تهميش المرأة كمبدعة للفن في مصر (2) شاعرات الأغنية

Posted: 10 نوفمبر 2014 in كتابات ثقافية
الوسوم:, , , , , , , ,

ذكرنا في الجزء الأول من مقالنا هذا: أنه باستثناء شاعرات كتبن أغنية أو اثنتين على الأكثر، ولو استثنينا لأسباب الصعوبة البحثية في هذا المقال أسماء مثل: دولت حسن حسنى، وفاطمة عبد المنعم، ووفاء عزيز، وملك محمد، وسكينة حسن، وحورية المانسترلي، وعصمت عبد الكريم، ونجاح الغنيمى، وشريفة فتحي، وزينب محمد حسين، لم يشهد تاريخ مصر الحديث نسبيا سوى أربع شاعرات فقط للأغنية، يمكن الحديث عنهن باستفاضة كتجارب يمكن مناقشتها والقياس عليها، وهن: نبيلة قنديل، وعلية الجعار، وكوثر مصطفى، ونور عبد الله. سنحاول هنا التعرض لتجربة الأربع شاعرات ومحاولة رؤية أوجه الإبداع لديهن، رغم وجود بعض الأغنيات القليلة من تأليف وألحان وغناء عايدة الأيوبي، وهو ما سنتعرض له في جزء تالي من مقالنا.

نبيلة قنديل.. حلاوة شمسنا

بدأت نبيلة قنديل كمنولوجست، واسمها الحقيقي سعاد وجدي ولها عدد من المنولوجات: “على روحك، خير البر عاجله، زوغان، ماله يا ناس، قلبى طب، إسأل نفسك، من أين لك هذا، كنا وكانوا، الحب داريه، ذهب مع الريح، حوشوا يا ناس، كنت وكنا، الناس بالناس، بريه من الناس، مالك ومال الدنيا”. ويبدو أن تغيير اسمها جاء لتحفر في أذهان الناس صورة جديدة كشاعرة مغايرة عن تاريخها كمنولوجست.

تعتبر نبيلة قنديل أولى الشاعرات اللاتي خضن غمار تجربة كتابة الأغنية في مصر بعد جيل العصر الذهبي الثاني للأغنية في النصف الأول من القرن العشرين، وأكثرهن قربا إلى أذن المتلقي، ليس فقط لارتباط اسمها بزوجها الموسيقار الكبير علي إسماعيل الذي لعب دورا بالتأكيد في تقديمها للوسط الفني وبعد ذلك في شهرتها بفضل ألحانه لكلماتها، ولكن أيضا لقدرتها على كتابة العديد من الأغاني المختلفة التي علقت بأذهان المستمعين في مناسبات عدة، مثل أغاني رمضان التي كتبتها وغناها الثلاثي المرح “سبحة رمضان، أهه جه يا ولاد” من ألحان زوجها العظيم علي إسماعيل، وأغنية “هاتوا الفوانيس” التي لحنها وغناها الرائع محمد فوزي. وعدد من الأغنيات الوطنية التي يحفظها العديد من المستمعين مثل “رايحين شايلين في إيدنا سلاح” والتي غنتها المجموعة، و”أم البطل” لشريفة فاضل، علاوة على كتابة أغنيات وطنية رشيقة غير ذاعقة واللاتي تغنين بها الثلاثي المرح كخلفية لرقصات شعبية في فرقة رضا للفنون الشعبية مثل: “حلاوة شمسنا” و”ياللا عندنا رحلة”. كما كتبت العديد من الأغنيات لفنانين وفنانات كبار مثل شادية “رايحة فين يا عروسة” ومحمد فوزي “يا طالع الشجرة” وفايزة أحمد “أبو عيالي” ومحمد العزبي “حتشبسوت”. وبالطبع الأغنية الأشهر في فيلم “الأرض” ليوسف شاهين “الأرض لو عطشانة”.

