصل وفدًا ثانيًا من الطلاب للمجلس يتبع اتحاد الطلاب حاملاً معه وجهة نظر مختلفة تمامًا!

الانتفاضة تخرج إلى الشارع

لعبت خديعة أعضاء مجلس الشعب دورًا مفجرًا في مسيرة حركة الطلاب. فقد استقبل الطلاب في الجامعة إهانات جمال العطيفي بصيحات هستيرية ضد المجلس الذي أسموه “مجلس المنافقين”. وطرحت دعوة لتنظيم مسيرة إلى وسط القاهرة صباح اليوم التالي. وبالرغم من رفض سلطات الأمن منح الطلاب تصريحًا بالخروج في المسيرة، إلا أن تصاعد الأحداث واشتعال غضب الطلاب فتحا أبواب الجامعة لتنطلق جموع الطلاب إلى ميدان التحرير.

كانت سلطة القمع سابقة قبل الخروج للمسيرة. ففي الساعة السادسة صباح يوم الاثنين 24 يناير اقتحم البوليس بوابات جامعة القاهرة ليقبض على 1500 طالب وطالبة. كما ضرب الطلاب بالعصى المطاطية والهراوات والقنابل المسيلة للدموع. وأغلق الجامعة مانعًا أي أحد من الدخول. كان الاقتحام في كل من جامعتي القاهرة وعين شمس. وبينما استسلمت قيادات الاعتصام في جامعة القاهرة بهدوء، حدثت بعض الصدامات في جامعة عين شمس.

وبرغم قرار إدارات الجامعتين بإغلاقهما وبدء عطلة نصف السنة الدراسية، إلا أن الطلاب تدفقوا في صباح اليوم ليكتشفوا أن زملائهم تم القبض عليهم. فانطلق نحو عشرين ألفًا من الغاضبين إلى وسط القاهرة حتى وصلوا إلى ميدان التحرير. لم يحتج قرار الطلاب بالخروج ـ بمثل هذا العدد ـ إلى نقاش طويل، ولم يحتج أيضًا إلى تصريح. وفي الميدان التحم الطلاب بالمواطنين وعقدوا مؤتمرًا ضخمًا حضره الألوف حول قاعدة التمثال غير الموجود في وسط الميدان واستمر المؤتمر والهتافات طوال اليوم، وتوقف المرور حتى تدخل البوليس مرة أخرى وبدأ في ضرب الطلاب لتملأ دمائهم الميدان. وبدأت في ذات الوقت معركة من نوع آخر، هي معركة تدافع الناس لحماية الطلاب والتضامن معهم. حيث حمل المواطنون الطلاب على أكتافهم وبسياراتهم لإسعافهم.

لم تقنع هذه النهاية الحزينة الطلاب فاندفع آلاف آخرين لميدان التحرير، وأصبح مطلب الديمقراطية والإفراج عن الطلاب والعمال المعتقلين أول مطالبهم. وفي المساء حدث اعتصام آخر بالميدان، وشكلت لجنة مؤقتة لتنظيم الاعتصام، وجذب المشهد الفريد سكان القاهرة الذين حاولوا مساعدة بكل ما في استطاعتهم بدءًا من تقديم الطعام لهم إلى مدهم بالأغطية والبطاطين في برد يناير.

وفي ساعة متأخرة من الليل وجه قائد قوات الأمن المركزي أمرًا بالتفرق إلى الطلاب الذين كانوا ينشدون الأناشيد الوطنية. ثم فرقهم الأمن بالقوة فجرًا بعد رفضهم التفرق وتجمعوا ثانية في مجموعات أصغر بالمنطقة التجارية في وسط القاهرة وهم يهتفون “إصحي يا مصر” واستمرت المظاهرات حتى ظهر اليوم التالي 25 يناير، بينما كان الرئيس يعقد اجتماعًا على مقربة منها في قاعة عبد الناصر بجامعة القاهرة. وفي نفس اليوم ـ وبصفاقة ووقاحة لا مثيل لها ـ أعلن بيان وزارة الداخلية عن الأحداث أن سلطات الأمن قد “حرصت بتوجيه من القيادة السياسية على عدم التدخل تقديرًا للدوافع الوطنية للطلاب، فضلاً عن أن ما ينادون به أجمعت عليه أمتنا قيادة وشعبًا”!

وفي نفس اليوم كانت هناك أنباء من حلوان بحدوث بعض التذمرات بمصنع الحديد والصلب. كما جاءت بعض الرسائل من نفس المنطقة لدعم الحركة. وبحلول المساء كشفت الطبقة الحاكمة عن وجهها الحقيقي القبيح فاعتقلت كل قيادات الحركة بالإضافة إلى القيادات العمالية التي بعثت رسائل التضامن. وفي صباح 26 يناير تم القبض على حوالي 200 طالب من قلب الجامعة وطالبت الحكومة التي لا تفهم سوى خدمة طبقتها كل رؤساء الجامعات بإمدادها بأسماء الطلاب الذين لهم دورًا في قيادة الحركة.