تجربة نبيلة قنديل الثرية والمتنوعة جعلتها تتربع منفردة على عرش الكتابة النسائية للأغنية المصرية في وقت ازدهارها في الستينيات تحديدا، فما يميز نبيلة ليس غزارة إنتاجها أو منافستها لشاعرات مثل علية الجعار، ولا بالتأكيد دخولها في منافسة مع نظرائها من شعراء الأغنية الرجال وهم كثر، ولكن ما يميزها على وجه الدقة هو بساطتها في التقاط الموضوعات وانتقاء الكلمات المعبرة في لحظات أو مناسبات معينة، وقدرتها على غزل هذا كله لتنتج في النهاية نسيجا رائعا ومتناسقا في آن واحد وسهل الحفظ والترديد بين عامة المستمعين، وبالتالي فنجاح نبيلة مقترن بقدرتها على التواجد بثقل في كافة المناسبات التي تهم الجمهور كافة مثل شهر رمضان، وحروب التحرير الوطنية، والتيمات التي تلفت انتباه وتجذب اهتمام وتثقل وجدان المستمع فيما يمكن أن يكون مثالا حيا للأغنية الشعبية كما ظهر في الأغنيات التي كتبتها للثلاثي المرح.

علية الجعار.. حب الرسول دوبني دوب

ألفت الشاعرة المصرية علية الجعار (17 أكتوبر 1935 ـ 5 مارس 2003) الكثير من الأغنيات الإذاعية، كما كتبت السهرات التلفزيونية في المناسبات الدينية، والمسلسلات المستمدة من التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية وسير الصحابة. ولها ستة دواوين هي: إني أحب، أتحدى بهواك الدنى، غريب أنت يا قلبي، إبنة الإسلام، على أعتاب الرضا، مهاجرون بلا أنصار. أطلق عليها معاصروها ألقابا مثل: ريحانة الإسلام، ابنة الإسلام، خنساء العصر. وكانت الشاعرة علية الجعار ترى أن الأدب مرآة المجتمع يعبر عن قضايا الواقع، ويجسد آلام المجتمع وآماله.

ليس لعلية إنتاجا وفيرا كما لنبيلة قنديل، فالمعروف لها على سبيل المثال أغنية “فرحة رمضان” لشهرزاد، وكتبت لها أيضا أغنية “سمينا.. وعدينا” والتي تغنت بها بعد عبور قناة السويس في حرب أكتوبر 1973، و”أنا مش جاية أترجاك” للمطربة علية التونسية، و”إني أحبه” لسعاد محمد، و”عيش” لأركان فؤاد، و”حب الرسول” لمحمد الكحلاوي، و”يا من نحب” لمها صبري، و”خد بإيدي” لشادية والتي كانت آخر أغنياتها المذاعة.

كتبت علية أغنيات بالعامية المصرية ومنها أغنيات رومانسية خفيفة ومحافظة في نفس الوقت، وربما تركيزها على كتابة الشعر وبالذات المرتبط بقضايا الأخلاق والصوفية من زوايا دينية وبالعربية الفصيحة هو ما جعلها قليلة الإنتاج في مجال كتابة الأغنية عموما، خصوصا أنه وبالرغم من تغني الكثير من المطربين والمطربات بقصائد ملحنة بالعربية الفصيحة، إلا أنها تشغل بالقياس إلى مجمل أعمالهم نسبة محدودة مما قدموه، ولكن لم يكن من بينها أعمالا للشاعرة.

واعتقد أن التفسير الأقرب لفهم ضآلة إنتاجها هو إحجامها بشكل مقصود عن خوض غمار التجربة الغنائية بشكل واسع فيطلب منها كتابة أغنيات لا تتماشى مع توجهاتها المحافظة في الكتابة، والتي تعد بالنسبة لي عنصر ضعف كبير في جودة ما كانت تكتبه، ليس لضعف الموهبة -ربما يصلح هذا كسبب أيضا ولكنه ليس الوحيد- ولكن لتضييق مساحة الحركة في الكتابة كبديل عن رحابة التنوع.

شاعرات الأغنية في الألفية الجديدة

منذ تجربتي نبيلة قنديل وعلية الجعار لم نشهد تقريبا ظهور شاعرات للأغنية في هذا الفضاء الكبير، علاوة على ندرتهن من الأساس. وحتى وقت قريب يمتد لعشرين عاما لم تغزو هذا المجال شاعرات جدد حتى جاءت كوثر مصطفى لتطلق أولى تجاربها مع الفنان الكبير محمد منير في عام 1994. بالتأكيد يعد هذا شيئا محزنا ومثيرا أيضا للقلق أن تختفي النساء من عالم الكتابة لوقت كبير ثم تظهر بتجارب محدودة في العقدين الأخيرين.

وعلى مدار تلك العشرين سنة لم يظهر إلا ما يمكن أن نطلق عليه “شويعرات” كتبن أغنية أو أكثر بقليل ولم ينلن أي شهرة أو اعتزلوا الأمر بعد تجارب لم تصمد أمام قوانين سوق الأغنية. فهناك مثلا حديثا الشاعرة سلمي رشيد من محافظة السويس التي كتبت أغنيه لنجوى كرم باللهجة الخليجية، والشاعرة إكرام هلال، والشاعرة نجلاء فتحي المعروفة بـ”شاعرة الناس”، وهند القاضي التي كتبت أغنية “عنقود العنب” لمحمد منير، والشاعرة إيمان بكري التي كتبت العديد من قصائد الهجاء السياسي وغنى لها فريق مسار إجباري أغنية “مفيش حاجة”.

لكن الأكثر شهرة بينهن كانت الشاعرة نور عبد الله الشهيرة بـ”المحروسة” فقد بدأت مشوارها في كتابة الأغنية مع المغنية ألين خلف في أغنية “عزّ علي”، والتي كتبتها لها عندما كانت صغيرة في عام 2001، ثم كتبت أغنية “عشقاك” لمغنية مغمورة تدعى وسام، وهي طالبة بالجامعة، ثم بدأ الجمهور في التعرف عليها من خلال أغنية كتبتها للمطربة شيرين بعنوان “ما شربتش من نيلها”، حتى غنت لها ريهام عبد الحكيم أغنية في فيلم عسل اسود وهي “بالورقة والقلم” لتضع أقدامها في مجال كتابة الأغنية في مصر حتى وصل بها الأمر إلى تأليف نشيد جديد على غرار “بلادي.. بلادي” ليونس القاضي والذي وضع ألحانه وأنشده خالد الذكر الشيخ سيد درويش. ولنور أغنيات أخرى فقد غنى لها المغني عساف تتر برنامج دعاء عامر “الدين والحياة”، وكتبت أغنية لفريق “واما” وأيضا كتبت أغنيات لحمادة هلال وشمس الكويتية.

والملاحظ أن نور شاعرة متمترسة جدا في كتابتها على موضوع واحد، فأغنياتها عبارة عن حالة مستمرة من الشعور بالمرارة في العيش بوطن يفرط في أبنائه ويقتلهم، مرارة ممزوجة بالحنين لتفاصيله والذي غلب تقريبا على طريقة كتابتها ومن ثم وضعها في قالب غنائي واحد لم تخرج عنه حتى الآن، علاوة على افتقار ما تكتبه عموما للجماليات الفنية والقدرة على التسرب في الوجدان والاستقرار به ليصبح محفورا بالذاكرة ويتجاوز كونه حاله عابرة، وذلك على الرغم من الشعور الذي ينضح بالعذاب والمرارة مثلما وصفته أغنية “بالورقة والقلم”.

كوثر مصطفى.. علي صوتك بالغنا

التجربة الوحيدة في رأيي والتي تستحق لفت الانتباه بالسمع والدراسة في كتابة الأغنية المصرية حديثا صاحبتها بلا منازع هي الشاعرة كوثر مصطفى، التي بدأت الكتابة كشاعرة للعامية المصرية في الثمانينيات من القرن العشرين، ولها ديوان بالعامية بعنوان “حكاية ديل حصان”، حتى التقت بمحمد منير في أولى أعمالهم المشتركة في ألبوم “افتح قلبك- عام 1994” حينما كتبت له أغنيتي “يا با” و”ساح يا بداح”، ثم تجدد اللقاء في ألبوم “ممكن – عام 1995) بثلاثة أغنيات هذه المرة وهن “شتا” و”يا بنت يا للي” و”أجمل حكاية”، ثم التقوا في الألبوم التالي “من أول لمسة – عام 1996” بأغنية واحدة وهي “قلب الحياة”. وغاب العمل المشترك بين كوثر ومنير في ألبومي “الفرحة – عام 1999″ و”في عشق البنات – عام 2000” ليتجدد اللقاء بينهما ثانية في ألبوم “قلبي مساكن شعبية – عام 2001” بأغنيتي “سو يا سو” و”أخرج م البيبان”، وبعدها في ألبوم “أحمر شفايف – عام 2003” بأغنية “بنات” وألبوم “إمبارح كان عمري عشرين – عام 2005” بأغنية “أمر الهوى”، وأخير أغنية “ليالي” في ألبوم “أهل العرب والطرب – عام 2010”.