دروس وخبرات

ليس هناك من شك في أن حركة طلاب الجامعات في يناير 1972، وما قبلها وما بعدها من انتفاضات طلابية، كانوا مصادر قلق وتوجس شديد من جانب الطبقة الحاكمة المصرية في تلك السنوات العاصفة. وإذا أردنا شاهد من أهلها يمكننا أن نستمع إلى كلمات وزير الشباب المصري وقتها حينما أكد أن “خروج الشباب إلى الشوارع كان يهدد باتصالهم بعناصر أخرى وإثارة وتفجير قضايا اجتماعية تستثمر متاعب الناس الاقتصادية”. أما هيكل فقد كان يعبر عن هواجس طبقته عندما حذر الطلاب من الخروج إلى الشوارع قائلاً “هنا فيحرم الجامعة تستطيعون مناقشة كل شيء وإبداء كل رأي. أما الخروج غلى الشارع فإنه لا يعطينا الحصانة المطلوبة، لأننا فيه لن نكون وحدنا ولا نضمن أن تسير الأمور على النحو الذي نريده ونرضاه”.

ما الذي أخاف الطبقة الحاكمة إلى هذا الحد؟ ما سر رعبها من حركة طلابية ذات مطالب وطنية وديمقراطية؟ الإجابة واضحة وضوح الشمس: ليس فقط ستؤدي هذه الحركة إلى فضح عجز وهوان النظام، وإنما هي ستفتح الطريق لـ”سياسة الشارع” بما تعنيه من تجذير سياسي طبقي قد يفضي إلى تحطيم سلطة البرجوازية المستندة إلى القمع والقائمة على الاستغلال والتهادن مع الإمبريالية.

ويؤكد بعض المحللين البرجوازيين في هذا السياق أن خشية دولة السادات من انضمام الطلبة إلى جماعات أخرى اقترنت بالخوف من الأثر المحتمل لاعتصامهم على الجيش. وقد يكون بهذا الكلام قدر كبير من لصحة على أساس أن حوالي 70 ألف طالب قد انضموا أو جندوا للجيش بعد 1967 وفي صفوف سلك الضباط بالذات، شكل هؤلاء قوة ضغط كبيرة ومع تجذر الوضع بالجامعات، ومع سيادة الأفكار الراديكالية في أوساط خريجي الجامعات الذين أصبحوا رافدًا أساسيًا من روافد تحديث وتطوير الجيش بعد 67، يكون من الممكن توسع التذمر في صفوف المؤسسة التي يستند غليها الحكم في صيانة سيطرته.

ولكن ليس هذا هو كل شيء فقد كان لخوف الأكبر هو من التحام الحركة الطلابية بالحركة العمالية الصاعدة على قاعدة من النضالات المصنعية آنذاك. وربما يمكننا القول أن عدم التحام الحركة الطلابية بالحركة العمالية، وانحصار تأثيرها بشكل كبير في الأوساط الطلابية، هو السبب الرئيسي لاحتوائها بدون آثار سلبية مباشرة على النظام. حيث وقعت حركة الطلاب أسيرة حدودها الضيقة ولم تستطع أن تهدد السلطة، لا على مستوى المطالب التي لم تتخط الوطني إلى الطبقي، ولا على المستوى العملي.

ومن الصحيح تمامًا في هذا السياق تحميل اليسار المصري المسئولية التاريخية عن هذا الفشل. إذ لا يمكننا فهم صعوبة تخطي السور الفاصل بين الحركتين الطلابية والعمالية، إلا في ضوء تصفية الشيوعيين المصريين لأنفسهم في منتصف الستينات بدعوة ضرورة الاندماج الكامل الكلي في نظام عبد الناصر الوطني الذي يسير في الطريق اللا رأسمالي! لم تكن المسالة في 1972 هي أن المنظمات الراديكالية الطالعة آنذاك فشلت في قيادة الحركة باتجاه الالتحام بالنضال العمالي، وذلك لأن تلك المنظمات ـ بغض النظر عن نقاط قوتها وضعفها ـ كانت أصغر من أن تؤدي تلك المهمة. القضية ـ على خلاف ذلك ـ كانت أن الحزب الشيوعي المصري قد صفى نفسه في 1964 متبعًا استراتيجية انتهازية يمينية، وهو ما عنى أن سنوات الصعود من أواخر الستينات إلى أواخر السبعينات قد حلت دون وجود قوي على اليسار تستطيع أن تجذر وتقود الحركة.

لقد مثلت حركة يناير 72 الطلابية ذروة هامة من ذروات النضال الطبقي في مصر في الأعوام الثلاثين الفائتة وبالرغم من انحسارها ومن فشلها في التوسع، إلا أنها مهدت الطريق للنضالات التي تلت حرب أكتوبر 1973، والتي وصلت إلى أقصى حدودها مع انتفاضة يناير 77. على أن الدرس الأثمن الذي يمكن أن نستخلصه من هذه الحركة هو أن قوى الطلاب يمكنها فقط أن تمهد الطريق للنضال الجماهيري الواسع، أما عبور الجسر من الوطني إلى الطبقي، وإلى وجود قوة سياسية فاعلة لها خبرات عريضة تمكنها من قيادة النضال الطبقي حتى النصر النهائي.

التعليقات

تسعدني تعليقاتكم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.