لم تكن المشاركة بأغنيات في الألبومات فقط هو رصيد كوثر مع منير، فقد قامت بكتابة تجربة كاملة على غرار الشعر الصوفي في ألبوم “الأرض.. السلام” علاوة على مشاركتها أحمد شوقي محرم كتابة بعض الأدعية الدينية التي أنشدها منير من خلال الإذاعة في أحد أشهر رمضان، كواحد من أعلانات شركة اتصالات المصرية. كما كتبت لمنير أغنيات فيلم “البحث عن توت عنخ أمون” و”دنيا” وأغنيات في فيلم “المصير” و”العاصفة” و”الكافير” و”مفيش غير كدة”، كما كتبت أغنيات مسلسلات تلفزيونية مثل “نافذة على العالم” و مسلسل الأطفال الكارتوني “بكار” لمنير أيضا.

لم تكتف كوثر بخروج أغنياتها للنور من خلال صوت محمد منير الشجي والمهيمن في سوق الغناء، لكنها كتبت أيضا أغنيات لمغنيين آخرين أقل شهرة بكثير ولكنهم متميزون مثل: فيروز كراوية، وأمال ماهر، وحنان ماضي.

المتأمل لإنتاج كوثر يكتشف أنه ينم عن موهبة فنية راقية جدا، وتصميم وإرادة واعيين على خوض غمار تجربة كتابة الأغنية في ظل هيمنة على سوق الغناء من شعراء لهم أوزان وهامات كبيرة، أو من آخرين يتلاعبون بمفردات ولغة السوق الغنائي ويقدمون ما يتطلبه حتى لو وصل ما يكتبونه إلى حد الإسفاف. الأهم أيضا في رأيي أنها صوت يغرد منفردا ويمتلك القدرة على شق هذا الفضاء الواسع ويجد لنفسه صدى حقيقي في آذان المستمعين ليحتل مساحته التي يستحقها عن جدارة. فما تكتبه كوثر هو نوع من مداعبة الحلم الإنساني ومحاولة خلق مساحة لتحققه في عالم يفيض بالآلام والضغوط النفسية الرهيبة التي يتحملها البشر وهم راضون بنعمة الحياة، ولكنهم يثابرون لتغيير عالمهم ليصبح أكثر تفهما لهم ولاحتياجاتهم الطبيعية أملا أن يصبح يوما ملكا لهم وينضح بإنسانيتهم.

لا تكتف كوثر بالانشغال بالحلم الإنساني الواسع كما بدا في أغنيات “ساح يا بداح، قلب الحياة، أخرج م البيبان” ولكنها تجسده في آلام شخص دارت به الحياة بتقلباتها ليمر بتجارب عسيرة كما في أغنية “الشتا” لمنير، أو بالحديث عن أحوال جنسها وأحلامهم وتطلعاتهم للحرية والحب والتحقق، كما جاء في أغنيات “ليه الصبايا، بنات، يا بنت ياللي بتغزلي قفطانه” لمحمد منير، و”شدي الضفاير” لحنان ماضي.

اعتقد أن تجربة كوثر، رغم بعض الهنات في أغنيات قليلة، هي الوحيدة منفردة التي تصارع لوضع موطئ قدم للشاعرات في مجال الكتابة للأغنية، ولكنها رغم جودتها ستظل حالة وحيدة لن تقوى إلا بدخول شاعرات جدد هذا المجال والدفاع عن استمرارهن، والبقاء والمنافسة لإخراج أجمل ما لديهن ليحققن مكسبا لهن يدعم شرعية تواجدهن ومكسبا للأغنية نفسها كإضافات لها تثريها وتخلق بها مساحات من التنوع.

تسعدني تعليقاتكم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.